تبدي باكستان اهتماماً خاصاً برفع مستوى العلاقات الثنائية مع تركيا، ولا سيما على المستوى الاقتصادي، وهو ما بدا جلياً في الزيارة التي قام بها رئيس وزراء باكستان الجديد شهباز شريف إلى تركيا، خلال الفترة من 1 يونيو حتى 3 يونيو الجاري، والتي رافقه فيها وفد يغلب عليه الطابع الاقتصادي للمشاركة في اجتماعات منتدى الأعمال التركي الباكستاني. وفي رؤية تركيا، فإن ثمة اعتبارات عديدة يمكن أن تدفع في اتجاه تحقيق هذا الهدف، الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين الطرفين من مليار دولار إلى 5 مليارات دولار. كما يبدو أن أنقرة تعوّل بصورة كبيرة على علاقاتها مع باكستان، إذ إن هذه العلاقة تتسم بالاستقرار والثبات، وظهر ذلك في متانة العلاقة بين البلدين رغم رحيل عمران خان صديق أردوغان وحليفه. وعلى الجانب الباكستاني، فإن حكومة شهباز ترى أن العلاقة مع أنقرة باتت تحمل أولوية خاصة، إذ إنّ الدعم التركي لباكستان في أزمة كشمير كان رافعة أساسية لتعزيز التعاون بين البلدين.
إشارات كاشفة
يُمكن الإشارة إلى جملةٍ من المتغيرات التي مهدت الطريق أمام تعزيز التقارب بين أنقرة وحكومة شهباز شريف،وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تحولات الموقف التركي من نظام خان: اعتبرت تركيا أن تغيير التوازنات السياسية في الداخل الباكستاني بعد عزل البرلمان في 9 أبريل الماضي عمران خان الحليف الموثوق به لدى تركيا، ووصول زعيم المعارضة شهباز شريف للسلطة، انتصاراً للممارسة الديمقراطية في باكستان. هنا، يمكن فهم اتجاه أنقرة إلى التعامل مع الأمر الواقع الذي فرض وصول شهباز للسلطة، على نحو قد يساعد في استمرار التنسيق والتعاون بين أنقرة وإسلام أباد حول القضايا ذات الاهتمام المشترك. وتعد تركيا من أبرز تلك الدول التي بدأت في توجيه إشارات بأنها يمكن أن تدعم حكومة شهباز شريف، وبدا جلياً في تهنئة الرئيس التركي رئيس وزراء باكستان الجديد، وخلال اتصال هاتفي له مع شهباز شريف في 12 أبريل الماضي قال أردوغان: “إنني متأكد من أن أواصر الأخوَّة بين باكستان وتركيا ستتوطد أكثر فأكثر في عهدكم”.
2- رؤية شهباز لدعم العلاقة مع تركيا: ساهمت تصريحات رئيس الحكومة الباكستانية الجديد شهباز شريف، في 2 يونيو الجاري، عن الدور التركي في دعم بلاده، وحرصه على توطيد العلاقة مع أنقرة التي اعتبرها “بيتاً ثانياً لباكستان”، في توفير بيئة خصبة لتعزيز العلاقة بين البلدين، وظهر ذلك في تثمين المنتمين للنخب السياسية في تركيا على اختلاف انتماءاتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن تصريحات شهباز الإيجابية عن تركيا ليست جديدة، ولا هي الأولى من نوعها، ففي 20 مايو الماضي، وخلال مراسم إنزال السفينة الثالثة “بدر” في البحر ضمن مشروع “ميلغم” الذي تنفذه وزارة الدفاع التركية لصالح القوات البحرية الباكستانية، أشاد شهباز شريف، بالرئيس أردوغان، واصفاً إياه بـ”الأخ الكبير والصديق والداعم الكبير للقضية الباكستانية”. بالتوازي مع ما سبق، أشاد “شريف” في خطابه الأول أمام البرلمان بالعلاقات الجيدة مع تركيا ودول الخليج، وأعلن عزمه بناء علاقات تجارية وسياسية مع هذه الدول في المستقبل.
على صعيد متصل، فإن ثمة صورة لــ”شهباز شريف” في الذهنية التركية، إذ كان الرجل من الداعمين لأنقرة في محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف عام 2016، ناهيك عن إغلاقه كافة المدارس التابعة لمنظمة غولن في إقليم البنجاب حين كان رئيساً له في ذلك الوقت. كما حاول شهباز إبان ولايته لإقليم البنجاب اتّباع النموذج التركي لتطوير البنجاب، حيث كانت تشارك شركات تركية في إنجاز مشاريع الإقليم.
3- التأكيد على الدعم المتبادل: ثمة مؤشرات على توجه أنقرة وإسلام أباد نحو دعم بعضهما بعضاً في القضايا التي تحمل أولوية خاصة لكل منهما، وظهر ذلك في تأكيد شهباز شريف عشية زيارته لتركيا على أن بلاده تدعم قضية شعب جمهورية شمال قبرص التركية، ومطالبه المشروعة في الاستقلال. ومن جهتها، أكدت أنقرة رفضها الإجراءات الهندية التي تضمنت إلغاء الحكم الذاتي لإقليم كشمير المتنازع عليه بين إسلام أباد ونيودلهي، كما تعتبر أنقرة أن التغييرات الجذرية التي تُجريها الهند في الإقليم ذي الأغلبية المسلمة بهدف دمجه مع بقية أجزاء الهند، أدت إلى مزيد من التدهور في كشمير.
مصالح مشتركة
تُبدي تركيا اهتماماً خاصاً بتطوير العلاقات مع باكستان، وهو ما انعكس في عدم اصطفاف أنقرة إلى تيار سياسي محدد في إسلام أباد، وكشف عن ذلك إعلان دعمها حكومة شهباز شريف التي وصلت للسلطة في أبريل الماضي بعد الإطاحة بحليفها الأبرز عمران خان. وثمة محفزات تدفع الطرفين نحو دفع العلاقات، يمكن بيانها على النحو الآتي:
1- تعزيز المبادلات الاقتصادية: لا تنفصل زيارة رئيس وزراء باكستان عن رغبة بلاده في الاستمرار في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع أنقرة. وتعتبر باكستان وتركيا أن التعاون التجاري بينهما يوفر ميزات تنافسية لكليهما، خاصة في ظل إحجام عدد معتبر من القوى الإقليمية والدولية عن الانخراط في استثمارات اقتصادية في أنقرة وإسلام أباد بسبب التوترات السياسية، وتراجع قيمة عملتهما،وهو ما يفسر سعي تركيا وباكستان للحفاظ على دورية اجتماعات “منتدى الأعمال التركي الباكستاني”، فضلا ًعن رفع مستويات التبادل التجاري بينهما، والذي وصل إلى نحو مليار دولار بنهاية عام 2020.
وفي سياق توفير الفرص لرجال الأعمال من البلدين، للاستفادة من الفرص الاستثمارية التي يوفرها البلدان، وقعت تركيا وباكستان، في 2 يونيو الجاري، 7 اتفاقيات بمجالات مختلفة. ويشار إلى أن حجم الاستثمارات التركية المباشرة في باكستان يبلغ حوالي مليار دولار، فضلاً عن مشاركة الشركات التركية في نحو 71 مشروعاً بقيمة 3.5 مليارات دولار خلال السنوات العشرين الماضية في باكستان، بينما بلغت الاستثمارات الباكستانية في تركيا ما يقرب من 691 مليون دولار.
2- التوسع في التعاون الدفاعي: يُعد التعاون العسكري أبرز ما يجسد قوة العلاقة بين أنقرة وإسلام أباد، حيث يمثل البعد الأمني أحد المحددات الرئيسية في توجه أنقرة نحو تعميق التعاون مع باكستان، خاصة بعد أن تحولت الأخيرة إلى واحدة من أهم وجهات الأسلحة والأنظمة الدفاعية التي تنتجها الشركات التركية. ففي السنوات الثلاث بين 2016 و2019 وصلت قيمة صادرات الأسلحة التركية للجيش الباكستاني إلى 112 مليون دولار. كما وقع البلدان في عام 2018 أكبر صفقة عسكرية بقيمة تصل إلى نحو مليار دولار، تصدر بموجبها تركيا للجيش الباكستاني 30 مروحية من طراز “أتاك تي 129″، و4 سفن حربية ضمن مشروع “ميلغم” لتصنيع السفن الدفاعية الموقع بين البلدين.
ملامح حرص أنقرة على تطوير العلاقات الدفاعية مع باكستان، كشف عنها زيارة وزير الدفاع التركي لباكستان في 21 مايو الماضي. كما ستشارك تركيا خلال الفترة بين 15 و19 نوفمبر المقبل بمعرض باكستان الدولي للصناعات الدفاعية IDEA 2022. على صعيد ذي شأن، شارك البلدان في العديد من الدورات التدريبية والمناورات المشتركة، إضافة إلى تعميق التعاون في برامج التكنولوجيا النووية.
كما تدل الحفاوة التركية في استقبال رئيس وزراء باكستان الجديد شهباز شريف على مساعي تركيا للحفاظ على مكانتها لدى الهياكل المؤسسية في باكستان، وبخاصة المؤسسة العسكرية؛ إذ تعي تركيا أن شهباز شريف وعلى عكس عمران خان، حافظ على علاقة ودية مع الجيش الباكستاني الذي لا يزال يمسك بمفاصل الدولة الحساسة، وترتبط معه أنقرة بمصالح حيوية، ولا سيما في مجال الصادرات الدفاعية.
3- المساعدة في تمدد النفوذ التركي: لا يخفى أن بناء علاقات ودية مع باكستان يخدم أيضاً المصالح الاستراتيجية لتركيا في القارة الآسيوية، والتي تعمل على تعزيز وجودها فيها من خلال شراكة وعلاقة أعمق مع إسلام أباد. وتعي تركيا أن توطيد نفوذها في أفغانستان يبقى مرهوناً ببناء علاقات وثيقة مع باكستان ذات التأثير الواسع على حركة طالبان، كما أن تركيا تعمل على توظيف باكستان كورقة ضاغطة لتحييد الضغوط الدولية والإقليمية التي تواجهها في مناطق نفوذها الآسيوية.
4- استيعاب الضغوط الهندية: قد يكون للتوتر الحادث في العلاقات الباكستانية الهندية دور في تحديد أنماط التفاعلات التي تجري بين باكستان وتركيا، وذلك لعدة اعتبارات: أولها، التوتر الحادث في علاقات نيودلهي وإسلام أباد، والذي يدفعها دوماً إلى تعزيز تحالفاتها مع القوى الإقليمية الإسلامية لمواجهة التهديدات الهندية في إقليم جامو وكشمير. وثانيها، التأثير البارز الذي تفرضه السياسة التركية الرافضة للسياسات الهندية تجاه السلوك الهندي ضد المسلمين في إقليم كشمير. وهنا، يمكن القول إن حرص باكستان على تقزيم الدور الهندي، يبقى متغيراً مهماً في توجه باكستان نحو تفعيل التقارب مع تركيا.
خلف ما سبق، فقد برزت تركيا التي تمتلك حق النقض في “الناتو” فضلاً عن عضويتها في عدد من المؤسسات الأوروبية كواحدة من أكبر الداعمين لباكستان في قضية كشمير، وتشير الأدلة إلى أن بعض الدول الآسيوية والجهات الفاعلة المرتبطة بتركيا، عارضت التدخلات الهندية في منطقة جامو وكشمير.
تسريع التقارب
ختاماً، يمكن القول إن زيارة رئيس وزراء باكستان الجديد لتركيا، تكشف عن رغبة البلدين في تسريع وتيرة التقارب بينهما، وذلك لتحقيق المصالح الاستراتيجية لتركيا، وتوسيع نطاق تواجدها في القارة الآسيوية، ودفع صادراتها العسكرية لباكستان، مقابل سعي حكومة شهباز شريف لتطوير علاقاتها الخارجية، وتعزيز حضورها في الداخل الباكستاني، وقد يجد هذا التعاون بيئة خصبة للتطور، خاصة بعد نجاحات أنقرة في تجاوز حالة التوتر مع الدول الخليجية التي ترتبط بعلاقات استراتيجية مع إسلام أباد، ناهيك عن رغبة شهباز شريف في زيادة الانفتاح على تركيا التي تمثل له نموذجاً تنموياً يمكن استلهام العديد من خبراته وأفكاره.