ترطيب العلاقات:
لماذا طرحت أنقرة خيار الحصول على منظومة دفاع أوروبية؟

ترطيب العلاقات:

لماذا طرحت أنقرة خيار الحصول على منظومة دفاع أوروبية؟



أكد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، مطلع نوفمبر الجاري، أن بلاده ستُقْدِمُ على خطوات إيجابية في المرحلة المقبلة فيما يتعلق باتخاذ “خطوات إيجابية” مع فرنسا وإيطاليا بشأن منظومة الدفاع الصاروخي “سامب-تي” (SAMP/T). وتأتي تصريحات الرئيس التركي في وقت لا يزال فيه شراء تركيا منظومة الدفاع الصاروخي الروسية من طراز S400، يضغط على علاقاتها مع الولايات المتحدة، وحلف الناتو. كما تتزامن الخطوة التركية مع حدود نجاحات لقاء أردوغان – بايدن على هامش قمة العشرين الأخيرة في روما في الالتفاف على القضايا الخلافية بينهما، واستمرار معارضة الكونجرس لخطة بيع طائرات F16 لتركيا.

وتجدر الإشارة إلى أن “سامب-تي” (SAMP/T) هي منظومة دفاعية جرى تطويرها بالشراكة بين فرنسا وإيطاليا، وهي منظومة متطورة قادرة على التنقل بسهولة في التضاريس الصعبة، تحتوي على صواريخ أرض – جو لمواجهة التهديدات المختلفة، وأبرزها الطائرات بمختلف أنواعها الحربية والمروحية والمسيرة والصواريخ الباليستية والصواريخ الموجهة وصواريخ كروز والتهديدات العابرة للحدود، كما أنها تعمل في اتجاه التهديدات قصيرة ومتوسطة ومرتفعة المدى، والتي تطلق سواء من البر أو البحر أو الجو.

دوافع متعددة

تبنّت تركيا مقاربة مختلفة تجاه التوتر مع القوى الغربية، في ظل تشابك وتعقد القضايا الخلافية، وفي الصدارة منها استمرار الرفض الأمريكي والأوروبي لحصول أنقرة على منظومة الدفاع الروسية S400. ورغم أن الانفتاح التركي على المنظومة الأوروبية ليس جديداً، فقبل عدة سنوات كان هناك اتفاق أولي مع باريس وروما لبحث آليات وفرص التعاون للتصنيع المشترك للمنظومة بين الجانبين. لكنّ تجدد الحديث التركي عن “سامب-تي” (SAMP/T) في المرحلة الراهنة يأتي في سياق اعتبارات جديدة ومتنوعة، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- التحايل على الضغوط الأمريكية: لا يزال التوتر هو العنوان الأبرز بين أنقرة وواشنطن، حيث تواجه العلاقة بين البلدين حالة من القلق، وظهر ذلك في تأكيد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” على هامش قمة العشرين مخاوف واشنطن من امتلاك أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي الروسية S400. كما قدم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي “بوب منينديز”، في مطلع نوفمبر الجاري، مشروع قانون من أجل مراقبة برنامج المسيرات التركية المسلحة عن كثب.

هنا، يمكن فهم رغبة أنقرة في إعادة التفاوض بشأن امتلاك المنظومة الأوروبية باعتبار ذلك يُمثل خياراً وحلاً وسطاً يمكن خلاله التحايل على تعقيدات العلاقة مع الغرب، وبخاصة واشنطن، إضافة إلى أن هذا الخيار يوفر بيئة مواتية لتركيا للخروج من دائرة التجاذبات الحادة التي وقعت فيها بين موسكو وواشنطن بشأن منظومة S400، حيث تواجه أنقرة ضغوطاً كبيرة لعدم تفعيل المنظومة الروسية، كما أنها تواجه رفضاً أمريكياً ليس فقط للحصول على منظومة “باتريوت” الدفاعية، بل الاستبعاد في إنتاج مقاتلات F35.

2- تهدئة التوتر مع الاتحاد الأوروبي: لا ينفصل طرح الرئيس التركي إمكانية الحصول على نظام دفاعي أوروبي عن محاولات تركيا ترطيب العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وبخاصة فرنسا. وكشف عن ذلك تأكيد الرئيس “أردوغان” في يونيو الماضي، أن الوقت قد حان لكي يُقْدِمَ الاتحاد على اتخاذ خطوات إيجابية مع تركيا، وأهمية بدء المفاوضات بشأن تحديث الاتحاد الجمركي. كما اعتبر الرئيس التركي عشية حل أزمة السفراء في أكتوبر، ولقائه السفراء الأوروبيين، أنه من الممكن تحويل عام 2021 إلى عام النجاحات في العلاقات التركية-الأوروبية.

جهود تركيا لإصلاح العلاقة مع أوروبا لم تقتصر على ما سبق، فبعد فترة من الشد والجذب في العلاقات بسبب الخلافات في شرق المتوسط، وليبيا، والنزاع في إقليم كاراباخ الأذربيجاني؛ أبدى الرئيس “أردوغان”، في يناير 2021، خلال لقاء متلفز مع سفراء الاتحاد الأوروبي في أنقرة، استعداد بلاده لتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، مؤكداً أن أنقرة تريد إنقاذ علاقاتها مع فرنسا من التوترات. وعقد “أردوغان” عدة مباحثات مع قادة الاتحاد الأوروبي لتسوية الخلافات، كان آخرها في 16 أكتوبر الماضي حينما بحث “أردوغان” مع المستشارة الألمانية “ميركل” عدداً من القضايا محل الخلاف. كما استأنفت تركيا المحادثات الاستكشافية مع اليونان لبحث الخلافات في بحر إيجه وشرق المتوسط، في مارس وأكتوبر الماضيين، بعد توقفها في مارس 2016.

3- الحصول على الامتيازات الفنية: تعتقد أنقرة أن المنظومة الأوروبية يمكن أن تلبي مطالبها الأساسية المتعلقة بإمكانية التبادل المعلوماتي “التكنولوجي” والتصنيع المشترك لخلق شراكة تصبح تركيا بموجبها جزءاً من المشروع الفرنسي الإيطالي. كما تعتقد أنقرة أنه خلافاً للعلاقات الدفاعية مع موسكو وواشنطن، يمكن أن توفر العلاقة الدفاعية مع النظام الأوروبي بيئة مواتية لاكتساب المزيد من الخبرة، وتطوير منظومتها الدفاعية الوطنية “حصار” التي انتهت من تطوير نسختها قصيرة المدى. كما من شأن الشراكة مع إيطاليا وفرنسا في برنامج منظومة “سامب-تي” أن تساهم في تعزيز العلاقات الدفاعية داخل حلف الناتو.

في المقابل، وبحسب مراقبين عسكريين، فإن المنظومة الأوروبية ستكون خياراً مثالياً لتركيا لتركيبها على حاملة الطائرات الوطنية “أناضول” المرشحة لدخول الخدمة البحرية بحلول عام 2023، وستكون بحاجة ماسة لنظام دفاع صاروخي متقدم، وأن المنظومة الأوروبية يمكن أن تمثل إضافة مهمة لتوفير مظلة دفاعية تسعى تركيا إليها منذ وقت.

تحديات عالقة

رغم المساعي التركية لإيجاد حلول للقضايا الخلافية المتصاعدة مع الولايات المتحدة والغرب بسبب حصولها على منظومة الدفاع الروسية، وتعويض ذلك باستيراد منظومة “سامب-تي” الأوروبية؛ فإن هناك العديد من القيود التي من شأنها تقويض فرصة أنقرة في الحصول على المنظومة الأوروبية، ويمكن بيانها كالتالي:

1- توتر العلاقات الفرنسية-التركية: تتسم العلاقات الفرنسية-التركية بالتوتر، ولا سيما بعد توقيع باريس واليونان في 28 سبتمبر الماضي، صفقة تضمنت شراء الثانية من الأولى فرقاطات بحرية، بلغت قيمتها حوالي 5 مليارات يورو، وهو ما دفع أنقرة إلى إصدار تصريحات مناوئة للاتفاق، واتهمت باريس وأثينا بخوض ودعم سباق تسلح يُهدد الأمن الإقليمي ويُنذر بعسكرة ملف المتوسط.

الخلافات التركية-الفرنسية لا تقتصر على ما سبق، فثمة تضارب مصالح بين الجانبين، وتباين في مواقفهما في العديد من الملفات الصراعية بالمنطقة، ولا سيما فيما يتعلق بتدخل تركيا في كلٍّ من سوريا وليبيا، ورفض المطالب الفرنسية بسحب قواتها من البلدين. كما تناهض تركيا الدعم الفرنسي للعناصر الكردية شمال سوريا، بينما تنتقد باريس وقوف أنقرة إلى جانب أذربيجان في مواجهة أرمينيا المدعومة من فرنسا.

في المقابل، فإن العلاقة بين “أردوغان” و”ماكرون” تتسم بالتوتر على المستوى الشخصي. وقد عبر الرئيس الفرنسي عن ذلك قبيل قمة الناتو الأخيرة، فقد دعا “ماكرون” في مايو الماضي إلى “تماسك” أكبر لحلف شمال الأطلسي، منتقداً مرة جديدة تركيا لأنها تتصرف بمفردها بشكل يضر بحلفائها. كما اتهم “ماكرون” في مارس الماضي “أردوغان” بالسعي للتأثير من وراء ستار في الانتخابات الفرنسية. وكان التلاسن والتلاسن المضاد بين “أردوغان” و”ماكرون” وصل إلى ذروته في العام الماضي، عندما اتهم الأول الرئيس الفرنسي بأنه “يعاني من مرض، وعليه الخضوع لاختبار طبي”.

2- احتفاظ تركيا بمنظومة الدفاع الروسية S400: يمثل احتفاظ أنقرة بمنظومة الدفاع الروسية S400، تحدياً إضافياً لحصول تركيا على منظومة “سامب-تي” (SAMP/T) الأوروبية، خاصة بعد تأكيد الرئيس التركي في سبتمبر الماضي، أنه لا يمكن لأحد التدخل فيما يتعلق بالأنظمة الدفاعية التي تنوي تركيا شراءها ومن أين ستشتريها، وأكد مجدداً أن بلاده لا تزال تنوي شراء دفعة ثانية جديدة من أنظمة الدفاع الجوي الروسية S-400. وانعطافتها شرقاً باتجاه تعزيز العلاقة مع موسكو، يحمل في طياته انعكاسات سلبية على العلاقات التركية الأوروبية.

3- احتمال معارضة المؤسسات الأوروبية: تتصاعد انتقادات المشرّعين الأوروبيين داخل هياكل الاتحاد الأوروبي، تجاه السياسات التركية الداخلية والإقليمية، فقطاع واسع من الأحزاب الأوروبية يرفض توسيع مساحات التعاون الدفاعية مع أنقرة، ويعبر عن مخاوفه بصورة متزايدة بشأن التدخلات التركية في صراعات الإقليم، إضافة إلى معارضة حصول الأولى على منظومة الدفاع الصاروخية الروسية S-400.

في هذا السياق، فإن فرص حصول تركيا على منظومة الدفاع الأوروبية (SAMP/T)، ربما تكون محدودة أو مستبعدة، خاصة أن ثمة امتعاضاً أوروبياً من سلوكيات أنقرة الداخلية، وهو ما ترتب عليه ظهور مواقف أوروبية متعددة تعارض لحاق أنقرة بالاتحاد الأوروبي، وآخرها تقرير المفوضية الأوروبية السنوي الصادر في أكتوبر الماضي، الذي يُعتبر الأشد انتقاداً لتركيا منذ أن بدأت أنقرة محادثات الانضمام للتكتل قبل 16 عاماً. وقالت المفوضية في تقريرها الأخير إن حكومة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” تشرف على تضييق مستمر لمساحة الديمقراطية وسيادة القانون، وإنها تجاهلت توصيات الاتحاد الأوروبي الصادرة في العام الماضي.

4- التدخلات التركية في قبرص الشمالية: تعارض الدول الأوروبية، وبخاصة فرنسا، التدخلات التركية في قبرص الشمالية، فقد اتهمت باريس في يوليو الماضي “أردوغان” بالاستفزاز بعد إعلانه خلال زيارته جمهورية شمال قبرص المعلنة من جانب واحد، عن تأييده لحل الدولتين. وزاد التوتر التركي الأوروبي مع مساعي أنقرة فتح مدينة “فاروشا” في قبرص الشمالية. ودخل المناخ مرحلة الشحن بين أنقرة والدول الأوروبية، مع مساعي الرئيس التركي لتوظيف أزمة شبه الجزيرة القبرصية لكسب أوراق ضغط جديدة للمساومة بها أمام الاتحاد الأوروبي في العديد من الملفات العالقة بينهما، والتي على رأسها ملفا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتنقيب عن غاز المتوسط.

فرص مستبعدة

ختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من المساعي التركية للتحايل على خلافاتها مع واشنطن والقوى الغربية من خلال إمكانية الاستعانة بمنظومة الدفاع الأوروبية “سامب-تي”، جنباً إلى جنب مع المنظومة الروسية؛ فإن فرص حصولها عليها تبدو مستبعدة، بالنظر إلى تعاظم الخلافات الفرنسية التركية، وامتعاض جانب واسع من المؤسسات الأوروبية من سلوك نظام الحكم في تركيا.