رغم أن إيران تبدو في الفترة الحالية منشغلة بدراسة وتقييم المسارات المحتملة لمفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي، والتي توقفت حالياً بانتظار اتخاذ قرارات سياسية خاصة بالموقف من وضع الحرس الثوري على قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية؛ إلا أنها عادت مجدداً إلى إثارة ملف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، ولا سيما في كل من العراق وسوريا، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء دوافع عديدة تتعلق بمحاولة طهران ممارسة ضغوط أقوى على الإدارة الأمريكية لإنجاز الصفقة النووية، وتوجيه رسائل برفض المقاربة الأمريكية الخاصة بخفض التصعيد في المنطقة مقابل شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية، وتأكيد استمرار الحضور العسكري الإيراني في سوريا في ظل انخراط روسيا بالحرب في أوكرانيا، والسعي إلى تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
سعت إيران مجدداً إلى التركيز على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، رغم أنها ما زالت تمنح الأولوية في الوقت الحالي لاستشراف ما يمكن أن تؤول إليه المفاوضات في فيينا والتي استغرقت عاماً كاملاً ولم تنتهِ إلى نتيجة واضحة بعد. فبالتوازي مع تجدد الهجمات التي تتعرض لها قاعدة “عين الأسد” العراقية التي تتواجد بها قوات أمريكية بواسطة طائرات من دون طيار، حرص إمام جمعة طهران كاظم صديقي، في الخطبة التي ألقاها في 8 أبريل الجاري، على الفصل بين تلك الهجمات ومفاوضات فيينا، مشيراً إلى أن هذه الهجمات سوف تتواصل طالما استمر الوجود الأمريكي في المنطقة.
تصريحات صديقي تكتسب أهميتها من ناحيتين: الأولى، أنها تعبر، إلى حد كبير، عن رؤية المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي، الذي يتولى صلاحية تعيين أئمة الجمعة، وبالتالي فهو حريص على اختيار الشخصيات التي تتماهى مع توجهاته العامة إزاء القضايا الداخلية والخارجية. والثانية، أنها تعكس حرص طهران على مواصلة تبني سياسة مزدوجة عنوانها الرئيسي هو “التحدث بأكثر من لسان”، بما يعني عدم التركيز فقط في توجيه رسائل إلى القوى الإقليمية والدولية على تصريحات المسئولين الرسميين، وإنما السماح بإعطاء مساحة لرسائل غير رسمية تحقق الغرض نفسه دون أن تحسب على الدولة بشكل رسمي ومباشر.
اعتبارات عديدة
يمكن تفسير أسباب عودة إيران إلى التركيز على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- محاولة تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: رغم أن إيران ما زالت تبدي قلقاً تجاه التداعيات التي فرضها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، خاصة فيما يتعلق بتمكين حركة “طالبان” من السيطرة مجدداً على السلطة، في منتصف أغسطس الماضي؛ إلا أنها ترى أن هناك خبرات مستفادة في هذا السياق، أهمها أن سيناريو مشابهاً يمكن تطبيقه في حالة العراق، حيث إن أي انسحاب أمريكي بشكل كامل من العراق يمكن أن يهيئ المجال أمام المليشيات المسلحة الموالية لها لملء الفراغ. ورغم أن هناك فوارق عديدة في الحالتين العراقية والأفغانية، أهمها مدى التقدم في تدريب قوات الأمن والجيش العراقيين، فإن ذلك لا ينفي في الوقت نفسه أن تلك المليشيات تمتلك، وفقاً لرؤية طهران، من القدرات ما يمكن أن يدفعها إلى التحرك من أجل تحقيق هذا الهدف، على نحو يعزز من حضور إيران في العراق على مستويات مختلفة، والذي يواجه تحديات لا تبدو هينة في الوقت الحالي، بشكل انعكس في فشلها في احتواء أزمة تشكيل الحكومة العراقية القادمة بناءً على نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 10 أكتوبر الماضي.
2- تأكيد استمرار الحضور الإيراني في سوريا: لا تفصل إيران بين الضغوط التي تتعرض لها بتقليص وجودها في المنطقة في إطار ما يسمى بـ”خفض التصعيد”، وبين انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا. ففي رؤية اتجاهات عديدة في طهران، فإن انشغال روسيا في الحرب الأخيرة دفع قوى عديدة إلى ترجيح تراجع دورها ونفوذها في سوريا، على نحو ربما يضفي مزيداً من الزخم على الدعوات التي تطلق باستمرار بإخراج القوات الأجنبية من سوريا، لا سيما القوات الروسية والإيرانية. وهنا، فإن إيران تسعى عبر تجديد التركيز على الوجود الأمريكي في المنطقة إلى تأكيد أن حضورها في كل من سوريا والعراق لن يتراجع، لا سيما أن هناك قوى أخرى دولية وإقليمية لديها حضور أيضاً على الساحتين، بل إنها ما زالت تدعي أن وجودها العسكري في سوريا يتسم بطابع شرعي لأنه تم بناءً على طلب من الحكومة السورية، في حين أن الوجود العسكري لبعض القوى الأخرى غير شرعي، وعلى رأسه الوجود الأمريكي.
3- ممارسة ضغوط لإنجاز الصفقة النووية: لم تعد إيران تستبعد أن تفشل المفاوضات التي أجريت في فيينا على مدى عام، لإعادة إحياء الاتفاق النووي، خاصة في ظل تردد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في اتخاذ قرار بشطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، بسبب الضغوط التي تتعرض لها على الساحتين الداخلية والخارجية. ومن هنا، فإن إيران تسعى عبر تلك التصريحات، والهجمات، إلى ممارسة ضغوط أقوى على الإدارة الأمريكية من أجل إنجاز الصفقة النووية، وبالتالي رفع قسم كبير من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية عليها، ولا سيما على مستوى الصادرات النفطية الإيرانية وإعادة الاندماج في المنظومة الاقتصادية العالمية.
4- الرد على التصريحات الأمريكية المناوئة: تعمدت إيران إطلاق مثل تلك الرسائل للرد على التصريحات التي يدلي بها المسؤولون الأمريكيون، ويوجهون من خلالها تحذيرات من أن استمرار الهجمات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في المنطقة قد يؤدي إلى انهيار المفاوضات في فيينا. وهنا، فإن الإشارة الأهم في تصريحات كاظم صديقي تتمثل في أن تلك الهجمات سابقة على انعقاد مفاوضات فيينا، وقد بدأت تتزايد في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه. وبمعنى آخر، فإن إيران تريد أن تروج لأن السبب الأساسي في تصاعد تلك الهجمات يكمن في السياسة التي سبق أن تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
فضلاً عن ذلك، لا يمكن استبعاد أن تمثل تلك الرسائل رداً إيرانياً غير مباشر على التصريحات التي أدلى بها رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارك ميلي، أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، في 7 أبريل الجاري، والتي قال فيها إنه يعتقد أن فيلق القدس منظمة إرهابية، ولا يؤيد رفعه من قائمة المنظمات الإرهابية.
هنا، فإن إيران بدأت ترى أن فشل المفاوضات قد يكون احتمالاً قائماً، ومن ثم فإنها ارتأت ممارسة ضغوط مضادة عبر الإيحاء بأن هذا الاحتمال قد يفرض تداعيات سلبية على المصالح الأمريكية في المنطقة، ينصرف أبرزها إلى استمرار الهجمات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في كل من سوريا والعراق.
توتر إقليمي
في ضوء ذلك، يمكن القول إن المنطقة تبدو مقبلة على مرحلة جديدة من التصعيد والتوتر، لا سيما أن الخلافات العالقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في مفاوضات فيينا انتقلت إلى الجانب الخاص بالتدخلات الإقليمية الإيرانية، وهو ما لن يؤدي فقط إلى طرح مسارات متعددة لما يمكن أن تنتهي إليه المفاوضات، وإنما يساهم في انخراط قوى أخرى في هذا التصعيد على غرار إسرائيل التي تترقب بدقة وحذر المعطيات الجديدة التي سوف تتمخض عن أي مسار سوف تتجه إليه المفاوضات في النهاية.