رغم أن إيران تبدو مهتمة في الوقت الحالي بمتابعة تطورات المفاوضات التي تجري في فيينا وتستأنف اليوم، بعد عودة وفود التفاوض من عواصمها، خاصة أن الجولة الحالية ربما تكون الأخيرة؛ إلا أنه كان لافتاً اتساع نطاق الجدل مجدداً داخل إيران حول السياسة الخارجية الإيرانية، ولا سيما إزاء قضايا المنطقة، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في اتجاه تيار المعتدلين إلى إعادة توحيد صفوفه مجدداً استعداداً للاستحقاقات الانتخابية القادمة، وعدم قدرة القائد الحالي لـ”فيلق القدس” إسماعيل قاآني على القيام بممارسة الدور نفسه الذي سبق أن قام به القائد السابق قاسم سليماني، واتهام تيار المحافظين الأصوليين للمعتدلين بخدمة الأجندة الأمريكية والإسرائيلية، واتساع نطاق التباين حول أهمية الاتفاق النووي.
بدأ تيار المعتدلين (الذي يضم قيادات رئيسية تنتمي إلى الإصلاحيين على غرار الرئيس الأسبق محمد خاتمي، إلى جانب قيادات من المحافظين التقليديين أمثال الرئيس السابق حسن روحاني، ورئيس مجلس الشورى الأسبق علي ناطق نوري) في محاولة ترتيب صفوفه مجدداً من أجل الاستعداد مبكراً للاستحقاقات الانتخابية القادمة، وأولها الانتخابات البرلمانية التي سوف تجرى في عام 2024، وبعدها الانتخابات الرئاسية في عام 2025.
وقد كان لافتاً أن هذا التيار -الذي عقدت قياداته اجتماعات تشاورية خلال الفترة الأخيرة- بدأ في التركيز على توجيه انتقادات للسياسة التي تتبناها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي وتيار المحافظين الأصوليين، خاصة على صعيد القضايا الداخلية؛ إلا أن انخراط تيار المحافظين الأصوليين في حملة مضادة للمعتدلين أدى إلى توسيع نطاق الجدل ليشمل اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية إزاء قضايا المنطقة.
اعتبارات عديدة
وفي الواقع، يمكن تفسير اتساع نطاق الجدل على الساحة الداخلية الإيرانية حول قضايا المنطقة في ضوء اعتبارات عديدة:
1- استمرار التباين حول دور الحرس الثوري: ما زالت تدخلات الحرس الثوري في تحديد اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية تحظى باهتمام خاص في التفاعلات التي تجري على الساحة الداخلية الإيرانية، ولا سيما مع حلول الذكرى الثانية لمقتل القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في 3 يناير الفائت، إذ حرص وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف على إحياء الذكرى بنشر تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” يُشيد فيها بالدور الذي كان يقوم به سليماني في مكافحة الإرهاب، حيث قال: “العالم بحاجة إلى مقاتلين شجعان مثل قاسم سليماني، وليس دعاة حرب مثل ترامب ونتنياهو وشركائهما”. وقد حاول ظريف عبر ذلك تقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها على الساحة الداخلية بعد بث التسجيل المسرب له في 25 أبريل الماضي، والذي كان ينتقد فيه تدخل الحرس الثوري في تحديد اتجاهات السياسة الخارجية، وهي الخطوة التي فسرتها اتجاهات عديدة بأنها كانت متعمدة لدفع ظريف إلى عدم الترشح في الانتخابات الرئاسية مرشحاً لتيار المعتدلين وبالتالي تمهيد المجال أمام وصول إبراهيم رئيسي إلى المنصب.
2- تفاقم المشكلات في دول الأزمات: على نحو يبدو جلياً في العراق،حيث لم ينجح قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني حتى الآن في تسوية الخلافات العالقة بين التيار الصدري من ناحية وقوى “الإطار التنسيقي” من ناحية أخرى، حول تشكيل الحكومة الجديدة، في ظل إصرار الصدر على أن تكون حكومة أغلبية، وحرص “الإطار التنسيقي” على أن تكون حكومة توافقية. وقد تفاقمت حدة تلك المشكلات بعد إرجاء جلسة انتخاب رئيس الجمهورية إلى أجل غير مسمى، حيث لم تنجح الجولات التي قام بها قاآني في بغداد والنجف وأربيل في الوصول إلى تفاهمات حول ملفي تشكيل الحكومة وانتخاب الرئيس، ولا سيما في ظل إصرار “الحزب الديمقراطي الكردستاني” على التمسك بمرشحه للرئاسة هوشيار زيباري، وتمسك “الاتحاد الوطني الكردستاني” بمرشحه الرئيس الحالي برهم صالح.
3- تأثير الدعم المستمر للحلفاء الإقليميين: رغم أن إيران ما زالت مصرّة على استمرار تقديم الدعم لحلفائها في المنطقة، خاصة المليشيات المسلحة الموجودة في بعض دول الأزمات؛ إلا أن ذلك لم يمنع بروز اتجاه بدأ في التركيز على أن استمرار هذا الدعم يفرض ضغوطاً على الاقتصاد الإيراني في وقت يتعرض فيه لعقوبات أمريكية قوية أنتجت تأثيرات سلبية عديدة منذ انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018. وفي هذا السياق، أشار الكاتب الإيراني مازيار أكبري في مقالة نشرتها صحيفة “شرق” (الشرق) بعنوان “ما علاقة اليمن بنا؟” في 3 فبراير الجاري، إلى أن إيران في ظل الظروف الحالية لا تستطيع مواصلة تقديم الدعم لحلفائها في اليمن، وأنها يمكن أن تستعيض عن ذلك بمواصلة تقديم الدعم الاستشاري لهم.
4- اتهام المعتدلين بدعم أجندات خارجية: ما زال تيار المحافظين الأصوليين حريصاً على شن حملة قوية ضد الجهود التي يبذلها تيار المعتدلين من أجل تعزيز قدرته على العودة من جديد إلى دوائر صنع القرار في إيران، بعد أن تراجع حضوره بشكل كبير عقب انتهاء الولاية الثانية للرئيس السابق حسن روحاني في أغسطس الماضي. وقد بدا ذلك جلياً في الاتهامات التي وجهها رئيس تحرير صحيفة “كيهان” (الدنيا) حسين شريعتمداري إلى التيار في افتتاحية الصحيفة التي نشرت في 4 فبراير الجاري، بدعم التوجهات التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في الوقت الحالي، في إشارة إلى حرص الدولتين على التركيز على ضرورة اتخاذ خطوات إجرائية على الأرض لمواجهة الدور الذي تمارسه إيران على الساحة الإقليمية بالتوازي مع مواصلة إجراء مفاوضات فيينا للوصول إلى تسوية لأزمة الملف النووي.
وقد كان لافتاً استعادة تيار المحافظين الأصوليين الاتهامات التي سبق أن وجهها إلى الرئيس الأسبق محمد خاتمي بقيادة ما يسمى بـ”تيار الفتنة” في إشارة إلى “الحركة الخضراء” التي قادت الاحتجاجات التي شهدتها إيران في عام 2009 للاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن تجديد ولاية الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، حيث ما زال هناك حرص من جانب التيار على الترويج إلى أن الحركة كانت تتلقى دعماً خارجياً كان يهدف إلى تقويض دعائم النظام الإيراني.
5- اتساع نطاق الخلاف حول “أهمية” الاتفاق النووي: مع أن حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي تواصل إجراء المفاوضات في فيينا مع القوى الدولية للوصول إلى صفقة جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي، إلا أن ذلك لا ينفي أنها كانت تتبنى من البداية رؤية سلبية تجاه الاتفاق، وتتهم حكومة الرئيس السابق حسن روحاني وتيار المعتدلين بالوصول إلى صفقة تتضمن تنازلات كبيرة قدمتها إيران مقابل عوائد اقتصادية قليلة حصلت عليها، وأن إجراء المفاوضات في الوقت الحالي هو خيار اضطراري لتجنب تحمل مسئولية فشل الاتفاق النووي أمام المجتمع الدولي.
توتر مستمر
في ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران تبدو مقبلة على مرحلة جديدة سوف تشهد تصاعداً في حدة التوتر على الساحة الداخلية، بين تيار المحافظين الأصوليين الذي يسيطر حالياً على معظم مراكز صنع القرار إن لم يكن مجملها، وبين تيار المعتدلين الذي يقوده خاتمي وروحاني ويسعى إلى استعادة نفوذه السياسي من جديد، وإن كان ذلك يواجه عقبات عديدة لا تبدو هينة في الفترة الحالية.