يمكن تفسير عزوف النظام السوري عن التدخل مباشرة في الحرب الحالية في غزة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في تجنّب رفع مستوى التصعيد الإسرائيلي والأمريكي ضده، والرد على موقف حماس من الأزمة في عام 2011، ومحاولة استثمار الحرب للانفتاح على الغرب، والتماهي مع الحسابات الروسية والإيرانية من الحرب.
فقد كان لافتاً من بين كل حلفاء إيران أن النظام السوري تحديداً لم يتدخل بأي شكل في الحرب التي تدور رحاها بين إسرائيل وحركة حماس في الوقت الحالي، بعد العملية العسكرية التي نفذتها الأخيرة ضد الأولى في 7 أكتوبر الفائت. صحيح أن هجمات عديدة انطلقت من هضبة الجولان ضد إسرائيل، لكنها هجمات منسوبة لمليشيات فلسطينية موجودة في سوريا، في حين أن النظام لم ينخرط حتى عبر إطلاق تصريحات داعمة لحماس ضد إسرائيل، رغم أن الأخيرة ما زالت حريصة على شن ضربات قوية ضد المواقع التابعة له ولإيران وللمليشيات الموالية لها داخل سوريا وآخرها الضربة التي نُفذت في 9 نوفمبر الجاري واستهدفت مستودعات للجيش السوري في محافظة السويداء الجنوبية.
هذا التوجه الذي يتبناه النظام السوري يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن الأخير يسمح لمليشيات أخرى بالانخراط في الحرب بشكل مباشر، دون أن يغامر بنفسه بالمشاركة في تلك الحرب. وهنا، فإن سماحه بذلك قد يكون نتيجة ضغوط يتعرض لها نتيجة النفوذ الذي تمتلكه تلك المليشيات على الأراضي السورية.
اعتبارات عديدة
يمكن تفسير هذا التوجه من جانب النظام السوري في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تجنب التعرض لتصعيد أقوى من تل أبيب وواشنطن: ربما يرى النظام السوري أن الانخراط في الحرب الحالية بين إسرائيل وحركة حماس قد يعرضه لضربات عسكرية أقوى، سواء من جانب إسرائيل أو من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا، فإن المسألة قد لا تقتصر على مجرد “ضربات عقابية” على غرار الضربات التي تنفذها إسرائيل ضد مستودعاته ومواقعه بسبب سماحه بانطلاق هجمات من داخل الأراضي السورية، وإنما ربما تمتد إلى توجيه ضربات قد تؤدي إلى إضعاف النظام نفسه وربما تهدد مستقبله في الحكم بشكل مباشر.
صحيح أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية تجنبتا خلال فترة ما بعد اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011 العمل على تعزيز احتمالات سقوط النظام السوري، لحسابات خاصة بهما، تقوم على أن إسقاط النظام يعني “مواجهة المجهول” في سوريا، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وربما بضغوط من جانب إسرائيل، عزفت عن تنفيذ تهديدها بتوجيه ضربة عسكرية للنظام في أغسطس 2013، بعد اتهامه باستخدام أسلحة كيماوية في الهجوم على الغوطة الشرقية لريف دمشق. لكن الصحيح أيضاً أن المعطيات الجديدة التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى” قد تكون غيرت الحسابات الإسرائيلية، على نحو قد يدفع تل أبيب إلى العمل على رفع كلفة أي عمل عسكري مباشر من جانب النظام ضدها، وهو ما يبدو أن الأخير وضعه في اعتباره في قراءته لمجريات ما يحدث على صعيد المواجهة بين إسرائيل وقطاع غزة.
2- تأثير “التباينات المكتومة” مع حماس: قد لا يمكن فصل موقف النظام السوري من الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة، عن علاقاته بشكل عام مع حركة حماس. إذ ربما ما يزال النظام يضع في اعتباره الموقف السابق الذي تبنته الحركة بعد اندلاع الأزمة في مارس 2011، عندما وقفت إلى جانب فصائل المعارضة، بتأثير من قطر وتركيا، ودعمت جهود إسقاط النظام، وأخلت مكاتبها من دمشق وانتقلت إلى عواصم أخرى مثل الدوحة وأنقرة.
ورغم أن تغير توازنات القوى داخل سوريا في الأعوام الأخيرة لصالح النظام السوري، بل وتحول السياسات التي تبنتها قوى عديدة تجاهه، على غرار تركيا والسعودية، قد دفع حماس إلى إجراء تغيير في سياستها باتجاه العودة إلى “تطبيع” العلاقات معه مجدداً، على نحو بدا جلياً في اللقاء الذي جمع رئيس مكتب العلاقات العربية والإسلامية في الحركة خليل الحية مع الرئيس السوري بشار الأسد، خلال زيارة وفود من الفصائل الفلسطينية لدمشق في 19 أكتوبر 2022؛ إلا أن ذلك لا يبدو أنه دفع النظام السوري مجدداً إلى تغيير مقاربته الحذِرة إزاء العلاقات مع حماس، على نحو قد يكون له دور في تشكيل الموقف السوري من الحرب الحالية التي تدور رحاها في قطاع غزة.
3- تعزيز فرصة الانفتاح على واشنطن: بعد أن تغيرت توازنات القوى على الأرض لصالح النظام السوري، ولم يعد هناك مصدر تهديد حقيقي لبقائه في السلطة، بدا جلياً أن الأولوية لدى النظام تحولت إلى العودة إلى تطبيع العلاقات مع الخارج، سواء دول المنطقة، أو بعض القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تحسنت بالفعل العلاقات السورية مع العديد من الدول العربية الرئيسة، على نحو بدا جلياً في مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في القمة العربية التي عُقدت في الرياض في 19 مايو الماضي، إلا أن العواصم الغربية ما زالت حريصة على تبني سياسة متشددة إزاء الانفتاح على النظام السوري، رغم إصرارها في الوقت نفسه على الاحتفاظ بقنوات أمنية مع الأخيرة للتعامل مع تهديدات التنظيمات الإرهابية والعائدين من مناطق الصراع.
هنا، فإن تبني موقف أقرب إلى المحايد تجاه الحرب التي تدور رحاها في قطاع غزة بين إسرائيل وحماس، ربما يكون أحد المداخل التي قد يحاول النظام السوري استثمارها في مرحلة لاحقة من أجل تحقيق هذا الهدف الأهم، خاصة في ظل الدعم القوي الذي تقدمه الدول الغربية لإسرائيل في الحرب الحالية، بما يجعلها مستعدة لاحقاً لاتخاذ خطوات إيجابية إزاء الأطراف التي لم تتدخل في الحرب لصالح حماس.
4- ضغوط الحسابات الإيرانية والروسية: يرتبط موقف النظام السوري إزاء الحرب في غزة، -في الغالب- بحسابات كل من إيران وروسيا منها. صحيح أن الدولتين تبنتا موقفاً داعماً لحماس، بل واستضافتا وفوداً للأخيرة، إلا أنهما كانتا حريصتين على عدم الانخراط بشكل مباشر في الحرب، خاصة إيران التي كررت في مناسبات مختلفة أنها لم تكن ضالعة في التخطيط لعملية “طوفان الأقصى”، وأنها لا تمتلك “تأثيراً” على قرارات ما تسميه “فصائل المقاومة”.
وهنا، فإن موسكو وطهران ربما اعتبرتا أن تدخل النظام السوري في الحرب الحالية قد يؤدي إلى ارتباط وتعقيد الأوضاع في سوريا، فضلاً عن أنه قد يدفع تل أبيب وواشنطن إلى الرد بقوة على المستوى العسكري، بشكل يمكن أن يؤثر على توازنات القوى القائمة.
إلى جانب ذلك، فإن روسيا كانت حريصة على عدم الوصول بالتوتر مع إسرائيل إلى مستوى قد يؤثر على التنسيق العسكري القائم بين الطرفين داخل سوريا، والذي كان يسمح لإسرائيل بتنفيذ ضرباتها العسكرية ضد مواقع إيران والنظام السوري والمليشيات الحليفة لهما. كما أنها لم تكن ترغب في دفع إسرائيل إلى رفع مستوى دعمها العسكري لأوكرانيا في الحرب التي ما زالت تتصاعد حدتها حالياً، كرد على الدعم الذي تقدمه روسيا لحركة حماس.
احتمالات مؤجّلة
في ضوء ذلك، يمكن القول إن النظام السوري يسعى، على غرار إيران، إلى استثمار الحرب الحالية كفرصة يمكن من خلالها الحصول على مكاسب استراتيجية قد تساعده فيما يمكن تسميته بـ”إعادة التعويم” على المستوى الدولي. لكن حسابات النظام سوف تكون مرتبطة، في كل الأحوال، بحسابات إيران وحزب الله. صحيح أن الطرفين حريصان حتى الآن على ضبط مستوى التصعيد مع إسرائيل، لكن ذلك سوف يعتمد على متغيرين أساسيين: أولهما، المعطيات الجديدة التي سوف تتمخض عنها حرب غزة، فيما يتعلق بقدرات حماس العسكرية ومدى تأثرها بالحرب الحالية. وثانيهما، مدى إمكانية اتجاه إسرائيل إلى استهداف الوكلاء الآخرين في مرحلة لاحقة، بعد الانتهاء من المهمة الحالية في غزة، وهي مهمة ما زالت تواجه مسارات متعددة بسبب الغموض الذي يكتنف المستوى الذي سوف تصل إليه العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل حالياً داخل القطاع.