يبدو أن الهند تتجه تدريجياً نحو زيادة انخراطها في التفاعلات التي تجري على مستوى منطقة الشرق الأوسط. فقد أفادت البحرية الهندية، في 5 يناير الجاري، بأنها أنقذت طاقم سفينة “ليلا نورفولك”، الذي يضم ٢١ شخصاً من بينهم ١٥ هندياً، في بحر العرب، بعد أن وجّهت نداء استغاثة إثر تعرضها لمحاولة اختطاف.
وفي أعقاب تعرض سفينة تجارية لهجوم بطائرة من دون طيار في المحيط الهندي، في ٢٣ ديسمبر الفائت، ألحق بها أضراراً من دون أن يتسبب بسقوط ضحايا، حيث أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أن الطائرات أطلقت من إيران، عززت البحرية الهندية من وجودها العسكري في بحر العرب، حيث أعلنت، في 26 من الشهر ذاته، عن نشر ثلاث سفن حربية، وطائرة استطلاع بحرية من طراز “بي 8 إيه”، للمحافظة على وجود رادع ولمنع تهديد الملاحة الدولية، وأكدت التزامها بـ”ضمان سلامة الملاحة التجارية في المنطقة بالتعاون مع الشركاء الدوليين والدول الأجنبية الصديقة”.
مصالح استراتيجية
تكشف التحركات التي قامت بها البحرية الهندية خلال الأسبوعين الماضيين عن سياسة هندية تقوم على مزيد من الانخراط في منطقة الشرق الأوسط وتفاعلاتها، ولا سيما مع تزايد تهديدات الحوثيين للملاحة الدولية في منطقة الشرق الأوسط، مما دفع العديد من السفن في البحر الأحمر إلى تغيير مسارها بسبب الهجمات التي تشنها المليشيا بواسطة الطائرات من دون طيار والصواريخ، فضلاً عن تصاعد ظاهرة القرصنة من جديد. ويمكن القول إن الهند تسعى عبر ذلك إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز أمن الطاقة الهندي: تُعد نيودلهي ثالث أكبر مستهلك للطاقة في العالم بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تستورد من الشرق الأوسط حوالي ٦١٪ من وارداتها النفطية و٦٠٪ من الغاز الطبيعي المسال، وهو ما يجعلها أكثر عرضة لتقلبات الأسعار أو الانقطاع في الإمدادات من المنطقة، الأمر الذي يؤثر على اقتصادها وتنميتها. ولتعزيز أمن الطاقة الهندي الذي يعتمد بصورة كبيرة على المنطقة، أبرمت الحكومة الهندية اتفاقيات طويلة الأجل لتوريد النفط والغاز مع المنتجين الرئيسيين في الشرق الأوسط.
2- دعم مكاسب تأسيس الممر الاقتصادي: سيُحقق الممر الاقتصادي الذي أعلن عنه على هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، في 9 سبتمبر الماضي، والذي يربط بين الهند وأوروبا عبر منطقة الشرق الأوسط، العديد من المكاسب للهند، حيث سيوفر لها إمكانيات الوصول بسهولة إلى الأسواق الأوروبية، وسيعمل على تعزيز التجارة والاستثمارات الهندية-الأوروبية، وتنويع مصادر إمدادات نيودلهي من الطاقة، وتعزيز أمن سلاسل التوريد مما يضمن الوصول إلى السلع الأساسية حتى أثناء الاضطرابات العالمية، وتوفير ملايين الوظائف الجديدة في الهند في مجالات مثل النقل والتصنيع واللوجستيات، إلى جانب زيادة التجارة بين الهند ودول الشرق الأوسط.
وبالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية المتعددة التي تحصل عليها الهند من الممر، فإنه يعمل على تعزيز النفوذ الجيوسياسي للهند من خلال ربطها بالشرق الأوسط وأوروبا، مما يتيح لها القيام بدور أكثر نشاطاً في السياستين الإقليمية والعالمية. ويؤكد الإعلان عن الممر الاقتصادي عزم الهند على تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة، والتخلي عن المقاربة التي اعتبرت إيران الطريق الرئيسي للهند إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
3- رفع مستوى التنسيق لمواجهة الإرهاب: هناك اهتمام هندي متصاعد بالجهود العربية لمواجهة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، نظراً لقرب المنطقة من الهند، بما يعني أن أي صعود للأيديولوجيات الراديكالية المتطرفة سيكون له تأثيرات مباشرة على نيودلهي، خاصة أن منطقة جنوب آسيا بها مسلمون أكثر من منطقة الشرق الأوسط. ولذلك سعت الهند إلى توسيع نطاق تعاونها مع دول الشرق الأوسط من أجل مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية.
4- توسيع نطاق التعاون الاقتصادي: تؤسس الهند والعديد من دول الشرق الأوسط علاقات اقتصادية قوية. فقد شهدت التجارة بين الهند والعالم العربي نمواً مستداماً، حيث تجاوزت ٢٤٠ مليار دولار سنوياً. وتستثمر الهند في مشاريع البنية التحتية في الشرق الأوسط، وهناك أيضاً فرص للتعاون في مجالات مثل: الرعاية الصحية، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والفضاء، وهو ما يزيد من أهمية تعزيز حضورها في التفاعلات التي تجري في المنطقة.
5- تحييد تداعيات ظاهرة القرصنة: بعد توقف عمليات خطف السفن التجارية في منطقتي خليج عدن وبحر العرب لست سنوات فإنها تزايدت مرة أخرى مع الانشغال الأمريكي بالأمن البحري في منطقة البحر الأحمر في أعقاب تزايد الهجمات التي تنفذها المليشيا الحوثية ضد السفن التجارية، ولا سيما التابعة لإسرائيل أو المتجهة لها، مع استمرار عملياتها العسكرية في غزة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الماضي وحتى الآن.
فقد أظهرت بيانات صادرة عن مركز دمج المعلومات التابع للبحرية الهندية، أن ثلاث عمليات خطف على الأقل وقعت في ديسمبر الفائت، في حين كان آخر حادث من هذا النوع في عام ٢٠١٧، وهو ما دفع البحرية الهندية إلى تعزيز جهودها لمكافحة أعمال القرصنة في خليج عدن قبالة سواحل اليمن.
تحركات نشطة
مع تحول منطقة الشرق الأوسط إلى ساحة للمنافسة المحتدمة بين العديد من القوى الدولية، ولا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين روسيا، خلال المرحلة الراهنة، بدأت الهند تظهر كلاعب رئيسي في المنطقة، حيث تتبنى تحت قيادة رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، سياسة أكثر نشاطاً في المنطقة؛ لضمان تحييد التداعيات التي يمكن أن يفرضها تزايد النفوذ الصيني. ولكون الهند، التي تتطلع لأن تكون قوة عالمية مؤثرة، ثالث دولة مستهلكة للطاقة عالمياً؛ فإنها لن تسمح لإمداداتها من الطاقة بالتعرض للخطر. ولذلك فإن استقرار المنطقة، ومنع نشوب صراعات جديدة، وضرورة مواجهة الحركات المتطرفة والإرهابية؛ يُعد مصلحة هندية في الشرق الأوسط خلال السنوات القادمة، مع تعزيز التعاون الهندي-الشرق أوسطي في مجموعة متنوعة من المجالات الجديدة التي تحقق فيها نيودلهي طفرات وأبرزها التكنولوجيا المتقدمة والصناعات الدفاعية والأسلحة، وهي مجالات تبحث الدول العربية عن أطر لتعزيز التعاون المشترك فيها مع الهند، بجانب توسيع التعاملات التجارية غير النفطية بالروبية.