تصعيد التوتر:
ما تداعيات تسليح قبائل الشرق على جوار السودان؟

تصعيد التوتر:

ما تداعيات تسليح قبائل الشرق على جوار السودان؟



تصاعد الحديث في الآونة الأخيرة بشأن تسليح قبائل إقليم شرق السودان، وهو ما يأتي ضمن الأحداث التي تُثير تساؤلات متعددة حول دلالة الظهور العلني لقيادات النظام السابق في شرق السودان، وهل يُمثل الإقليم ملاذاً آمناً لهذه القيادات، أم سيكون ساحة حرب جديدة، يُمكن أن تتحول إلى حرب أهلية؟ ومن ثمّ ما تداعيات ذلك على الجوار الإقليمي للسودان من جهة الشرق؟.

إذ يمثل إقليم شرق السودان جغرافياً حدود السودان مع إثيوبيا وإريتريا ومصر، وهو إقليم يتميز بموقع استراتيجي يُطل على البحر الأحمر، لا يجعل منه المنفذ البحري الوحيد للسودان فحسب، عبر بورتسودان (البوابة الرئيسية للتجارة الخارجية، بما في ذلك النفط)، ولكن أيضاً لعدد من الدول مثل جنوب السودان وإثيوبيا وتشاد.

ويبلغ عدد سكان الشرق حوالي 6 ملايين نسمة، نصفهم تقريباً من قبائل البجا التي تشمل قبيلتي الهدندوة والأمرار، إضافة إلى قبائل بني عامر والرشايدة، وهي قبائل عربية تمتد بين السودان وإريتريا، وكذلك قبائل البشارية التي تمتد بين السودان ومصر، فضلاً عن قبائل العفر وبني شنقول التي تمتد بين السودان وإثيوبيا. وتتحدث معظم قبائل شرق السودان لغة واحدة أصلها “كوشي”، باستثناء بني عامر الذين يتحدثون “التيغراي”، ويُنظر إليهم بوصفهم وافدين على السودان.

أزمة موروثة

وتأتي أزمة الشرق ضمن الأزمات الموروثة عن حقبة نظام البشير، وما تركه وراءه من أزمات اقتصادية وتنموية واجتماعية، تضرب بجذورها في ثنايا المجتمع السوداني. فرغم مساهمة الإقليم الكبيرة في عائدات الموانئ، فضلاً عن صادرات الثروات الطبيعية، وفي مقدمتها الذهب؛ إلا أنه ظل يُعاني، طوال سنوات عديدة، من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، نتيجة التهميش السياسي والاقتصادي والتنموي، مما حدا ببعض أبنائه إلى المطالبة بالانفصال عن الدولة الأم، على غرار انفصال الجنوب عن السودان، في يوليو 2011.

وكان إقليم شرق السودان قد شهد صراعاً بين قبائل بني عامر والحباب من جهة، وقبائل البجا والهدندوة من جهة أخرى، نظراً للصراع على الحقوق التاريخية في الإدارة والموارد الخاصة بالإقليم. ورغم التوصل إلى اتفاق حول الشرق، منذ عام 2006، في إريتريا، كان هدفه دعم التنمية في الإقليم؛ إلا أن الاتفاق لم يُفْضِ إلى شيء، بسبب سياسات نظام البشير، مما أعاد إنتاج نفس الأزمة. وفي أعقاب سقوط البشير، ونظامه، عادت المواجهات القبلية مرة أخرى، على مدار العامين الماضيين، بين بني عامر والهدندوة، وبين الأولى والنوبة.

ولعل ذلك ما يطرح التساؤل حول التأثيرات السلبية التي يمكن أن تنتج عن تسليح قبائل إقليم شرق السودان، وتداعياتها ليس على الداخل السوداني فقط، ولكن أيضاً على دول جوار شرق السودان.

تأثيرات سلبية

لعلّ أهم التأثيرات السلبية على تسليح قبائل شرق السودان، تبدو عبر أكثر من احتمال، سواء عبر إمكانية اندلاع حرب أهلية في الإقليم، أو التأثير على مسار الصراع في السودان بين الجيش والدعم السريع، أو من خلال احتمال أن يُصبح شرق السودان منطقة صراع إقليمي.. وغيرها. وتتمثل أهم هذه التأثيرات في:

1- تنامي التناحر السياسي والمجتمعي على أساس قبلي: فقد أدى توظيف نظام البشير للقبيلة، من خلال تعمد تسييس القبائل، ومحاولة خلق كتلة قبلية موالية له في شرق السودان، إلى تفاقم الاستقطابات المجتمعية، والمساهمة في تنامي الشعور بالهوية القبلية على حساب الهوية الوطنية، وهو ما أدى إلى جعل القبيلة أساساً للتناحر السياسي والمجتمعي، واتخاذ الصراع في الإقليم الشكل القبلي، في شقيه الاجتماعي والاقتصادي.

وقد تجلّى ذلك في استمرار مطالب الحكم الذاتي وتقرير المصير، وهي المطالب التي تتصاعد من آن لآخر، في إطار المساعي لحسم القضايا التنموية والصراع على الموارد، بين قبائل الإقليم، سواء بين سكان الإقليم الأصليين، أو بينهم وبين الوافدين عليهم من أقاليم السودان الأخرى، مثل مجموعات من قبائل المساليت والفور والهوسا، إضافة إلى الزغاوة. ونتيجة للتهميش الذي عانى منه الإقليم، فقد اتجهت بعض مجموعاته القبلية إلى تبني العمل المسلح ضد “المركز” في العاصمة الخرطوم، مثل حزب مؤتمر البجا، وجبهة أسود الشرق.

2- تصعيد النزاع القبلي إلى خطر الحرب الأهلية: إذ إن ظهور قيادات النظام السابق في شرق السودان، يستهدف محاولة استنفار قبائل الإقليم للانخراط في الصراع الذي يشهده السودان حالياً، والوصول إلى توسيع رقعة الحرب وتمددها إلى الشرق، عبر مشاركة القبائل والمليشيات المسلحة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الحرب الأهلية، خاصةً في ظل التنوع القبلي، وتاريخ التناحر بين مكونات الإقليم.

ولعل هذا الاحتمال يتبدى بوضوح من خلال الحالة الأمنية الرخوة التي يُعاني منها شرق السودان، إضافةً إلى ما يتوافر لدى الإقليم من كميات كبيرة من الأسلحة المتنوعة، التي تدفقت إليه من دول الجوار الجغرافي والإقليمي، خلال الصراع القبلي الذي نشب قبل عامين، بما يجعل القبائل المتنازعة على استعداد للدخول في الصراع الدائر، منذ 15 أبريل الماضي، بين الجيش وقوات الدعم السريع.

3- تحوّل شرق السودان إلى مسرح للاستقطاب والمواجهة السياسية والعسكرية: حيث إن الدعوات إلى التسليح العشوائي للقبائل، أو اللجوء إلى تشكيل مليشيات مسلحة، في إقليم الشرق، بهدف دعم الجيش في صراعه مع قوات الدعم، يجعل من السودان منفتحاً على أكثر الاحتمالات سوءاً في تاريخ الصراعات الداخلية التي شهدها السودان على مدار تاريخه الحديث.

فمثل تلك الدعوات، ونتائجها، لن تُساهم في الحسم العسكري الذي يأمله الطرفان المتحاربان، بل على العكس ستؤدي إلى حرب أهلية واسعة، في ظل العصبية القبلية التي تُهيمن على النسيج المجتمعي في الإقليم. إذ إن الموقف المؤيد للجيش، من جانب محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا، سيدفع القوى القبلية الأخرى، خاصة التي لها تاريخ من النزاع مع قبائل البجا، مثل بني عامر والرشايدة، إلى مساندة قوات الدعم السريع، من حيث إن لها مصالح معها.

وبالتالي، تكون النتيجة أن يتحول شرق السودان إلى مسرح للاستقطاب والمواجهة السياسية والعسكرية بين الطرفين المتصارعين في السودان، فضلاً عن الاصطفاف الذي سيحدث على خط التوتر القائم في الأصل بين المجموعات القبلية، سواء من تعتبر نفسها مجموعات أصلية في الإقليم، أو تلك التي تُصنف على أنها وافدة. ويكفي دليلاً على ذلك، المسيرة التي تم تنظيمها في بورتسودان، ودعت الجيش، في 9 مايو الماضي، إلى تزويد المدنيين بالسلاح لدعمه في المعارك الدائرة.

4- تزايد الانفلات الأمني في ظل الحدود الرخوة: فاندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم قد فرض مناخات سياسية جديدة، واستفهامات حول مستقبل شرق السودان، في إطار تعاظم مهددات وحدة البلاد وتفاقم مخاطرها. فالشرق، بما يتميز به من خصوصية جيوسياسية، لا ينفتح فقط على تداعيات المشاهد الداخلية في دول الجوار، خاصة إثيوبيا وإريتريا، ولكن أيضاً على تفاعلات صراعات النفوذ الدولي حول سواحل البحر الأحمر، وهو الأمر الذي قد يؤدي، في ظل التمدد والارتباط القبلي جغرافياً، والاحتمالات القائمة حول مستقبل السودان، إلى حرب قد تتطاير شظاياها إلى الجوار الإقليمي.

ومن الملاحظ أن بعض مكونات الشرق لها امتدادات في إريتريا وإثيوبيا، وهذا التمدد والارتباط القبلي جعل من شرق السودان حاضنة اجتماعية لكثير من حركات المعارضة لأنظمة الحكم في إثيوبيا، وكذلك لحركات التحرير الإريترية في حربها ضد إثيوبيا. أضف إلى ذلك أن انفتاح الحدود والاستيعاب المستمر للعناصر الوافدة إلى الداخل في شرق السودان، فضلاً عن الانفلات الأمني في بعض دول الجوار بتسهيل الحصول على السلاح، كان قد تسبب في تفاقم الأوضاع، خاصة في ظل الدعم الخارجي، المعنوي والمادي، لمكونات قبلية بعينها، بتمويلها وتسهيل حصولها على السلاح، مما دفع بالمكونات القبلية الأخرى إلى التسلح دفاعاً عن وجودها.

5- تحول الشرق السوداني إلى منطقة صراع إقليمي: رغم أن أزمة إقليم شرق السودان هي بالأصل صناعة محلية، إلا أن التدخلات الإقليمية من دول جوار السودان، ساعد على تموضع هذه الدول، خاصة إريتريا وإثيوبيا، في عمق الاختلافات المجتمعية في الداخل السوداني. إن دولة مثل إريتريا، نجحت في محاولتها خلق ولاء لبعض المجموعات الحدودية، بما مكنها من استغلال إمكانيات إقليم شرق السودان الاقتصادية لصالح بقائها خارج منظومة التجارة الدولية. هذا، فضلاً عن المحاولات الإثيوبية في استغلال التوتر الأمني في الإقليم، لغزو بعض مناطق الفشقة الحدودية.

أضف إلى ذلك أن صراعات النفوذ والهيمنة الدولية والإقليمية، على سواحل البحر الأحمر، لا تنفصل عن الأزمة السودانية عموماً، والتفاعلات القبلية ومحركات الصراع في شرق السودان على وجه الخصوص. ويعود هذا إلى رغبة كل من روسيا وتركيا وإيران في إيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، عبر استغلال إشكاليات التناحر القبلي، لتفعيل الاتفاقات السابقة مع نظام البشير، بشأن إنشاء قواعد عسكرية في بورتسودان أو ميناء سواكن.

احتمالات مفتوحة

في هذا السياق، يُمكن القول إن غياب الأفق لحل سلمي عبر طاولة التفاوض، بين الطرفين المتقاتلين، سوف يؤدي إلى أن يطل الصراع في السودان على كافة الاحتمالات، إذ إن دعوات أصحاب الحرب والعنصرية، بل واختصار السودان في دولة البحر والنهر، قد تُعيد ترتيب القوى والاصطفاف القبلي في شرق السودان. وفي ظل عدم تمكن القوى الاجتماعية في الشرق من تجاوز خلافاتها التاريخية، فإن تسليح القبائل في الإقليم، يطرح اثنين من السيناريوهات: إما تكرار سيناريو “دارفور”، أو تكرار سيناريو “انفصال الجنوب”، وهو ما يجعل مستقبل السودان كدولة على المحك.