تحركات مُكثَّفة:
لماذا تُصعِّد إيران مجدداً في المنطقة؟

تحركات مُكثَّفة:

لماذا تُصعِّد إيران مجدداً في المنطقة؟



بدأت إيران خلال الفترة الأخيرة في توجيه رسائل تصعيدية جديدة في ملفات إقليمية عديدة بالمنطقة، لاسيما في العراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية فضلاً عن أفغانستان وإقليم ناجورني قره باغ، بالتوازي مع التلويح مرة أخرى بقدرتها على تصعيد حدة الفوضى الإقليمية، عبر الإشارة إلى أنها نجحت في تأسيس “ستة جيوش” في المنطقة. ويطرح ذلك دلالات عديدة يتمثل أبرزها في أن إيران تتابع بدقة مواقف وتهديدات القوى الإقليمية والدولية المناوئة لطموحاتها النووية والإقليمية، وأنها بدأت في إبداء اهتمام أكبر بتحذيرات أطلقتها اتجاهات إيرانية عديدة من تداعيات تشكل محاور إقليمية جديدة ضدها في وسط آسيا.

تهديدات متتالية

رغم أن التصعيد لا يمثل سمة جديدة في تفاعلات إيران مع الإقليم، لاسيما في ظل الخلافات العالقة بينها وبين العديد من القوى الإقليمية والدولية المعنية بملفاتها المختلفة، إلا أن الجديد في الأمر هو تعمدها، في هذا التوقيت تحديداً، الترويج مجدداً لنفوذها ودورها الإقليمي، وقدرتها على استهداف مصالح خصومها. ففي هذا السياق، قال قائد مقر “خاتم الأنبياء” في الحرس الثوري غلامعلي رشيد، في 25 سبتمبر الجاري، أن “القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني كان قد أبلغ القوات الإيرانية قبل مقتله بثلاثة أشهر (قتل في 3 يناير 2020)، بأنه نجح في تأسيس ستة جيوش تبدأ من حدود إيران وحتى البحر المتوسط وبطول يصل إلى 500 كيلومتر”، مشيراً إلى أن هذه الجيوش هى “حزب الله” اللبناني وحركتى “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين، والجيش السوري، وميليشيا “الحشد الشعبي” العراقية، وحركة المتمردين الحوثيين في اليمن.

ولم تكتف إيران بإطلاق تلك التحذيرات الضمنية، بل إنها اتخذت خطوات إجرائية على الأرض. ففضلاً عن شن ضربات عسكرية ضد مواقع المعارضة الكردية الإيرانية في الشريط الحدودي بين إيران والعراق، في 9 سبتمبر الجاري، فقد تم إرسال تعزيزات عسكرية جديدة إلى مناطق الحدود مع أذربيجان، في 28 من الشهر نفسه، بعد الانتقادات التي وجهها الرئيس الآذري إلهام علييف لإرسال إيران شاحنات عبر إقليم قره باغ، وإجراء مناورات عسكرية على الحدود.

اعتبارات عديدة

يمكن تفسير اتجاه إيران إلى رفع مستوى التصعيد مجدداً في المنطقة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تحذيرات متزايدة من محاور إقليمية جديدة: لا يمكن فصل هذه التحركات الإيرانية عن التحذيرات التي تطلقها اتجاهات إيرانية عديدة من سعى بعض القوى إلى تأسيس محاور إقليمية جديدة على حدودها. فقد كان لافتاً أن بعض الكتّاب الذين ينتمون لتيار المحافظين الأصوليين والقريبين من الحرس الثوري، على غرار سعد الله زارعي، بدءوا في التحذير من احتمال تشكل محور جديد يضم كلاً من تركيا وأذربيجان وأرمينيا وإسرائيل، يمكن، في رؤيته، أن يهدد أمن ومصالح إيران وروسيا. ومن هنا، ربما يمكن تفسير تعمد إيران التصعيد مع أذربيجان في هذا التوقيت تحديداً، وإطلاق تحذيرات من أنها لن تتسامح مع أية تحركات قد تفرض تهديدات على حدودها.

2- الضغط بهدف إنهاء الوجود العسكري الأمريكي: ما زالت إيران مُصِرَّة على ممارسة مزيد من الضغوط من أجل إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق. ومن هنا، بدأت في الربط بين هذا الوجود وبين مزاعمها حول تصاعد تهديدات المعارضة الإيرانية الموجودة في إقليم كردستان العراق، على نحو بدا جلياً في تصريحات رئيس الأركان الإيرانية محمد باقري، في 19 سبتمبر الجاري، التي قال فيها أن “الجماعات الإرهابية المعادية لإيران تنشط في إقليم كردستان العراق بسبب غض النظر من قبل سلطات الإقليم، وضعف الحكومة العراقية المركزية بسبب الوجود العسكري الأمريكي”.  

3- توجيه تهديدات غير مباشرة قبل مفاوضات فيينا: ربما تسعى طهران حالياً إلى توجيه تهديدات مباشرة للقوى الدولية قبل استئناف مفاوضات فيينا مع مجموعة “4+1” والتي تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر، مفادها أن فشل هذه المفاوضات في الوصول إلى صفقة تتيح استمرار العمل بالاتفاق النووي، سوف تكون نتيجته الأساسية هى اتساع نطاق التصعيد في المنطقة، خاصة أنها سوف تتجه في هذه الحالة إلى رفع مستوى أنشطتها النووية، وربما التلويح بأوراقها الأخرى، لاسيما ما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي لدى الميليشيات المسلحة.

وربما يمكن القول إن إيران لم تعد تستبعد فشل المفاوضات، رغم الجهود التي تبذل لاستئنافها، وهو ما يبدو جلياً في مؤشرات عديدة، على غرار محاولتها التشكيك في رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في العودة للاتفاق النووي، ومماطلتها الواضحة في تحديد توقيت انعقاد الجولة السابعة، فضلاً عن تعمدها كسب الوقت من خلال زيادة كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% إلى 10 كيلوجرام، وكمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20% إلى أكثر من 84 كيلوجرام، بشكل يساهم في اقترابها من مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.

4- الاستعداد مسبقاً لنتائج الانتخابات العراقية: يرتبط التصعيد الإيراني اللافت في العراق باقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العراقية، في 10 أكتوبر القادم، والتي تسعى إيران فيها إلى تمكن حلفائها من تكريس سيطرتهم على السلطة. وقد كان لافتاً أن هذا التصعيد تزامن مع الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى طهران، في 12 سبتمبر الجاري، على نحو يوحي بأن إيران تسعى إلى تأكيد أنها لن تتجاوب مع محاولات الحكومة العراقية الحالية تأسيس علاقات متوازنة معها، وأنها لن تتجه إلى تغيير سياستها القائمة على تعزيز نفوذها داخل العراق، خاصة أنها تتابع، على ما يبدو، بروز اتجاهات عراقية مناوئة لهذا الحضور وداعمة لدعوات إنهاء تصفية الحسابات الإقليمية على الساحة العراقية، وربما يكون لها تأثير في الانتخابات القادمة.

5- تعزيز التوافق بين الحرس الثوري وحكومة رئيسي: يبدو أن مرحلة جديدة من التوافق سوف تبدأ بين حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي والحرس الثوري، بعد التوتر “المكتوم” الذي شاب العلاقة بين الأخير وحكومة الرئيس السابق حسن روحاني، وعكسه الحديث المُسرَّب لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، وكشفت عنه تقارير عديدة في 25 أبريل الماضي، وانتقد فيه ظريف تدخلات “الباسدران” في مهام وزارة الخارجية لاسيما في الفترة التي تولى فيها القائد السابق لـ”فيلق القدس” قاسم سليماني مهمة إدارة العمليات الخارجية للحرس الثوري قبل مقتله في عملية عسكرية شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في 3 يناير 2020. ومن هنا، يبدو لافتاً أن التصعيد على أصعدة مختلفة في العراق وإقليم قره باغ، بالتوازي مع الإشارة من جديد إلى نفوذ إيران في دول الأزمات، كل ذلك يوحي بأن الأخيرة تسعى إلى تأكيد وجود توافق تام بين الحرس والحكومة في عهد الرئيس الجديد.  

ختاماً، يمكن القول إن هذا التصعيد سوف يتواصل، على الأرجح، خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل اقتراب موعد استحقاقات سياسية واستراتيجية عديدة قد تفرض تداعيات مباشرة على حالة الأمن والاستقرار في المنطقة.