مع تزايد احتمالات استئناف المفاوضات التي تجري في فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة، خلال الفترة القادمة، ما زالت إيران مُصرَّة على حصر تلك المفاوضات في البرنامج النووي فقط، دون التطرق إلى الملفات الأخرى الخلافية، على غرار التدخلات الإقليمية في المنطقة العربية وبرنامج الصواريخ الباليستية، والتي طالبت القوى الدولية بإدراجها على جدول المباحثات، باعتبار أن هذه الملفات لا تنفصل عن القضية الرئيسية للمفاوضات. ومن هنا، يمكن القول إن إصرار إيران على الفصل بين الملفات قد يفرض من البداية عقبات عديدة أمام استمرار العمل بالاتفاق النووي حتى لم تم التوصل إلى صفقة في المفاوضات التي تجري في فيينا تعزز من استمرار العمل به خلال المرحلة القادمة، على أساس أن الوصول إلى تسوية “مؤقتة” للخلاف حول البرنامج النووي، لن يعزز حالة الأمن والاستقرار في المنطقة، في ظل استمرار التصعيد في الملفات الأخرى، خاصة ما يتعلق بمواصلة دعم الميليشيات الموالية لإيران في دول الأزمات.
أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، في 21 سبتمبر الجاري، أن “مفاوضات فيينا سوف تستأنف خلال أسابيع قليلة”، وذلك بعد فترة من الانتظار امتدت إلى ثلاثة أشهر منذ توقف المفاوضات عند جولتها السادسة في 20 يونيو الماضي. وفي الواقع، ورغم أن ذلك ربما يوحي برغبة حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي في الانخراط مجدداً في المفاوضات، بهدف الوصول إلى تسوية للأزمة الحالية التي يتعرض لها الملف النووي، فإنه في كل الأحوال، لا ينفي أن ثمة خلافات وعقبات أوَّلية قد تؤدي إلى تقليص أهمية أى نتائج قد تسفر عنها تلك المفاوضات.
ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن إيران ما زالت ترفض توسيع نطاق المفاوضات ليشمل التدخلات الإقليمية في المنطقة العربية وبرنامج الصواريخ الباليستية، إلى جانب الاتفاق النووي، وهو المحور الرئيسي في المفاوضات. إذ أكد الرئيس إبراهيم رئيسي أكثر من مرة على أن المفاوضات سوف تبقى حصراً في الاتفاق النووي، ولن تمتد إلى الملفات الأخرى التي تعد خارج نطاق التفاوض في رؤية طهران.
أسباب عديدة
يمكن تفسير إصرار إيران على عدم إدراج الدور الإقليمي في المفاوضات في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- استمرار التصعيد مع الخصوم: ترى إيران أن دورها الإقليمي- أو بمعنى أدق تدخلاتها المستمرة في الشئون الداخلية لدول المنطقة- يمثل الآلية الأهم التي تمتلكها في إدارة صراعها مع خصومها الإقليميين والدوليين. واللافت في هذا السياق، أن إيران تتوقع أن يستمر هذا الصراع سواء تم التوصل إلى صفقة في فيينا حول الاتفاق النووي، أو فشلت المفاوضات في تحقيق نتائج بارزة في هذا السياق.
ومن هنا، فإنها سوف تصر على عدم التفاوض حول تلك التدخلات، حتى لو أدى ذلك إلى فشل المفاوضات في النهاية، باعتبار أنها غير مستعدة لتقديم تنازلات في هذا الملف، الذي يكتسب أهمية خاصة بالنسبة لها. وقد بدت أهمية هذا الملف تحديداً عقب قيام الولايات المتحدة الأمريكية بشن ضربة عسكرية بواسطة طائرة من دون طيار، في 3 يناير 2020، أسفرت عن مقتل قاسم سليماني القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري، حيث تمثل رد إيران في شن هجمات صاروخية على قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية، بعد ذلك بخمسة أيام. ورغم أن تلك الضربات لم تؤدي إلى سقوط ضحايا أمريكيين، فإنها في النهاية وجهت رسائل بأن إيران لديها قدرات تستطيع من خلالها استهداف مصالح أمريكية ورفع كلفة أى عمل عسكري أمريكي ضدها، ولا تنحصر في الصواريخ الباليستية، وإنما تمتد أيضاً إلى نفوذها لدى وكلائها الذين بدءوا بعد ذلك في شن هجمات متتالية ضد تلك المصالح.
2- عدم استبعاد انهيار الاتفاق النووي: ما زالت إيران تُعوِّل على استمرار العمل بالاتفاق النووي، وهو ما سوف يدفعها إلى الانخراط مجدداً في المفاوضات، إلا أن ذلك لا يعني أنها ما زالت مُصَّرة على الوصول إلى صفقة. إذ أن تصريحات المسئولين الإيرانيين، فضلاً عن تعمد الإعلان عن تطورات جديدة في البرنامج النووي مؤخراً، كل ذلك يتيح القول بأنها سوف ترفع سقف مطالبها في المفاوضات، على نحو قد لا تستطيع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الاستجابة له، بسبب الضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرض لها، بما يعني أن احتمال فشل المفاوضات ما زال قائماً ولا يمكن استبعاده. ومن هنا، فإن إيران لا تستطيع “المغامرة” بتوسيع نطاق التفاوض ليشمل الملفات الأخرى، على اعتبار أن الرهان الأساسي على الصفقة- وهو استمرار العمل بالاتفاق النووي- قد يتراجع وينهار في النهاية.
3- المحور الأساسي للمشروع الإيراني: يمثل الدور الإقليمي- أو التدخلات المستمرة في الشئون الداخلية للدول العربية- أحد أهم محاور المشروع الإقليمي الذي تتبناه إيران، واستنزفت فيه موارد كثيرة بشرية واقتصادية، حيث سعت دائماً إلى استغلال نفوذها الواضح لدى العديد من الميليشيات المسلحة في دول المنطقة من أجل تعزيز تمددها داخل تلك الدول، وهو ما يضع عقبات عديدة أمام أى محاولة لإجراء مفاوضات حول هذا الملف، باعتبار أن القوى الدولية التي تدعو إلى ذلك تحاول، في رؤية طهران، دفعها إلى تقديم تنازلات فيه، وهو ما لا يحظى بقبول من جانبها.
4- النفوذ القوى للحرس الثوري: سوف يقف الحرس الثوري باستمرار حائلاً دون فتح مثل تلك الملفات للتفاوض، باعتبار أن الدور الإقليمي- أو بعبارة أدق إدارة العمليات الخارجية- هى المهمة الرئيسية التي يقوم بها “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري في الخارج، على نحو يعني، في رؤية “الباسدران”، أن أى مفاوضات في هذا السياق سوف يكون هدفها تقليص نفوذه وفرض قيود شديدة على تحركاته على الساحة الإقليمية ومحاولة حصاره داخل حدود إيران. وقد كانت هذه الرؤية هى السبب الذي دفع “الباسدران” إلى العزوف عن دعم المفاوضات مع القوى الدولية والوصول إلى الاتفاق النووي، على أساس أن ذلك قد يمثل مقدمة للتفاوض حول ملفات أخرى قد لا تقل أهمية.
5- رؤية خامنئي للتمدد في الخارج: يتبنى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي رؤية متشددة في هذا السياق، تقوم على أن إيران- في عصر الولى الفقيه- لا تستطيع الانكماش داخل حدودها، وأن نفوذها “الناعم” العابر للحدود لا يمكن الاستغناء عنه، سواء لدعم المشروع الذي تتبناه الدولة، أو للحفاظ على بقاء النظام الحاكم في السلطة، بما يعني أنه يعتبر أن الحضور الإيراني في المنطقة يضيف إلى إيران رصيداً لا يمكن الاستعاضة عنه، حتى لو كان ذلك سبباً في إنفاق عوائد وموارد كثيرة للحفاظ على هذا الحضور.
وقد كان لافتاً أن خامنئي كان حريصاً بعد الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، على الإشارة إلى أن هذا الاتفاق ينحصر في البرنامج النووي، ولا يؤثر، بأى شكل، على الدور الإيراني في المنطقة. فبعد أربعة أيام من الإعلان عن الصفقة، كانت الرسالة الأهم التي وجهها خامنئي إلى القوى الدولية والإقليمية مفادها أن الاتفاق النووي لن يؤثر على دعم إيران لـ”أصدقائها” في المنطقة.
وربما يمكن القول في النهاية إن هذه الرسالة سوف يعاد توجيهها مرة أخرى سواء نجحت مفاوضات فيينا أو فشلت. ففي حالة نجاحها، فإن إيران ستكون حريصة على تأكيد أنها صفقة مرتبطة بـ”الملف النووي” حصراً ولا تمتد إلى “الملف الإقليمي”. أما في حالة عدم وصولها إلى نتائج إيجابية، فإن إيران قد تلجأ إلى رصيدها لدى وكلائها لرفع كُلفة هذا الفشل.