زار وزير الخارجية الإيطالي “لويجي دي مايو”، الجزائر في 28 فبراير 2022، إذ التقى خلالها الرئيسَ الجزائري “عبدالمجيد تبون” والوزير الأول “أيمن بن عبدالرحمن”، مصطحباً معه وفداً رفيع المستوى في إطار العمل على تعزيز العلاقات الثنائية.
الأزمة الأوكرانية
جاءت هذه الزيارة في ظلّ ما تشهده البيئة الدولية من متغيرات وتطورات سياسية وعسكرية هامة ذات أثر مباشر أو غير مباشر على العلاقات الجزائرية الإيطالية من جهة، وعلى المصالح الاقتصادية لكلٍّ من روما والجزائر من جهة أخرى، وذلك كما يلي:
1- جاءت الزيارة في ظل اندلاع الأزمة الأوكرانية بعد إعلان روسيا تدخلها العسكري في أوكرانيا لدعم الانفصاليين هناك، وما ترتب على ذلك من فرض الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية -ومنها إيطاليا- عقوبات على الجانب الروسي، وإعلان روما دعمها لأوكرانيا في أزمتها، وتأييد إيطاليا للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا في ظل المخاوف الأمنية من تأثير هذه الأزمة على الأمن القومي الأوروبي، والمصالح الاقتصادية للدول الأوروبية.
2- كما جاءت الزيارة عقب مشاركة الجزائر في فعاليات القمة السادسة لقمة رؤساء الدول الرئيسية المصدرة للغاز الطبيعي (11 دولة تمتلك 71% من احتياطات الغاز الطبيعي وهي: الجزائر – مصر – بوليفيا – غينيا الاستوائية – إيران – ليبيا – نيجيريا – قطر – روسيا – توباغو – فنزويلا)، التي استضافتها قطر في 21 فبراير الماضي، والتي جاء انعقادها في ظل تزايد المخاوف الأوروبية من تداعيات تصاعد الأزمة الأوكرانية، وقيام روسيا بإيقاف صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وإعلان الدول الأوروبية بحثهم عن مصادر بديلة للحصول على الغاز الطبيعي، والكف عن الاعتماد على روسيا التي تقدم لهم حوالي 40% من احتياجاتهم من الطاقة.
3- اتجهت أنظار الدول الأوروبية نحو الجزائر لتعويض النقص الناتج عن توقف الغاز الروسي، إذ تعتبر الجزائر ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي بعد كل من دولتي روسيا والنرويج، والمورد الرئيسي للغاز الطبيعي لكل من إيطاليا وإسبانيا.
إمدادات الغاز
تهدف زيارة وزير خارجية إيطاليا “لويجو دي مايو” للجزائر إلى تحقيق عدة أهداف، ومن أبرزها ما يلي:
1- تكوين شراكة استراتيجية: عبّر وزير الخارجية الإيطالي خلال زيارته للجزائر عن تطلع روما للحفاظ على علاقاتها القوية مع الجزائر باعتبارها شريكاً استراتيجياً وفعالاً، وخاصة في مجال الطاقة، وهو ما يدفع الجانب الإيطالي لإرسال وزير خارجيتها للتأكيد على تعزيز العلاقات الثنائية مع الجزائر في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي جاءت في إطار التقارب الحاصل في العلاقات الدبلوماسية بينهما والتي عززتها الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الإيطالي “سيرجيو ماتاريلا” للجزائر في نوفمبر الماضي، والتي كانت الزيارة الأولى من نوعها التي يقوم بها رئيس إيطالي للجزائر منذ 18 عاماً، وهو ما أضفى عليها أهمية خاصة في هذا الوقت.
2- تأمين إمدادات الطاقة: تهدف هذه الزيارة بشكل رئيسي لتأمين الاحتياجات الإيطالية من الغاز الطبيعي الذي تصدره الجزائر لها (تستورد إيطاليا 90% من احتياجاتها من الغاز من الجزائر وروسيا) ولمعظم الدول الأوروبية والتي تمدها بنسبة 11% تقريباً من الغاز الطبيعي، وذلك مع تداعيات الأزمة الأوكرانية الحالية على احتياجات الدول الأوروبية من الغاز الطبيعي. ولعل تصريحات الرئيس الجزائري الأخيرة التي أشار فيها إلى قدرة بلاده على تغطية احتياجات الدول الأوروبية من الغاز الطبيعي تؤكد على طبيعة وهدف زيارة “لويجي دي مايو” للجزائر في هذا التوقيت الهام الذي تزامن مع إيقاف روسيا صادراتها من الغاز الطبيعي للدول الأوروبية، لتصبح الجزائر الدولة الأولى الموردة للغاز الطبيعي لإيطاليا.
فخلال الشهور الستة الأولى من عام 2021 ارتفعت إمدادات الغاز الجزائرية إلى ايطاليا بنسبة 190% حتى نهاية يونيو الماضي، وذلك مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2020، حيث حصلت إيطاليا خلال هذه الفترة على 11.18 مليار متر مكعب من الغاز الجزائري بعد أن كانت تحصل على 7.325 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها في عام 2020، وهو ما جعل الجزائر (سوناطراك) تستحوذ على حصة من السوق الإيطالية تقدر بحوالي ـ30.3%، والأمر الآن مرشح للزيادة بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية.
3- حسم موقف الجزائر من أزمة أوكرانيا: جاءت زيارة وزير الخارجية الإيطالي للجزائر في ظلّ ما تواجهه الأخيرة من موقف حرج بين إبداء تأييدها لروسيا التي تعد المصدر الرئيسي لتسليح قواتها المسلحة، إضافة للدعم الروسي للموقف الجزائري في قضية الصحراء المغربية، كما تعد روسيا مصدراً رئيسياً لتأمين احتياجات الجزائر من القمح التي ارتفعت خلال الفترة الأخيرة بسبب حالة الجفاف وتداعيات جائحة كورونا، وبين الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية مع الدول الأوروبية، خاصة وأن الجزائر أصبحت المصدر الرئيسي لإمداد الدول الأوروبية باحتياجاتها من الغاز الطبيعي. ولعل زيارة “دي مايو” للجزائر كانت بهدف انضمام الجزائر إلى الإجماع الأوروبي الرافض للغزو الروسي لأوكرانيا، وحتى الآن لم يصدر عن الجزائر موقف سياسي واضح ومحدد تجاه هذه الأزمة، واقتصرت البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية الجزائرية على متابعة أوضاع الرعايا الجزائريين في أوكرانيا.
4- إنعاش الاقتصاد الجزائري: إذ إن إقبال الدول الأوروبية، وعلى رأسها إيطاليا، على تأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي في ظل استمرار الأزمة الأوكرانية، من شأنه أن يسهم في إنعاش الاقتصاد الجزائري بصورة مباشرة في ظل زيادة طلبيات الحصول على الغاز الجزائري، وارتفاع أسعار الغاز عالمياً بنسبة 135%، مع ارتفاع الأسعار العالمية للنفط والتي تجاوزت 100 دولار تقريباً للبرميل، وإعلان وزير خارجية إيطاليا قبل مغادرته الجزائر عن اتجاه بلاده للحصول على المزيد من الغاز الطبيعي الجزائري. ويساعد إيطاليا في ذلك أن الطاقة القصوى لخط أنابيب “ترانسميد” الذي يتم نقل الغاز الجزائري عبره لإيطاليا تبلغ حوالي 110 ملايين متر مكعب يومياً، في حين يقوم هذا الخط حالياً بنقل 60 مليون متر مكعب يومياً فقط، وهو ما يفسر اصطحابه رئيسَ مجموعة الطاقة الإيطالية “إيني” التي تملك بالفعل سلسلة من عقود الغاز طويلة الأجل مع شركة “سوناطراك” الجزائرية الحكومية حتى عام 2027.
5- ملء الفراغ الفرنسي: جاءت زيارة “دي مايو” للجزائر في إطار السعي الإيطالي لتوظيف تقاربها الحالي مع الجزائر، لسد الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة المغرب العربي بصفة عامة، بسبب توتر العلاقات الجزائرية الفرنسية خلال الفترة الأخيرة وامتداد تداعيات ذلك على نمط العلاقات الجزائرية الفرنسية، وفي الوقت نفسه تقديم روما نفسها حليفاً وشريكاً هاماً للجزائر بديلاً عن فرنسا، خاصة وأن المؤشرات الراهنة تذهب في اتجاه عودة التوتر بين باريس والجزائر وذلك بسبب ما تضمنه التقرير الصادر مؤخراً عن “الجمعية الوطنية الفرنسية” (الغرفة الثانية للبرلمان) من قراءة مغرضة تجاه الوضع العام في الجزائر بشكل ظهر وكأنه تقرير مسيس، وأيضاً ذلك التقرير الذي نشرته وكالة الأنباء الجزائرية والذي تضمن اتهامات صريحة للدور الفرنسي في تعزيز موقف أنصار النظام السابق الذين قاموا بالاتفاق مع جماعات الضغط الفرنسية للحفاظ على المصالح الاقتصادية الفرنسية داخل الجزائر على حساب المصالح الوطنية للبلاد، وهي مؤشرات تعبر عن اتجاه العلاقات الجزائرية الفرنسية نحو توتر جديد في العلاقات الدبلوماسية بينهما، وهو الوقت الملائم لأن تقدم روما نفسها كحليف وشريك أفضل من فرنسا للجزائر.
هواجس روما
خلاصة القول، تكشف زيارة وزير خارجية إيطاليا للجزائر في هذا التوقيت، عن تزايد المخاوف الإيطالية والأوروبية بصفة عامة من تداعيات الأزمة الأوكرانية على احتياجات هذه الدول من الغاز الطبيعي. وفي هذا الإطار، تنبع أهمية التقارب السياسي والاقتصادي مع الجزائر بصفتها البديل الرئيسي للغاز الروسي. وتبدو الجزائر في موقفها من الأزمة الأوكرانية وموافقتها على زيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي لسد احتياجات الدول الأوروبية، أكثر ميلاً لتعظيم مكاسبها الاقتصادية والتجارية مع الدول الأوروبية على حساب علاقاتها السياسية مع الجانب الروسي.