على الرغم من إطلاق تصريحات أو دعوات أو مبادرات أو ملتقيات من قبل بعض الشخصيات أو الجماعات لتحقيق المصالحة الوطنية في بعض الدول العربية، على نحو ما جرى على مدار تفاعلات عام 2021، إلا أنها تتعثر لدواعٍ مختلفة، منها تعددية الملفات الخلافية بين الأطراف المتنازعة، وصعوبة النسيان الاجتماعي لمرارات الصراعات الداخلية المسلحة الممتدة، ورفض قطاعات مجتمعية واسعة المصالحة مع جماعات العنف والإرهاب التي تدعى استعدادها للتهدئة “التكتيكية”، وثِقل التركات السياسية والاقتصادية لدى النظم السياسية السابقة ومحاولاتها إعاقة الانتقال للنظم التي لازالت تتشكل من جديد، ومحدودية تجارب المصالحة الوطنية الناجحة في المنطقة العربية.
وتتعدد المداخل التفسيرية لتعثر دعوات تحقيق المصالحة الوطنية في هذه الدولة العربية أو تلك، وذلك على النحو التالي:
ملفات ضاغطة
1- تعددية الملفات الخلافية بين الأطراف المتنازعة: وهو ما ينطبق على الحالة الليبية، مثلاً، حيث يُوظِّفها الفاعلون السياسيون بما يحقق مصالح ذاتية آنية، على الرغم من أن المصالحة تحتاج إلى مشوار طويل قائم على إجراءات لبناء الثقة. فقد تعهد أحد المرشحين لانتخابات الرئاسة المقررة في 24 ديسمبر المقبل، بتحقيق المصالحة، وهو المشير خليفة حفتر، إذ دعا الليبيين في كلمة بثتها قنوات تلفزيونية في 16 نوفمبر الجاري إلى “ممارسة دورهم بأعلى درجات الوعي والمسئولية، وتوجيه أصواتهم حيث يجب أن تكون، لنبدأ معاً رحلة المصالحة”، مضيفاً أن “الانتخابات هي المخرج الوحيد من الأزمة الحادة التي انغمست فيها بلادنا، امتثالاً لقواعد الديمقراطية وتطبيقاً لخارطة الطريق المتفق عليها”.
كما قال عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي خلال تقدمه بأوراق ترشحه للرئاسة في 17 نوفمبر الجاري: “نعمل على تجاوز الماضي وطي صفحة الصراع والتطلع للمستقبل وإطلاق المصالحة الوطنية باعتبارها ركناً أساسياً لبناء الوطن واستقراره”، مؤكداً ضرورة ضمان استقلال القضاء وحصانته باعتباره “ضمانة أساسية لحماية الحقوق والحريات وركيزة أساسية يجب الاهتمام بها ضمن إعادة البناء”. ولعل هذه التصريحات التي جاءت على لسان اثنين من المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية الليبية تنطوي على مغازلة الناخب الليبي دون أن توضح كيفية تحقيق تلك المصالحة، بين أطراف مختلفة، على أسس مناطقية “شرق وغرب وجنوب”، وسياسية بين شخصيات محسوبة على النظام القديم وشخصيات داعمة لتيار ما بعد ثورة فبراير 2011.
فالمصالحة مسار وليس قراراً، تتطلب البحث عن إجراءات من شأنها احتواء كل الأطراف، وهو أمر من المتعذر حدوثه خلال مدى زمني قصير، لاسيما أن هناك مناطق وبلدات تصارعت مع نظيرات لها على مدى سنوات، وخلَّفت تأثيرات وذكريات لا يستهان بها، ولا يمكن تجاوزها بمجرد تصريح انتخابي أو تصور سياسي كالذي أعلنه رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي عن انطلاق مشروع المصالحة الوطنية الشاملة، لمجرد الإفراج عن الساعدي القذافي في 6 سبتمبر الماضي، حيث قال بيان المجلس الرئاسي أن “الشعب يريد طي صفحات الماضي المؤلمة وتجاوز الخلافات”، وأضاف: “نسعى لنبذ الفرقة وإيقاف نزيف الدماء”.
كما اعتبر بيان بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا أن عمليات الإفراج “خطوة مهمة نحو احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان، وتعد تطوراً إيجابياً يمكن أن يسهم في تحقيق عملية مصالحة وطنية قائمة على الحقوق وفي تعزيز الوحدة الوطنية بشكل أكبر”. ولعل ذلك يمثل تجزئة للنهج الذي يرمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية في مجتمع لازال منقسماً على أسس مختلفة. فليبيا 2021 تختلف بشكل كبير عن ليبيا 2011، وهو ما يتعين إدراكه قبل التفكير في تحقيق المصالحة الوطنية في مجتمع شديد القبلية.
مرارة الماضي
2- صعوبة النسيان الاجتماعي لمرارات الصراعات الداخلية: يشير اتجاه رئيسي في الأدبيات إلى أن أحد أبرز القضايا التي تثار في مرحلة ما بعد التحول من الصراع إلى السلم، ومن الفوضى إلى الاستقرار، ومن الكراهية إلى الوئام، وخاصة في ليبيا واليمن وسوريا والعراق والجزائر، يتعلق بمعالجة التأثيرات الناجمة عن هذه الصراعات وخاصة على صعيد البنى الاجتماعية، أو ما يطلق عليه “ترميم الذاكرة الجماعية المتشظية”. ولعل ذلك يفسر حظر تدريس العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر خلال الفترة (1992-2002) في المقررات التعليمية، في ظل تبادل الاتهامات بين الجيش والأمن الجزائري والجبهة الإسلامية للإنقاذ عن المذابح التي شهدتها البلاد، ونتج عنها قتلى وجرحي ونازحون ومفقودون.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن وزيرة التعليم نورية بن غبرايط (2016-2019) حاولت إدراج أحداث العشرية السوداء في مقرر مادة التاريخ في المدارس والجامعات، ولكنها لم تنجح. ولعل هذه الصيغ الصامتة تنطوي على مخاطر عدة، نظراً لتعدد وجهات النظر التاريخية المتضاربة، وهو ما قد تستغله بعض الجماعات كسلاح سياسي في مراحل ضعف أو اهتزاز مؤسسات الدولة الجزائرية.
كما أن ذلك ينطبق على المؤسسات الوليدة المعنية بتحقيق المصالحة في دول الصراعات العربية، ومنها ليبيا، التي لم تنجح في تحقيق الأهداف التي دشنت من أجلها، على الرغم من إعلان المجلس الرئاسي عن تشكيل مفوضية عليا للمصالحة الوطنية، في 5 أبريل الماضي، تكون مهمتها طي صفحة الماضي واستعادة الثقة بين الليبيين وتحقيق العدالة فيما بينهم لاستعادة السلم المجتمعي، بمشاركة جميع الأطراف الليبية، من كافة الفئات والمكونات الاجتماعية والجغرافية والانتماءات السياسية، بعد سنوات من الانقسام.
وهنا، تجدر الإشارة إلى الأثر النفسي لمناطق وقبائل مختلفة في ليبيا تجاه مدينة مصراتة، بعد استخدامها قوة السلاح والمليشيات في مواجهة المناطق والقبائل الأخرى لتعزيز هيمنة جماعة الإخوان على الداخل الليبي. لذا، قال رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة في كلمة أمام قيادات وأعيان مصراتة في 12 فبراير الماضي: “كانت هناك فزعة ثم دخلنا في حرب أولى وثانية وثالثة لأن هناك من يُسيِّرنا بطريقة معينة، الآن هناك حملة كره ضخمة لمصراتة، التي يجب أن تعود لحضن الوطن وتقود المصالحة”.
النبذ المجتمعي
3 رفض قطاعات مجتمعية واسعة المصالحة مع جماعات العنف والإرهاب: وينطبق ذلك جلياً على حالة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وذلك نتيجة الانتهاكات التي ارتكبتها الجماعة التي استباحت دماء المصريين بعد خروجها من الحكم عقب ثورة 30 يونيو 2013. وقد أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال حلقة نقاشية بعنوان “حقوق الإنسان..الحاضر والمستقبل”، ضمن فعاليات إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في 11 سبتمبر الماضي، إلى أن “ما حدث عام 2011 كان بمثابة شهادة وفاة للبلاد نتيجة التحديات الكثيرة التي وقفت أمامنا في هذا الوقت؛ حيث كنا نواجه عنصراً ظل 90 عاماً ينخر في عقل الإنسان المصري ولكن الدولة واجهته بحركة تنمية عالية”.
الإرث السابق
4- ثِقل التركات السياسية والاقتصادية لدى النظم السياسية السابقة: ولعل ذلك يشير إلى الحالة في السودان، حيث تسبب نظام حكم الإنقاذ على مدى ثلاثة عقود في الكثير من المشكلات التي تعاني منها البلاد، بل يعمل على إعاقة الانتقال منذ الإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير في إبريل 2019 عبر تحريك الشارع وإثارة الفتن ونشر الشائعات. فقد أشار رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك في 16 أغسطس الماضي إلى أنه “لا مصالحة مع نظام المؤتمر الوطني المنحل”.
خبرات ضعيفة
5- محدودية تجارب المصالحة الوطنية الناجحة في المنطقة العربية: تخلو المنطقة من تجارب أو خبرات يعتد بها في سبيل تعزيز خيار المصالحة الوطنية، باستثناء الحالة المغربية، التي تتوافق عليها معظم الكتابات في هذا السياق. في حين تعثر الوصول إلى تلك المصالحة في الحالتين الجزائرية والعراقية، مع اختلاف السياقات الداخلية والخارجية لكل منهما. هذا فضلاً عن تركيز عدد من المؤسسات الدولية والمنتديات الإقليمية على إنجاح المصالحات المحلية كخيار مُعزِّز للمصالحات الوطنية في مرحلة لاحقة مثل دعم البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لمشروع المصالحة المتكاملة الخاص بالحكومة العراقية وإقليم كردستان خلال الفترة (2017-2021) من خلال إنشاء بنى تحتية مُعزِّزة للسلام، مع التركيز على المجتمعات والأقليات الأكثر ضعفاً في العراق لاسيما في ظل تفشي وباء كورونا ووجود ضحايا للعنف في مناطق النزاعات.
كما أن الحالة الفلسطينية التي كان يفترض أن تشهد توحداً بين الفصيلين “فتح” و”حماس” تعثرت في ظل الاتهامات المتبادلة وتناقض المشروع السياسي بين الحركتين، بل إن هناك خلافات داخل حركة “فتح” ذاتها أو ما يطلق عليه “الجسد الفتحاوي”، الأمر الذي يفسر تعثر إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وقد جددت حركتا “حماس” و”فتح” تبادل الحملات عشية كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي، حول الطرف الأحق بالشرعية في تمثيل الشعب الفلسطيني، وذلك بالتزامن مع حملة “حماس” للتوقيع على عريضة تطالب بإجراء الانتخابات بعد 15 عاماً على توقفها.
مسار طويل
خلاصة القول، إن إنهاء الخلافات أو العداوات التي خلَّفتها وراكمتها الصراعات السياسية أو المسلحة في العديد من الدول العربية لا يمكن تحقيقه بسهولة في أمد زمني محكوم، نظراً لحزمة من العوامل السابق الإشارة إليها، وأبرزها تعدد التصورات بالنسبة لتحقيق المصالحة الوطنية، فضلاً عن القضايا الضاغطة للوصول إليها مع الأخذ في الاعتبار أن المصالحة تقتضي السير في اتجاه ترتيب الأجواء الداخلية وبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة وبدء صفحة جديدة بين قوى المجتمع وجبر الضرر على المواطنين بقدر الإمكان، وعدالة توزيع الثروة والتنمية المستدامة. بعبارة أخرى، يقتضي أن تؤمن القواعد المجتمعية بجدوى المصالحة الوطنية، وليس مجرد تصور للسلطة السياسية في هذه الدولة العربية أو تلك.