ما زالت إيران حريصة على توجيه رسائل مزدوجة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تتراوح بين التهدئة والتصعيد، بسبب اتساع نطاق الخلافات بين الطرفين خلال المرحلة الماضية، بداية من تعثر المفاوضات النووية، مروراً بالانتقادات الأمريكية لتعامل السلطات الإيرانية مع المحتجين في الداخل منذ بدء الاحتجاجات في منتصف سبتمبر الماضي، وانتهاءً بالدعم العسكري الذي تقدمه إيران إلى روسيا عبر الطائرات من دون طيار، والذي يساعد الأخيرة في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
إذ أبدى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 27 فبراير الجاري، دعم بلاده لصفقة نووية جديدة مع القوى الدولية، رغم الخلافات المتعددة التي نشبت خلال مرحلة المفاوضات التي توقفت في سبتمبر الماضي، مشيراً إلى أن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، الذي كان يزور واشنطن، حمل رسالة أمريكية إلى إيران مفادها استعدادها للوصول إلى تلك الصفقة.
وبالتوازي مع ذلك، قال قائد مقر خاتم الأنبياء المركزي غلام علي رشيد، في اليوم نفسه، أن “أي دعم لممارسات إسرائيل ضد إيران يُعرِّض حياة الجنود الأمريكيين في المنطقة للخطر”، وذلك قبيل ساعات من انطلاق مناورات الدفاع الجوي “مدافعي السماء 1401″، التي ستغطي مساحة ثلثى سماء إيران. وقبل ذلك بأيام قليلة، وتحديداً في 24 فبراير الحالي، واصلت إيران تهديداتها بـ”الثأر” لمقتل قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري في 20 يناير 2020، بالتوازي مع الإعلان عن إنتاج صاروخ كروز يصل مداه إلى 1650 كيلو متر.
دوافع عديدة
يمكن تفسير حرص إيران على تجديد هذه الرسائل المزدوجة في هذا التوقيت تحديداً في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد حدة الضغوط الداخلية: تتعرض إيران في هذه الفترة لضغوط داخلية غير مسبوقة، ليس فقط نتيجة تجدد الاحتجاجات، بعد أن تراجعت نسبياً خلال الأسابيع الأخيرة، وإنما أيضاً بسبب انهيار العملة الوطنية (الريال) بعد أن اتجه الإيرانيون إلى شراء الدولار للحفاظ على مدخراتهم، ما أدى إلى وصول الدولار إلى أكثر من 500 ألف ريال.
وقد أثار ذلك ردود فعل سلبية داخل الأوساط السياسية والإعلامية الإيرانية التي شنت حملة قوية ضد حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، كان عنوانها الرئيسي فشل الفريق الاقتصادي في التعامل مع الأزمة الاقتصادية. ورغم أن الرئيس رئيسي سبق أن قام بتعيين محافظ جديد للبنك المركزي، في 29 ديسمبر الماضي، للسبب نفسه الخاص بوقف انهيار العملة الوطنية، إلا أن ذلك لم يتحقق على الأرض، حيث واصل الدولار ارتفاعه أمام الريال ليبلغ مستوى غير مسبوق.
وهنا، فإن اتجاهات عديدة في إيران باتت ترى أن “أخطاء” السياسة الخارجية الإيرانية هى السبب الرئيسي الذي يفسر تصاعد هذه الأزمة، حيث أن العقوبات الأمريكية فرضت تأثيرات داخلية قوية لم تستطع الإجراءات الحكومية تقليص حدتها.
2- تعزيز فرص الوصول إلى صفقة نووية: تسعى إيران إلى الوصول لصفقة نووية جديدة مع القوى الدولية، لكن بشروطها هي دون تقديم تنازلات. ويبدو أنها تحاول في هذا السياق استغلال دعمها العسكري لروسيا في الحرب الأوكرانية لامتلاك ورقة ضغط إضافية تحاول بها تعزيز موقعها التفاوضي، وانتزاع تنازلات من جانب الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بمستوى العقوبات الأمريكية التي سترفع في حالة إبرام اتفاق جديد، ورفع اسم الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية.
وفي رؤية طهران، فإن الوصول إلى صفقة نووية جديدة بدون الحصول على تنازلات كبيرة من جانب الدول الغربية يمكن أن يُعرِّضها للانهيار مجدداً، في حالة حدوث تغير في السياسة الأمريكية تجاهها مرة أخرى على غرار ما حدث في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي انسحب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.
3- تقليص قدرة إسرائيل على مواصلة العمليات الأمنية: لم تنجح الإجراءات التي اتخذتها إيران لوقف الاختراقات الأمنية لحدودها في تحقيق أهدافها، بدليل استمرار الهجمات التي تتعرض لها المنشآت العسكرية والنووية. وقد كان الاختراق الأبرز الذي تعرضت له في الفترة الماضية هو الهجوم على منشأة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع الإيرانية في أصفهان في 28 يناير الفائت.
كما أن جدلاً واسعاً تصاعد على الساحة الداخلية الإيرانية، في 23 فبراير الجاري، حول السبب في الانفجارات التي شهدتها منطقة كرج – التي سبق أن تعرضت إحدى منشآتها الخاصة بتصنيع وصيانة أجهزة الطرد المركزي لهجوم في 23 يونيو 2021- بعد أن أشارت وكالة “فارس” للأنباء، في 25 فبراير الحالي، إلى أن لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإسلامي ووزارة الاستخبارات الإيرانية عقدتا اجتماعاً بهدف دراسة الأحداث الأخيرة التي وقعت في كرج وأصفهان، من قبيل هجمات الأجسام الطائرة الصغيرة.
ويبدو أن إيران ترى أن تكرار هذه الهجمات لا يتم إلا من خلال التنسيق بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، خاصة أن الأولى معنية بدورها بمراقبة تطورات البرنامجين النووي والصاروخي الإيراني، فضلاً عن التدخلات الإقليمية الإيرانية، وهو ما بدا جلياً في تصريحات مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، في 26 فبراير الجاري، والتي قال فيها أن إيران تستطيع الوصول إلى نسبة 90% في تخصيب اليورانيوم في غضون أسابيع، إلا أنه أشار إلى أن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي لم يتخذ بعد قراراً سياسياً بالوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
4- تبني سياسة حذِرة تجاه الحلفاء: لا يمكن فصل حرص إيران على الاحتفاظ بخيار الوصول إلى صفقة، عن استمرار القلق الإيراني من السياسة التي يتبناها حلفاؤها، لا سيما الصين وروسيا، والتي انعكست في بعض التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية خلال الفترة الماضية. إذ ترى طهران أن علاقاتها الاستراتيجية مع الدولتين لم تمنعهما من محاولة توسيع هامش الخيارات المتاح أمامهما، حتى لو اقتضى الأمر رفع مستوى التعاون الثنائي مع خصوم إيران نفسها.
وهنا، فإن إيران لا تعمد إلى توجيه انتقادات قوية فقط لتلك السياسة، وإنما تحاول الرد عليها عبر تبني مقاربة موازية، تتضمن الإبقاء على قنوات تواصل مفتوحة، مباشرة وغير مباشرة، مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما توحي به تصريحات عبد اللهيان الأخيرة.
مقاربة مستقرة
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران سوف تواصل تبني هذه السياسة خلال المرحلة القادمة، وذلك لاعتبارات عديدة، منها رغبتها في احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية الداخلية التي تربطها باستمرار العقوبات الأمريكية، وحرصها على الاستعداد مسبقاً للتعامل مع ارتدادات قد تفرضها التفاهمات المحتملة التي يمكن أن يصل إليها حلفاؤها مع خصومها، لا سيما إسرائيل، خاصة في سوريا، التي تشهد حالياً تطورات ميدانية متسارعة على إثر الزلزال الذي وقع في 6 فبراير الجاري، وما زالت توابعه مستمرة حتى الآن.