صرّح الفريق أول ركن “محد حمدان دقلو” (الجنرال حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، في 2 مارس 2022، بأن السودان يجب أن تبقى منفتحة على بناء قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر. وجاءت هذه التصريحات عقب انتهاء زيارة الجنرال “حميدتي” للعاصمة الروسية موسكو، في 24 فبراير الماضي، تلبية للدعوة التي وجهتها له الحكومة الروسية. واصطحب الفريق “حميدتي” وفداً ضم عدداً من أعضاء حكومة تصريف الأعمال التي قام بتشكيلها الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان”، ومن أبرزهم وزير المالية “جبريل إبراهيم”، ووزير الطاقة والنفط “محمد عبدالله محمود”، ووزير المعادن “محمد بشير عبدالله أبو نمو”، ووكيل وزارة الخارجية المكلف السفير “نادر يوسف الطيب”، ورئيس اتحاد الغرف التجارية “نادر الهلالي”. وتم عَقْدُ لقاءات متعددة مع بعض المسؤولين الروسيين شملت نائب وزير الدفاع الروسي ومسؤولين آخرين. ويحمل ذلك مؤشراً هاماً على طبيعة الملفات التي تمت مناقشتها خلال الزيارة، وخاصة على المستويين الأمني والاقتصادي.
اعتبارات مختلفة
اكتسبت هذه الزيارة أهمية خاصة نظراً لعدة اعتبارات هامة، وذلك على النحو التالي:
1- تُعد زيارة الفريق “حميدتي”، نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، هي الزيارة الرسمية الأولى من نوعها التي يقوم بها مسؤول سوداني منذ الإطاحة بالرئيس السابق “عمر البشير” في أبريل 2019، والتي جاءت في إطار الحرص السوداني والروسي على تعزيز العلاقات الثنائية بينهما.
2- تزامنت الزيارة مع الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 25 فبراير الجاري بعدما ألقى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” خطاباً أشار فيه إلى تدخل جيش بلاده للقيام بعمليات خاصة بغرض حماية الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا (جمهوريتا “دونيتسك” و”لوغانسك” اللتان أعلنتا استقلالهما عن الدولة الأوكرانية بعد استفتاء شعبي)، والعمل على نزع السلاح الأوكراني، وإزالة ما أطلق عليه “الطابع النازي داخل أوكرانيا”.
3- الرفض الحزبي لهذه الزيارة انطلاقاً من رفض التدخل الروسي في الشؤون الداخلية للسودان، وهو ما اتضح في الموقف الذي عبرت عنه كتلة “التجمع الاتحادي” و”تجمع المهنيين السودانيين”، حيث وصفا هذه الزيارة بأنها مخالفة للأعراف الدولية، وتفتقر للمعايير الدبلوماسية في ظل الظروف السياسية التي تمر بها السودان، وكذلك التي يمر بها المجتمع الدولي بشأن الأزمة الأوكرانية، متهمين قادة الجيش بالعودة إلى الحليف الروسي القديم لدعم بقائهم في السلطة ومدهم بالأسلحة والذخائر لقمع الاحتجاجات الشعبية الرافضة للانقلاب العسكري على السلطة، ومن ثم توفير غطاء دولي للانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية.
التعاون العسكري
بحثت الزيارة التي قام بها الجنرال “حميدتي” لموسكو سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين الجانبين السوداني والروسي، وظهر ذلك في الاتفاق السوداني الروسي على ضرورة تكثيف أوجه التعاون في مختلف المجالات السياسية والعسكرية، وبما يساعد في تحقيق مجموعة من الأهداف لكلا الطرفين، ومن أبرزها ما يلي:
1- إقامة قاعدة عسكرية روسية: إذ جاءت الدعوة الروسية للجنرال “حميدتي” من أجل مناقشة إقامة قاعدة عسكرية روسية في ميناء “بورتسودان” بالبحر الأحمر، وحسم هذه الإشكالية، خاصة وأن الخرطوم لم تمنح موسكو رداً مقنعاً في هذه المسألة حتى الآن، وتمثل الرد السوداني في إعلان الحكومة الانتقالية السابقة برئاسة “عبدالله حمدوك” (قبل الإطاحة بها في أكتوبر الماضي) تجميد أية اتفاقات عسكرية مع روسيا، وأنها في انتظار تشكيل مجلس تشريعي للبت في مسألة إقامة قاعدة عسكرية روسية من عدمه في البحر الأحمر.
كما صرح رئيس الأركان السوداني الفريق ركن “محمد عثمان الحسين” في شهر نوفمبر الماضي بعدم وجود اتفاق كامل مع روسيا حول إنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر، لكن التعاون العسكري بيننا ممتد، خاصة وأن هناك رفضاً شعبياً لهذا الأمر؛ إلا أن موسكو عبّرت عن استيائها من عدم تنفيذ الاتفاق السابق الذي تم توقيعه في عهد الرئيس المعزول “عمر البشير”، خاصة وأن الرئيس الروسي “بوتين” قام بالتصديق على إنشاء هذه القاعدة في شهر نوفمبر الماضي، على أن تكون هذه القاعدة قادرة على استيعاب سفن تعمل بالطاقة النووية.
2- تعزيز التعاون العسكري المشترك: تحرص الخرطوم وموسكو على تعزيز أوجه التعاون الثنائي المشترك ولا سيما في المجال العسكري، ومن المؤشرات الدالة على ذلك وجود خبراء روس داخل السودان يعملون إلى جانب القوات المسلحة السودانية، وهو ما صرحت به موسكو في مطلع عام 2019، وبالتالي جاءت هذه الزيارة في إطار الحرص الروسي على إلزام الجانب السوداني بتنفيذ ما تم توقيعه من اتفاقيات ثنائية، وخاصة تلك التي تم توقيعها في عهد الرئيس المعزول “عمر البشير” عام 2017 عندما طلب من روسيا حماية السودان من الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك اتفاقية التعاون العسكري التي تم توقيعها في مايو 2019 بعد سقوط نظام الإنقاذ، وتنص هذه الاتفاقية على التعاون العسكري بين الخرطوم وموسكو لمدة سبع سنوات، وفي ظل الاضطرابات السياسية والأمنية التي تشهدها السودان منذ الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في أكتوبر الماضي، تزايدت مخاوف موسكو بشأن عدم التزام السلطات السودانية الحالية بتنفيذ هذه الاتفاقيات.
3- إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية بالسودان: حيث جاءت زيارة الجنرال “حميدتي” كذلك إلى روسيا في الوقت الذي تزايدت فيه المطالب داخل السودان بشأن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية وإصلاح المؤسسة العسكرية على وجه التحديد، ومن ذلك دمج قوات الدعم السريع التي يترأسها الفريق “حميدتي” في الجيش الوطني السوداني، وهو ما يرفضه “حميدتي”، ويعد ذلك عائقاً رئيسياً أمام حسم إشكالية توحيد مؤسسات الدولة وخاصة الجيش الوطني ودمج بعض الجماعات المسلحة له تحت مظلة جيش وطني موحد، وهنا تبرز حاجة الخرطوم للحصول على بعض الأسلحة الروسية المتطورة لتعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة التهديدات والمخاطر الأمنية داخل البلاد، وخاصة في ظل الحديث عن احتمالات تصاعد أنشطة بعض التنظيمات الإرهابية بالداخل السوداني كالقاعدة وداعش خلال الفترة الأخيرة.
4- جذب الاستثمارات الروسية: إذ هدفت السودان من خلال هذه الزيارة إلى الحصول على بعض المساعدات الاقتصادية، وإقناع الجانب الروسي بضخ المزيد من رؤوس الأموال الروسية، والاستثمار المباشر في الاقتصاد السوداني لإنعاشه وإخراجه من أزمته المتفاقمة في الوقت الحالي. ويفسر ذلك تأكيد الفريق “حميدتي” خلال الزيارة على الفرص الاستثمارية التي توفرها السودان للاستثمارات الروسية في مجالات الطاقة، والزراعة، والتعدين، وحماية البيئة، وبما يعمل على تحقيق المصالح والمكاسب الاقتصادية للطرفين. ولذلك أكد “حميدتي” خلال الزيارة على ضرورة تعجيل تنفيذ اتفاقيات التعاون الموقعة بين وزارتي النفط في البلدين والتي تشمل مجالات التدريب، وبناء القدرات، وقطاع الكهرباء والطاقة النووية للأغراض السلمية، كما وعدت موسكو بإرسال بعض الشركات الروسية في شهر مارس المقبل للتعرف على الفرص الاستثمارية المتاحة بالسودان.
5- سدّ احتياجات البلاد من القمح: فعقب انتهاء الزيارة التي قام بها الجنرال حميدتي لروسيا، أعلنت الخرطوم في 6 مارس الجاري، عن استلام ميناء بورتسودان على البحر الأحمر شرق البلاد، 20 ألف طن من القمح الروسي في إطار منحة من الحكومة الروسية للسلطات الانتقالية السودانية، وهو ما يصب في مصلحة سد احتياجات السودان من القمح اللازم لحل مشكلة الدقيق والخبز المتفاقمتين في البلاد، وذلك رغم انشغال موسكو بغزوها العسكري لأوكرانيا، إلا أن موسكو أرسلت ذلك القمح للخرطوم بعد أن امتنعت الأخيرة عن التصويت ضد روسيا، وهو ما يُعد مكافأة روسية للخرطوم على موقفها تجاه روسيا من جهة، ومحاولة لإغراء الخرطوم لتنفيذ اتفاقية إقامة القاعدة الروسية البحرية في البحر الأحمر من جهة أخرى.
دلالات هامة
حملت زيارة الجنرال “حميدتي”، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي ورئيس قوات الدعم السريع، إلى موسكو بعض الدلالات السياسية والأمنية الهامة، ومن أبرزها ما يلي:
1- دعم السلطة الانتقالية الحالية: تحرص الخرطوم على تعزيز علاقاتها مع موسكو في الوقت الذي تبدي فيه الحكومة الروسية تفاعلاً ودعماً سياسياً للنظام السياسي الانتقالي الحالي الذي يترأسه المكون العسكري بعد الإطاحة بالحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء المستقيل “عبدالله حمدوك” في 25 أكتوبر الماضي، والفشل في تشكيل حكومة وحدة وطنية، وقيام الفريق “البرهان” بتشكيل حكومة تصريف أعمال لحين تشكيل حكومة جديدة وتسليم السلطة لحكومة مدنية بعد إجراء انتخابات في يوليو 2023 كما وعد بها الفريق “البرهان” من قبل. ولعل تصريحات “حميدتي” خلال الزيارة تشير إلى الدعم السياسي الروسي للخرطوم في المحافل الدولية خلال الفترة الأخيرة.
2- تأييد الغزو الروسي لأوكرانيا: تم تفسير زيارة الجنرال “حميدتي” الأخيرة لموسكو على أنها دعم سوداني صريح للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وهو ما ظهر في امتناع السودان عن التصويت على قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي، كما أن بعض وسائل الإعلام نسبت للجنرال “حميدتي” تصريحات يدعم فيها ذلك الأمر، ويؤيد كذلك الاعتراف الروسي بانفصال كل من دونيتسك ولوغانسك، وهو ما نفته وزارة الخارجية السودانية وبررت ذلك بأن موعد الزيارة كان مقرراً لها قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية، وأن الموقف السوداني منها يتمثل في الدعوة إلى وقف التصعيد العسكري من الجانبين، واللجوء إلى الحوار وتسوية الأزمة بالطرق الدبلوماسية من أجل التوصل إلى حل مناسب يلقى قبول كافة الأطراف.
3- حسم التنافس الدولي على تعزيز النفوذ بالسودان: كما جاءت دعوة موسكو للجنرال “حميدتي” لزيارة موسكو في الوقت الذي يحتدم فيه التنافس الروسي الأمريكي على تعزيز النفوذ داخل السودان باعتبارها مدخلاً مهماً لإيجاد موطئ قدم في منظومة البحر الأحمر ومنطقة شرق إفريقيا، وقد اتضح هذا التنافس الدولي في مطالبة سفراء الدول الغربية والاتحاد الأوروبي خلال اجتماعهم مع وزير الخارجية السوداني “علي الصادق” بالخرطوم للسلطات الانتقالية السودانية بإصدار إدانة واضحة للانتهاكات الروسية في أوكرانيا، على أن يتم التعبير عن ذلك في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الخصوص، وكذلك مطالبتهم للخرطوم بالانضمام إلى الدول الرافضة للغزو الروسي لأوكرانيا، ولعلّ تعيين الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” الدبلوماسي السوداني “أمين عوض” منسقاً للأمم المتحدة للأزمة في أوكرانيا، مؤشر آخر على رغبة المجتمع الدولي في جذب السودان واحتوائه تحت مظلة الأمم المتحدة، وعدم تركه ساحة فارغة أمام اللاعب الروسي، وإعادة دمجه في المجتمع الدولي مرة أخرى.
مغزى التوقيت
خلاصة القول، كشفت زيارة الجنرال حميدتي إلى روسيا في هذا التوقيت عن دعم النظام الانتقالي الحالي للموقف الروسي في الأزمة الأوكرانية، وذلك رغم نفي الخارجية السودانية لذلك؛ إلا أن توقيت الزيارة يؤكد ذلك. ومن ناحية أخرى، تكشف دعوة الحكومة الروسية للجنرال حميدتي لزيارة موسكو عن الحرص الروسي الكبير على تنفيذ الاتفاقية العسكرية الخاصة بإقامة قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر، وفي المقابل تقديم الوعود بضخ بعض الاستثمارات لإنعاش الاقتصاد السوداني، ودعم بقاء المكون العسكري على رأس السلطة الانتقالية.