قامت رئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” بزيارة رسمية للجزائر، في 22 – 23 يناير 2023، في أول زيارة لها منذ توليها منصبها كرئيسة للحكومة الإيطالية في شهر أكتوبر الماضي. وتهدف الزيارة بشكل رئيسي إلى سعي إيطاليا لتعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الجزائر وضمان إمدادات الغاز الطبيعي، إذ تسعى إيطاليا لتصبح مركز تسويق الغاز الجزائري في أوروبا، وإقامة شراكات في قطاعات اقتصادية هامة كالصناعة والطاقة المتجددة، والاستفادة من الخبرات الإيطالية في مجال بناء السفن، فضلاً عن وقف تدفقات الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب العابر للحدود، وخاصة التنظيمات النشطة في منطقة الساحل.
فقد استقبل رئيس الحكومة الجزائرية “أيمن بن عبد الرحمن” ووزير خارجيته “رمطان لعمامرة” رئيسة مجلس الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” التي توجهت إلى العاصمة الجزائرية على رأس وفد رفيع المستوى ضم عدداً من أعضاء الحكومة الإيطالية، في زيارة رسمية تستغرق يومين من 22 إلى 23 يناير 2023.
زيارات متتالية
وتعد هذه الزيارة الأولى التي تقوم بها “ميلوني” للجزائر منذ توليها منصب رئيسة الحكومة الإيطالية في شهر أكتوبر الماضي، كما أنها الزيارة الثالثة من نوعها التي يجريها رئيس الحكومة الإيطالية في فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز عاماً (تسعة أشهر)، حيث كانت آخر زيارة قام بها رئيس الحكومة الإيطالية “ماريو دراغي” قبل ستة أشهر تقريباً في شهر يوليو الماضي بمناسبة انعقاد القمة الثنائية رفيعة المستوى الرابعة بين البلدين، وقبلها قام “دراغي” أيضاً بزيارة للجزائر في أبريل 2022، هذا إلى جانب أن هذه الزيارة جاءت عقب زيارة الرئيس “عبد المجيد تبون” لإيطاليا في مايو 2022، وذلك بعد الزيارة التي قام بها نظيره الإيطالي “سيرجيو ماتاريلا” للجزائر في نوفمبر 2021، وهو ما يعكس حرص رئيس الحكومة الإيطالية على تعزيز العلاقات الثنائية مع الجزائر.
كما تُعد هذه الزيارة هي الثانية من نوعها التي تقوم بها رئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” خارج البلاد لدولة عربية منذ توليها منصب رئاسة الحكومة، حيث قامت بزيارة العراق في ديسمبر الماضي، والجزائر هي الوجهة الخارجية الأولى للسيدة “ميلوني” في منطقة شمال أفريقيا والمغرب العربي، وهو ما يعكس توجهات السياسة الخارجية للحكومة الإيطالية الجديدة والتي ترتكز على تحقيق المصالح الوطنية للبلاد وتضعها على قائمة أولوياتها.
كما جاءت هذه الزيارة في أحد أبعادها لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، وذلك من خلال إعلان السفارة الإيطالية لدى الجزائر عن التعاون والتنسيق بين “الاتحاد الصناعي لمدينة نابولي” (UIN) وبالشراكة مع “نادي المقاولين والصناعيين لمنطقة المتيجة” (CEIMI) لعقد منتدى الأعمال الإيطالي الجزائري المقرر عقده في 25 يناير الجاري بمدينة نابولي الإيطالية، وذلك في إطار تعزيز علاقات التعاون والشراكة الاقتصادية بين الجزائر وإيطاليا خارج قطاع المحروقات.
مصالح متبادلة
تكتسب زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية للجزائر أهمية خاصة نظراً لما تسعى إليه كل من إيطاليا والجزائر لتحقيق مجموعة من الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- تمتين الشراكة الاستراتيجية، إذ تعمل الجزائر وإيطاليا على تكثيف تعاونهما الثنائي وصولاً إلى نوع من الشراكة الاستراتيجية، لتمتد أوجه التعاون بينهما إلى التعاون على المستوى الإقليمي، نظراً لقربهما الجغرافي، مما يدعو للمزيد من التقارب للتشاور حول مختلف الملفات ذات الاهتمام المشترك، من الطاقة إلى الشراكة الاقتصادية مروراً بالعلاقات السياسية والملفات الأمنية، مثل: مكافحة الإرهاب، والحد من الهجرة غير الشرعية.
2- ضمان إمدادات الطاقة، تعكس زيارة “ميلوني” للجزائر في التوقيت الحالي الحرص الإيطالي على ضمان الحصول على احتياجاتها من الغاز الطبيعي، حيث أصبحت الجزائر المورد الأول للغاز والشريك الرئيسي لإيطاليا في إفريقيا، وذلك في ظل الاتفاق بين روما والجزائر على زيادة إمدادات إيطاليا من الغاز إلى أكثر من 25 مليار متر مكعب بنهاية عام 2022. ووفقاً للإحصائيات المتاحة فقد استوردت إيطاليا ما مجموعه 22.1 مليار متر مكعب من الغاز خلال الفترة الممتدة من 1 يناير إلى 13 ديسمبر 2022 عبر خط أنابيب “ترانسميد”، فيما تسعى إيطاليا لرفع هذه الكمية لتسعة مليار متر مكعب أخرى للوصول إلى 30 مليار متر مكعب سنوياً.
فقد صرح “كلاوديو ديسالزي”، الرئيس التنفيذي لشركة “إيني إس بي إيه” مؤخراً، بأن إمدادات الغاز الإيطالية أكثر أماناً في الشتاء المقبل، وأن إيطاليا سيكون لديها ما يكفي من الغاز في عامي 2023 و2024 بدون انقطاعات إذا تمكنت من زيادة الواردات من الجزائر، وهو ما دفع روما للتأكيد على ثقتها في الجزائر كشريك رئيسي مضمون في توفير احتياجاتها من الطاقة، على نحو يدفع الجزائر لأن توقع مزيداً من الاتفاقيات مع “إيني” الإيطالية لزيادة الإنتاج، هذا إلى جانب الاتفاق على تصدير الطاقة الكهربائية إلى إيطاليا، خاصة وأن الجزائر أصبحت تحقق فائضاً من الطاقة الكهربائية يقدر بحوالي 8 ميجاواط، حيث تنتج 25 جيجاواط وتستهلك 17 جيجاواط فقط، ومن المقرر أن تشهد الزيارة قيام الرئيس “تبون” بطرح تصدير الكهرباء عبر إنشاء كابل بحري بين البلدين.
3- تعظيم المكاسب الاقتصادية، جاءت هذه الزيارة في إطار السعي الإيطالي لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الجزائر، وذلك بمتابعة تنفيذ ما تم توقيعه من اتفاقيات للتعاون المشترك خلال العام (2022). ففي منتصف شهر أكتوبر الماضي تم التوقيع على اتفاقية إطار بين وزارة الصناعة والمجمع الإيطالي لصناعة السيارات من علامة “فيات” التابعة لمجمع “ستيلانتيس” من أجل تنفيذ مشروع إنتاج سيارات سياحية ونفعية ذات الوزن الخفيف بولاية “وهران” غرب الجزائر العاصمة، وهذا المصنع من شأنه منح الشركة الإيطالية حصة هامة من السوق الجزائرية، في ظل تقليص البلاد وارداتها من السيارات الجديدة منذ عام 2017، مما أدى إلى إيجاد طلب فاق العرض وضخم الأسعار. وفي هذا الإطار، يمثل ملف تصنيع السيارات الإيطالية بالجزائر أحد الرهانات الحقيقية لزيارة “ميلوني” لتنويع الشراكة بين البلدين خارج قطاع الطاقة، ومن المنتظر أن يتم الكشف في 19 مارس المقبل عن سيارات “فيات” الإيطالية المصنعة في “وهران”، وسيتم تسويقها قبل نهاية العام الجاري.
4- تعزيز الصناعات الوطنية، حيث تم التوقيع على مذكرات تفاهم للتعاون في مجالات الصناعات التقليدية والصناعات الصيدلانية وقطاع المقاولات وتطوير الاستثمار والوقاية من الفساد ومكافحته، وأيضاً في مجال الأشغال العمومية والمؤسسات الناشئة والتعاون الصناعي والطاقوي والطاقات المتجددة والتنمية الاجتماعية والتضامن. وفي هذا السياق، تسعى إيطاليا لزيادة حجم التبادل التجاري مع الجزائر الذي يبلغ حوالي 10 مليارات دولار في عام 2022، منها 8 مليارات دولار واردات إيطالية من الغاز الجزائري. وفي عام 2021، بلغت قيمة المبادلات التجارية بين إيطاليا والجزائر ما يعادل 7.33 مليارات يورو، منها 5.57 مليارات من الصادرات الجزائرية و1.76 مليار من الواردات.
5- جذب الاستثمارات الإيطالية، تسعى الجزائر لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية في اقتصادها الوطني، والتي تبلغ قيمتها حوالي 7.46 مليارات دينار جزائري وفقاً لتصريحات رئيس الحكومة الجزائرية “أيمن بن عبد الرحمن” في يوليو الماضي خلال افتتاح المنتدى الاقتصادي الجزائري الإيطالي، وهي استثمارات ضعيفة للغاية مقارنة بالتقارب السياسي الحاصل بين الدولتين، وذلك من خلال توجهها الاقتصادي الجديد إلى جلب استثمارات جديدة بمختلف القطاعات من خلال قانون الاستثمار الأخير الذي تضمن تسهيلات للمتعاملين الأجانب، في محاولة لتخليص اقتصاد البلاد من هيمنة عائدات المحروقات على مداخيله وموازنته العامة لتنويع مصادر الاقتصاد الجزائري.
6- الاستفادة من الخبرات الإيطالية في مجال بناء السفن، حيث جاءت الزيارة في ظل السعي الجزائري للاستفادة من الخبرات الجزائرية في مجال بناء السفن وتوظيف ذلك لتعظيم المكاسب الاقتصادية الجزائرية. وشهدت الزيارة اتفاق الدولتين على تعزيز التعاون بين شركة “فين كانتييري” للصناعات البحرية الإيطالية، وقاعدة “المرسى الكبير” بالجزائر، لتنفيذ مشروع لبناء أطول بواخر للصيد لمساعدة الجزائر على صيد كميات كبيرة من سمك التونة الموجودة في بحارها.
7- وقف تدفقات الهجرة غير الشرعية، شملت الزيارة مناقشة قضية الهجرة غير الشرعية باعتبارها إشكالية تؤرق الحكومات الإيطالية المتعاقبة. وفي هذا الإطار، تبرز الجزائر دورها في الحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية عبر السواحل الجزائرية باتجاه الجنوب الإيطالي، ولذلك تم التأكيد على أهمية تنفيذ الاتفاق الموقع مع وزارة الداخلية الإيطالية للتعاون بين شرطتي البلدين في مجال مكافحة الإرهاب والاتجار غير المشروع بالمهاجرين، حيث أعلنت الجزائر التزامها بمراقبة حدودها وسواحلها، وتقوم بالتنسيق مع سفارتها لدى إيطاليا لتحديد هوية المهاجرين غير الشرعيين الذين يتم إيقافهم في “سردينيا” جنوب إيطاليا. وقد تضمنت زيارة “ميلوني” للجزائر متابعة مشروع الاتفاق الأمني بين الجزائر وإيطاليا بشأن حركة الأشخاص والتوقيع عليه لإدخاله حيز التنفيذ.
8- مكافحة الإرهاب العابر للحدود، تُعد قضية مكافحة الإرهاب من القضايا التي تحظى باهتمام مشترك بين الجزائر وإيطاليا، فإيطاليا تدرك الخبرات الأمنية والعسكرية التاريخية للجزائر في مجال مكافحة الإرهاب، وتتطلع إيطاليا للحفاظ على الاستقرار الأمني والسياسي في الجزائر ضد مخاطر التنظيمات الإرهابية المتصاعدة في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما تمت مناقشته خلال زيارة “ميلوني” للجزائر.
دلالات هامة
احتوت زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” للجزائر مجموعة من الدلالات، من أبرزها ما يلي:
أولها: تسويق الغاز الجزائري في أوروبا، تعكس الزيارة في أحد جوانبها أن تصبح إيطالياً مركزاً لتسويق الغاز الطبيعي الجزائري ومنها إلى دول أوروبية أخرى، حيث تسعى إيطاليا لأن تصبح مركزاً للطاقة، ليس فقط للغاز ولكن في المستقبل أيضاً للهيدروجين الأخضر في البحر الأبيض المتوسط، والذي يعمل كجسر بين قارتي أفريقيا وأوروبا، وهو الدور الذي كانت تطمح إليه إسبانيا، ويؤكد على ذلك تصريحات السفير الجزائري لدى إيطاليا “عبد الكريم طواهرية” التي أشار خلالها إلى أن إيطاليا تعد الشريك “الطاقوي” الأول للجزائر، ويعزز من ذلك الوضع حجم الاتفاقيات الموقّعة بين الجانبين، بما في ذلك اتفاقيات التعاون بين شركتي “سوناطراك” الجزائرية و”إيني” الإيطالية للبحث والتنقيب عن آبار النفط والغاز الطبيعي في جنوب الجزائر.
ثانيها: التوافق تجاه الأزمات الإقليمية المثارة، حيث تتوافق رؤى كل من الجزائر وإيطاليا تجاه الأزمات المثارة في المنطقة وعلى رأسها الأزمة الليبية، حيث تؤيد كل منهما حكومة “عبد الحميد الدبيبة”، كما تؤيدان إجراء انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية بما يسهم في تسوية الأزمة الليبية سياسياً والتوصل إلى حل سياسي شامل بين كافة الأطراف الليبية. كما ينطلق الموقف الإيطالي تجاه الأزمة الليبية من خوفها من استمرار الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة في ليبيا بما يترتب عليه تزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين إليها ومنها إلى أوروبا، وبالتالي تسعى إيطاليا إلى ضمان الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا.
ثالثها: موازنة الدور الفرنسي في المغرب العربي، مما لا شك فيه أن إيطاليا تسعى لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع الجانب الجزائري بما يسهم في تعزيز الدور والنفوذ الإيطالي في الجزائر ومنطقة المغرب العربي وشمال أفريقيا بصفة عامة، في محاولة لموازنة الدور الفرنسي المتراجع في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية، وذلك رغم المحاولات التي يبذلها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لاستعادة نمط علاقات التعاون مع الجزائر، إلا أن الإرث التاريخي يصب في صالح الطرف الإيطالي عند المقارنة بفرنسا. وفي هذا الإطار، فإن المجال أصبح واسعاً أمام إيطاليا لتعزز شراكاتها السياسية والاقتصادية بديلاً للشريك الفرنسي والإسباني في ظل توتر العلاقات الدبلوماسية مع كل منهما، وإن كان أكثر مع الجانب الإسباني بسبب موقف مدريد من الصحراء المغربية، وتعليق الجزائر معاهدة الصداقة والعلاقات التجارية مع مدريد.
الخلاصة، تكشف زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية “ميلوني” للجزائر عن تبنيها نفس السياسة الخارجية التي تبناها سلفها “ماريو دراغي” تجاه الجزائر، والتي تهدف إلى إقامة علاقات استراتيجية معها بصفتها المورد الأول للغاز الطبيعي لإيطاليا، وذلك رغم أن الحكومة الحالية يمينية متطرفة، كما تشير إلى أن ضمان إمدادات الغاز والمكاسب الاقتصادية للجزائر وإيطاليا لن تتأثر بالتوجهات الأيديولوجية.