دائرة مغلقة:
لماذا تتصاعد حدة الأزمة السياسية في العراق؟

دائرة مغلقة:

لماذا تتصاعد حدة الأزمة السياسية في العراق؟



لا يزال المشهد السياسي العراقي في المختنق السياسي ما بين قطبى الأزمة: “التيار الصدري” و”الإطار التنسيقي”. وتُشير تفاعلات الأزمة إلى صعوبة الانتقال إلى منعطف التسوية السياسية بين الطرفين، مع فشل آلية الحوار المباشر أو عبر الوسطاء كمخرج لتسوية الخلاف المتصاعد بينهما؛ بل إن منظور كل طرف لشكل الحوار وطبيعته عمّق الخلاف.

إذ يرى “الإطار” أن الحوار يمثل آلية للدخول في نقاش حول العملية السياسية، وخصوصاً عملية تشكيل الحكومة، على نحو دفعه إلى تلبية دعوة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قبل عدة أيام، من دون مشاركة “التيار” الذي أعلن زعيمه مقتدى الصدر أنه “لن يجلس مع من يريدون قتله”، داعياً إلى مناظرة علنية ليُخرج كل منهم ما في جعبته من المسكوت عنه، وبالتالي يطرح “التيار” منظوراً آخر للحوار على الملأ لمناقشة قضايا أخرى تتعلق بتصفية حسابات سياسية في المقام الأول.

حملة مستمرة

يُعطي التيار انطباعاً في الأزمة السياسية بأنه يتحول إلى حركة إصلاحية، مستنداً إلى رصيده السياسي ومواقفه تجاه القضايا الوطنية، بالتوازي مع قصف جبهة خصومه السياسيين، ومحاولة إظهارهم على أنهم “فاسدون”. وقد استخدم صالح محمد العراقي، المتحدث باسم التيار والمعروف بوزير الصدر، تعبير “ثورة الإصلاح” عنواناً لهذا السياق، حيث يحشد أنصاره من مختلف الطوائف تحت مظلته.

إلا أن هذا السياق تواجهه عدة تحديات، لعل أبرزها تحول المشهد إلى ساحة للمبارزة السياسية، فنواب ومراقبون محسوبون على “الإطار” اعتبروا أن الموقف الشخصي للصدر تجاه رئيس الوزراء الأسبق زعيم ائتلاف “دولة القانون” نوري المالكي ينسحب على الموقف من “الإطار التنسيقي” بشكل عام، في حين أنه كان يتعين عليه أن يفصل بين مكونات “الإطار”.

ودلالة ذلك أن العديد من مكونات “الإطار” قبلت بالفكرة، بل إن أكثرها خصومة مع “التيار”، وهي “عصائب أهل الحق”، أيدتها، حيث صرح القيادي في الحركة محمود الربيعي بأن “المناظرات العلنية المباشرة من أكثر الأساليب الديمقراطية وضوحاً للجمهور وكشفاً للمخفيّ من الأمور”. فيما أشار آخرون إلى أن الصدر الذي يطعن في العملية السياسية حالياً لم يكن خارجها من قبل، بل كان شريكاً فيها. كما أيدت حنان الفتلاوي رئيسة كتلة “إرادة” البرلمانية، الخطوة، مشترطة ضمان سلامتها بعد المناظرة. وعلى نفس الخطى، أيد نواب من تيار “الحكمة” المناظرة العلنية. لكن من جهة أخرى، لم يصدر موقف رسمي موحد من “الإطار التنسيقي”، مما يعني أن تلك الأصوات حسبت بشكل فردي ومستقل ولا يُعتد بها.

حسابات “صفرية”

في السياق ذاته، يرى مراقبون محليون، من زاوية أخرى، أن الصدريين يعتبرون أن اللجوء إلى المناظرة العلنية يمثل ورقة ضغط على الخصوم، لكنه -في الوقت ذاته- يعكس مدى الافتقار إلى الواقعية السياسية، إذ أنه يأتي بعد سحب ورقة المظاهرات التي كان قد أعلن عنها مطلع الأسبوع، والتي فقدت زخمها، حيث أن الهدف المعلن منها كان تعطيل انعقاد البرلمان الذي انسحب منه “التيار” في سياق رغبة الصدر بالذهاب إلى انتخابات مبكرة. إلا أن البرلمان أصبح معطلاً بالفعل لكن دون الذهاب إلى الانتخابات المبكرة، فـ”الإطار التنسيقي” يشترط عقد جلسة للبرلمان وتشكيل حكومة محمد الشياع السوداني حتى يمكن الذهاب لاحقاً إلى الانتخابات المبكرة حال التوافق على ذلك.

وبالتالي، تأتي خطوة الذهاب إلى المناظرة العلنية كورقة ضغط أخرى من جانب “التيار”، خشية أن تخرج المظاهرات عن السيطرة وتتحول إلى احتراب أهلي، أو شيعي – شيعي، كما أن جوهر الدعوة إليها كان رغبة من الصدر في التمايز بين “الفسطاطين”. لكن يبدو أنها عكست حسابات خاطئة تقود إلى نقل الساحات إلى دائرة جدل جديدة، أو مباراة “صفرية”. أما بالنسبة لـ”الإطار التنسيقي”، فإن رفض المناظرة العلنية يأتي على أساس حسابات عديدة، من بينها أن القبول بالمناظرة هو “فخ سياسي”، بالإضافة إلى أن تأييدها يعني الرضوخ لتوجيهات الصدر للمسار السياسي.

على الجانب الآخر، فإن تحركات “الإطار” تسير في اتجاه عملي مختلف، إذ يسعى إلى استقطاب حلفاء الصدر إلى صفه، وبدأت خطوات هذا الحراك الأولى من خلال الزيارة التي قام بها القيادي في “الإطار” هادي العامري إلى إقليم كردستان. ورغم عدم الكشف عن فحوى ما جرى تفصيلاً، فإن “الاتحاد الوطني الكردستاني” -على سبيل المثال- دعا القوى السياسية إلى مواصلة الحوار لإنهاء الأزمة السياسية التي وصفها بالخطيرة، كما اعتبر أن غياب الكتلة الصدرية يهدد مستقبل العملية السياسية. لكنه -من جهة أخرى- انحاز إلى موقف “الإطار” في الدعوة إلى انعقاد البرلمان لتجنيب البلاد العديد من الأزمات وفي مقدمتها الأزمة المالية.

أدوار الوساطة

لعبت جنين بلاسخارت المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، دور ساعي البريد بين الفرقاء خلال المرحلة السابقة، وهو ما يظهر من البيانات المتوالية للأطراف، إلا أن هذا الدور بدا أنه قابل للتطور، مع مشاركة بلاسخارت في حوار الكاظمي. كما انطوت دعوة الصدر للمناظرة العلنية على تأكيد أنها ستتم برعاية أممية، لكن يبدو من طبيعة التحركات حرص بلاسخارت على عدم الالتزام بالسقف الدبلوماسي لحدود الحركة بالنظر إلى حساسية الوضع، لا سيما وأن الخلاف بات داخل “البيت الشيعي”.

على الجانب الآخر، تراجع ظهور قائد “فيلق القدس” الإيراني إسماعيل قاآني في مشهد الأزمة، إذ يحسبه أغلب المراقبين طرفاً في الأزمة وليس وسيطاً نزيهاً، خاصة في ظل الخريطة السياسية ما بين “الكتلة الولائية” المحسوب عليها أغلب مكونات “الإطار” مقابل “الكتلة القومية” التي يمثلها “التيار”. لكن هذا التراجع قد يكون جزءاً من سياسة طهران تجاه المشهد العراقي ومعادلات موازين القوى فيه، طالما لم تتجاوز الأطراف الخط الأحمر بالانزلاق إلى الاحتراب الشيعي-الشيعي، بغض النظر عن الإبقاء على الأزمة ساخنة، أو الرد على تلميحات “التيار” برفض استدعاء الخارج في إشارة مبطنة إلى إيران، وهو سياق آخر ربما تخشى معه طهران من التدخل لدى الصدر الذي قد يحرج موقفها.

كذلك، يبدو الموقف أكثر تعقيداً بالنسبة للمرجع العراقي الأبرز علي السيستاني، الذي يراقب المشهد على حد ما نُسب لمقربين منه، مع التحذير من تجاوز الخط الأحمر. لكن هذا الوضع بالنسبة للمرجعية العراقية لم يكن كافياً للإجابة عن سؤال: “متى يتدخل السيستاني؟”، وهو سؤال يبدو أنه إنما طُرح لرغبة الكثيرين في التدخل أكثر من كونه تساؤلاً. فيما يرى مراقبون أن غيابه -في حد ذاته- يحمل نوعاً من اللوم لكافة الأطراف، ويستشهد هذا الفريق باستمرار تعليق السيستاني لخطبة الجمعة، وعدم خروجه من الاعتكاف الذي دخله منذ بدء جائحة “كورونا”، لكنّ فريقاً آخر يرى أنه قد يتدخل في الوقت المطلوب بما يضمن التزام كافة الأطراف بما سيقرره، وهو ما فهم من لقاء بلاسخارت خلال زيارتها للمرجعية مؤخراً.

اختبار حاسم

ثمة تسريبات رائجة حول احتمال سحب “الإطار” مرشحه لرئاسة الوزراء (السوداني)، إلا أن تعليق هذا الموقف إنما حدث لانعدام الثقة بين الطرفين، والخوف من عدم جدواه بالنسبة لـ”الإطار” مع مضيّ الصدر إلى التصعيد، وإصراره على حل البرلمان، لا سيما وأن مراقبين كشفوا أن “التيار” استغل هذه التسريبات للإشارة إلى أن “الإطار” لا يمتلك موقفاً موحداً.

وبالتوازي مع ذلك، يترقب كافة الأطراف موقف القضاء من القضايا المرفوعة من جانب الصدر وآخرين بخصوص حل البرلمان نهاية الشهر الجاري، وهو ما قد يأخذ الأزمة إلى مربع آخر، ربما يكون من بينها مربع الخروج من المأزق الراهن.