عندما بدأت المفاوضات بين إيران وقوى مجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة، في 6 أبريل 2021، بدت إيران حريصة على أن تكون المفاوضات حصراً حول الاتفاق النووي ولا تمتد إلى الملفات الأخرى، مثل الدور الإقليمي والبرنامج الصاروخي. وعندما قاربت المفاوضات على الانتهاء، انتقل هذا الحرص إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي أكدت بدورها أهمية الفصل بين الصفقة النووية المحتملة وبين القضايا الإقليمية، بما يعني سعيها إلى منع إيران من استغلالها لتعزيز حضورها في المنطقة.
جاء توجيه وزارة العدل الأمريكية، في 10 أغسطس الجاري، اتهاماً رسمياً إلى شهرام بورصافي، القيادي في “الحرس الثوري” الإيراني، في الولايات المتحدة الأمريكية بالتخطيط لاغتيال مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون في توقيت حرج جداً بالنسبة لإيران. إذ إن الأخيرة تعكف في الوقت الحالي على دراسة مسودة الاتفاق النووي التي عرضها منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قبل أن تعلن موقفها منها. كما أنها -في الوقت نفسه- تواجه اتهامات من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة بدعم الإرهاب والتدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة بشكل فرض تهديدات مباشرة لأمنها ومصالحها، وأدى إلى تفاقم حدة الأزمات في دول الصراعات، وهي الاتهامات التي اكتسبت أهمية وزخماً خاصاً خلال الجولة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة من 13 إلى 16 يوليو الفائت.
وكان ماثيو غرايفز المدعي العام لواشنطن قد أكد أن “الحرس الثوري الإيراني، من خلال المتهم، سعى إلى تنفيذ مخطط وقح عبر اغتيال مسئول أمريكي على الأراضي الأمريكية رداً على أفعال أمريكية”، في إشارة إلى عملية اغتيال قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني التي نفذتها طائرة أمريكية من دون طيار في 3 يناير 2020. إلا أن إيران رفضت هذه الاتهامات، واعتبرت أنها مؤشر على “استمرار سياسة التخويف الفاشلة من إيران”.
دلالات عديدة
يعكس هذا التزامن اللافت بين اقتراب المفاوضات النووية من نهايتها وتوجيه اتهامات رسمية إلى إيران بمحاولة اغتيال مسئولين أمريكيين، على غرار جون بولتون ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو، دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- نَفْيُ فرضية التفاهمات حول مقتل سليماني: كان لافتاً أن هذه الاتهامات الرسمية جاءت بعد أن أشارت تقارير عديدة إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حاولت الوصول إلى تفاهمات مع إيران حول محاولاتها “الانتقام” لمقتل قاسم سليماني، خلال جولات التفاوض التي أُجريت في الفترة الماضية، وأن الأخيرة رفضت ذلك. بل إن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أكد، في 21 يوليو الفائت، أن “واشنطن طلبت عبر وسطاء تسوية ملف اغتيال سليماني”، وأن إيران أكدت أن “الانتقام لسليماني حتمي”. ومن هنا، فإن هذه الاتهامات تعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ترفض خيار المساومة مع إيران في هذا الشأن، وأنها لن تتوانى عن اتخاذ إجراءات لمنع الأخيرة من تنفيذ تهديداتها بـ”الانتقام”، أو تحويلها إلى خطوات إجرائية على الأرض.
2- تعزيز الموقف الرافض لرفع العقوبات عن “الپاسداران”: رفضت الإدارة الأمريكية بشكل واضح الطلب الذي تقدمت به إيران خلال جولات التفاوض بشطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، معتبرة أن “الپاسداران” تورط في عمليات إرهابية عديدة راح ضحيتها أمريكيون. وهنا، فإن هذه الاتهامات تُضفي وجاهة خاصة على هذا الرفض، وتعزز موقف واشنطن في المفاوضات، ولا سيما لدى القوى الدولية الأخرى، التي تراقب ردود الفعل الأمريكية والإيرانية، وتنتظر قرار العاصمتين في الوقت الحالي تجاه مسودة الاتفاق التي عرضها بوريل. وتُبدي الإدارة الأمريكية اهتماماً خاصاً بتوسيع نطاق التوافق مع الدول الأوروبية المشاركة في المفاوضات لتشكيل جبهة غربية يمكن أن تفرض ضغوطاً أكبر على إيران، وهو ما سوف تساعد الاتهامات الأخيرة على تحقيقه، خاصة بعد أن أكدت واشنطن أنه يمكن الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران من خلال المسودة التي طرحها بوريل.
3- توجيه رسائل إلى الحلفاء في الشرق الأوسط: وجّهت وزارة العدل الأمريكية هذه الاتهامات بعد نحو شهر من الجولة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن في منطقة الشرق الأوسط، والتي أكد خلالها التزام واشنطن بما تقتضيه علاقاتها الاستراتيجية مع حلفائها في المنطقة، ولا سيما فيما يتعلق بمواجهة تدخلات إيران الإقليمية والعمليات التي يقوم بها الحرس الثوري. وهنا، فإن الإدارة قد تحاول استثمار هذه الاتهامات لتأكيد جديتها في تنفيذ هذه الالتزامات خلال المرحلة القادمة، خاصة بعد أن أكدت التطورات التي طرأت على الساحة الدولية منذ بداية العام الأهمية الاستراتيجية للمنطقة.
4- الفصل بين المفاوضات النووية والملفات الأخرى: رغم أن الإدارة الأمريكية أكدت -وفقاً لتقارير عديدة- أن الاتهامات الجديدة يجب أن “لا تؤثر على الدبلوماسية النووية مع إيران”، إلا أن ذلك لا ينفي -في الوقت نفسه- أن الأولى سوف تسعى إلى تأكيد أنه في حالة الوصول إلى صفقة مع إيران، فإنها لن تتوانى عن ممارسة ضغوط قوية عليها للوصول إلى تسوية للخلافات العالقة حول الملفات الأخرى، ولا سيما برنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية. وبعبارة أخرى، فإن واشنطن تسعى إلى تأكيد أن الوصول إلى صفقة نووية مع طهران لا يعني انتهاء الخلافات معها، بل ربما تكون بداية للمطالبة بفتح الملفات الخلافية الأخرى، التي لا تقل أهمية وخطورة عن البرنامج النووي، بل إنها تفرض تهديدات “آنية” على أمن ومصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة.
5- تعزيز موقع الديمقراطيين قبل انتخابات الكونجرس: ربما توفر هذه الاتهامات فرصة للإدارة الأمريكية من أجل تعزيز شعبيتها قبل إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر القادم، خاصة أنها سوف تستغلها للرد على الانتقادات التي توجه لها من جانب أقطاب الحزب الجمهوري بـ”التغاضي” عن الأدوار السلبية والتخريبية التي تقوم بها إيران، ومحاولة الوصول إلى “اتفاق نووي” لا يتضمن قيوداً صارمة على أنشطتها المثيرة للشكوك بصفة دائمة، وسيسمح لها بالحصول على موارد مالية كبيرة سوف تستغلها -وفقاً لهذه الرؤية- في تقديم مزيد من الدعم لحلفائها من المليشيات المسلحة في المنطقة.
لكن في مقابل ذلك، فإن الاتجاه المعارض للصفقة مع إيران قد يستند بدوره إلى هذه الاتهامات ليؤكد أنه لا يمكن الوثوق في انخراط الأخيرة في التزامات دولية صارمة، بما يعني إمكانية تحركه للضغط على الإدارة من أجل التراجع عن إبرام تلك الصفقة في حالة موافقة العاصمتين على مسودة بوريل.
خلافات متجددة
في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن التصعيد سوف يكون عنواناً رئيسياً للتفاعلات التي تجري بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة القادمة، حتى لو انتهت المفاوضات التي تجري في الفترة الحالية بالوصول إلى صفقة جديدة تعزز من احتمالات استمرار العمل بالاتفاق النووي. فالخلافات العالقة بين الطرفين لا تبدو ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة، خاصة إذا كانت مرتبطة في المقام الأول بتهديد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأمن مواطنيها.