صراع المصالح:
لماذا تتواصل الانقسامات السياسية داخل دول الأزمات؟

صراع المصالح:

لماذا تتواصل الانقسامات السياسية داخل دول الأزمات؟



تمثل محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة، في 10 فبراير الجاري، أحد المؤشرات الدالة على أن الوصول إلى تسوية للأزمة الليبية، كغيرها من الأزمات الإقليمية في المنطقة، ما زال يواجه تحديات لا تبدو هينة. فعلى الرغم من اعتماد آلية الحوار الوطني لإنهاء حالة التأزم السياسي في العراق وليبيا، إلا أن تلك العملية لا تزال متعثرة، في ظل صعوبات التوافق فيما بين المكونات السياسية المشاركة في الحوار على المستوى الوطني.

ويعتبر المراقبون الآليةَ على هذا النحو أفضل من تحول الأزمات السياسية إلى صراع أو احتراب، خاصة مع تداعي مشاهد التوتر الأمني على التوازي. وربما تتزايد احتمالات حدوث انفراجة في الأزمة السياسية العراقية، حتى وإن مرت ببعض التحديات، إلا أن انعكاسات التأزم في المشهد الليبي نتيجة تراكم عوامل الفوضى والانقسام قد تكون أكثر صعوبة مقارنة بغيرها من الأزمات الأخرى على المستوى الإقليمي. وقد بدا ذلك جلياً في القرار الذي اتخذه مجلس النواب الليبي، في 10 فبراير الجاري، باختيار وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيساً للحكومة الجديدة، وهو ما يرفضه الدبيبة الذي أعلن أنه لن يسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة، وأنه لن يسمح بمرحلة انتقالية جديدة.

حالات مزمنة

في واقع الأمر، كانت هناك حالات أخرى مزمنة ومستعصية على الحل، منها حالة الانقسام الفلسطيني بين فصيلَيْ فتح وحماس، والتي وصلت إلى 15 عاماً تقريباً من الانقسام، وهي حالة استثنائية نظراً لطبيعة الوضع الفلسطيني بشكل عام، والانقسام الجغرافي ما بين الضفة والقطاع. وكذلك الحالة اليمنية التي شهدت حواراً وطنياً بعد ثورة 2011، وعلى الرغم من اعتماد مخرجات الحوار الوطني كإحدى مرجعيات حل الأزمة اليمنية، إلا أن عملية تنفيذ تلك المخرجات جمدت في ظل الأزمة اليمنية، ولا يلوح في المدى المنظور إمكانية لتنفيذها، بل ستكون هناك حاجة لإعادة النظر فيها مرة أخرى على خلفية التطورات الهائلة التي مرت باليمن بعد مرحلة الحوار الوطني.

أسباب متعددة

تتمثل أبرز العوامل التي تؤدي إلى استمرار الانقسام بين القوى السياسية المختلفة داخل دول الأزمات في:

1- تباين آليات التعامل مع الأدوار الخارجية: ففي الحالة الليبية، رفع البرلمان شعار “حوار ليبي – ليبي” كنسخة ثانية من الحوار الوطني بعد فشل النسخة التي أطلقت في جنيف بعد انتهاء معركة طرابلس، والتي يمثلها ملتقى الحوار السياسي، الذي تشكل وأديرت فعالياته تحت رعاية الأمم المتحدة، وهو الموقف الذي يعارضه البرلمان حالياً. وكذلك في الحالة العراقية، أعلن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في أعقاب فوز تياره في الانتخابات التشريعية التي أجريت في 10 أكتوبر الماضي، عن أنه “لا يتلقى أوامر من خلف الحدود” في رسالة ضمنية لرفضه تحركات إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” الإيراني الهادفة إلى فرض تشكيل معين للحكومة يعزز ثقل الشخصيات والكيانات المقربة من طهران.

2- تشابك أجندات الأطراف الداخلية: لا يمكن استبعاد وجود أسباب داخلية تؤدي إلى استمرار الانقسام السياسي. ففي الحالة الليبية، لم تدفع الأطراف الخارجية برئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة إلى التمسك بالسلطة، بل على العكس من ذلك يسعى الدبيبة إلى الحصول على تأييد بعض الأطراف والقوى الخارجية للبقاء في المشهد. لكن في الوقت ذاته، فإن القوى الخارجية تنتقد موقف البرلمان في الإسراع في عملية تشكيل حكومة باعتبارها ليست أولوية مرحلية، حيث ستنتهي المرحلة الانتقالية بحلول يونيو المقبل، وبالتالي كانت القوى الخارجية تفضل استغلال تلك الفترة في الحوار الوطني بشأن الانتخابات حرصاً على عدم فقدان الزخم الشعبي بعد فشل إجراء الاستحقاق في 24 ديسمبر الماضي.

3- تغير توازنات القوى السياسية: أفرزت الانتخابات التشريعية في العراق مراكز قوى سياسية تسعى إلى الحفاظ على المكتسبات التي فرضتها نتائج الانتخابات، وبالتالي هناك حسابات داخلية تتعلق بتحولات موازين القوى، وطبيعة التحالفات الناشئة، سواء مع الكتل السياسية السنية أو الكردية. ورغم أن العكس جرى في الحالة الليبية، حيث لم تعقد الانتخابات، إلا أن النتائج كانت واحدة، فقد تشكلت تحالفات جديدة أيضاً في مرحلة ما بعد 24 ديسمبر الماضي، وفق الحسابات الداخلية ما بين مراكز القوى المختلفة التي تسعى إلى إعادة إنتاج نفسها من مرحلة انتقالية إلى أخرى.

4- تصاعد حدة التنافس المؤسسي: يعتبر الكثير من المراقبين أن الحوار الذي يجري في ليبيا خلال المرحلة الحالية لا يعكس نقاشاً وطنياً، بقدر ما يعكس مقاربات مؤسسية، ما بين مجلسَيْ النواب والأعلى للدولة، وبالتالي يهدف إلى إزاحة طرف فيما يتعلق بأزمة الحكومة، وتجاوز طرف آخر وهو “الملتقى السياسي”. لكن الملفات الأخرى المتعلقة بالمصالحة الوطنية، وإعداد قاعدة دستورية، لم تشهد حالة حوار وطني فعلية، وإنما تخضع لطبيعة مقاربات تلك المؤسسات، وتوجهاتها ومنظورها للمرحلة التالية. وفي الحالة العراقية، لا تبدو المقاربة مختلفة كثيراً، فالحوار ما بين الكتل السياسية يسعى إلى تشكيل السلطة التنفيذية وفق سياقات البرنامج السياسي للأغلبية، وبالتالي كل ما هو خارجها سيكون خارج دائرة التأثير والقرار السياسي الفعلي.

تداعيات صعبة

غالباً ما يسبب الانسداد السياسي في الحوارات الوطنية حالة من الانقسام، على نحو ما يجري أو ما هو متوقع في المشهد الليبي مع ترجيح احتمالات تعدد الحكومات. فالحكومة الحالية تشكلت بمقتضى حوار وطني، لكنها تتعرض حالياً لمحاولات إقصاء تفرضها تحالفات مؤسسية، وفي سياق تلك التعقيدات يجري التلويح باستخدام عصا الفصائل المسلحة، للهيمنة على مقرات السلطة في طرابلس، والعودة مرة أخرى إلى التصعيد المسلح. وكمؤشر على احتمالات خروج المشهد عن السيطرة، واستخدام القوة المسلحة، تعرض رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، في 10 فبراير الجاري، لعملية اغتيال فاشلة، عشية اليوم الذي أعلن فيه البرلمان أنه قرر اختيار حكومة بديلة.

وفي العراق، هدد قاآني بشبح عودة تنظيم “داعش” مرة أخرى إلى الساحة، كنوع من التذكير أو التلميح بأن انقسام البيت الشيعي سيُقوِّض مكتسبات تلك الأطراف التي تعتبر نفسها هي الضامن لهزيمة التنظيمات الإرهابية، على الرغم من عدم وضوح شرطية التماسك الشيعي في عملية مواجهة الإرهاب، إلا إذا تسببت هذه الانقسامات في صراع وانقسام ستكون له تداعياته على كيانات مثل “الحشد الشعبي”، أو تحوله إلى احتراب شيعي – شيعي، وهو سياق غير وارد في المشهد العراقي حالياً إلا بدفع خارجي. كذلك، فإن تنامي حضور “داعش” في العراق مرتبط بعوامل ومؤشرات أخرى. بل إن تزايد حوادث الاغتيالات والتصفيات التي تقوم بها فصائل مسلحة في العديد من المحافظات يكشف عن طبيعة الوضع الأمني بغض النظر عن طبيعة التحالفات السياسية.

آلية ضامنة

ختاماً، يظل الحوار الوطني رغم ما يشهده من تعثر هو الآلية الضامنة لمنع استمرار الانقسام وعدم الانزلاق إلى البدائل الأخرى التي عانت منها دول الأزمات، لا سيما الحروب الأهلية، والحروب بالوكالة؛ إلا أن طبيعة الحوارات الوطنية في دول الأزمات كشفت أن ثمة قصوراً في الممارسة العملية، حيث يتحول الحوار إلى طاولة تفاوض على صفقات سياسية، في أغلب الأحيان، على عكس المستهدف منه وهو تحقيق القدر الأكبر من التوافق السياسي لإنهاء الأزمات، كما يتحول الحوار الوطني بمرور الوقت إلى نوع من الاصطفافات السياسية، وهو أيضاً هدف يتناقض مع طبيعته التي يفترض أن تجمع شمل الأطراف وليس العكس.