أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 3 نوفمبر الجاري عن نجاح إطلاق تجربة صاروخ “تايفون” الباليستي من منطقة على ساحل البحر الأسود إلى نقطة أخرى تبعد مئات الكيلومترات، وهي المرة الأولى التي يُعلن فيها عن أن تركيا بدأت تجارب فعلية على برنامج لصناعة صاروخ باليستي. وسبق هذا الإعلان تأكيد الرئيس أردوغان على نجاحات واسعة لبلاده في مجال الصناعات الدفاعية في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالمسيّرات الجوية والبحرية والسفن الحربية وبرنامج الطائرة الحربية المقاتلة والدبابات والمدرعات فضلاً عن غيرها، استعداد بلاده لإطلاق قمر صناعي جديد إلى مدار الأرض باستخدام الصاروخ “قائم”، خلال هذا العام.
ولم يكن الإعلان عن الصاروخ “تايفون” هي الأولى من نوعها في التوقيت الحالي، ففي نهاية أكتوبر الماضي كشف “ياسين أكديري”، المدير العام لشركة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التركية (MKE)، عن إنتاج الشركة لنظام دفاع جوي جديد من الفئة قصيرة المدى، واصفا إياه بأنه “جنوني”.
دلالات متنوعة
كشف أنقرة عن إنتاجها صاروخ باليستى، ونظام دفاع جوي تم تطويره بالكامل بمكونات محلية، بما في ذلك برمجياته، يحمل في طياته دلالات مهمة يمكن بيانها على النحو التالي:
1- التنافس لاكتساب ميزة تنافسية بمجال الصناعات الدفاعية: تتجه القوى الإقليمية والدولية سواء حلفاء تركيا أو خصومها على السواء نحو الاستثمار بكثافة لتعزيز قدراتها في مجال الصناعات الدفاعية، خاصة في ظل التنافس العالمي لاكتساب ميزة تنافسية في هذا القطاع، الذى تمثل صادراتها مورداً أساسياً للميزانية التركية، وهو ما يدفعها إلى التطلع للاستفادة من الفرص التي توفرها النجاحات التي حققتها في مجال الصناعات الدفاعية، وبخاصة في مجال الطائرات المسيرة، لتعزيز صورتها في الأسواق الدولية، وتوفير أكبر لصادراتها الدفاعية.
2- التصعيد في مواجهة الضغوط الغربية: أتى هذا الإعلان من جانب تركيا في ظل تعثر المفاوضات التي تجريها مع الولايات المتحدة بشأن الحصول على طائرات F16، وبرغم إبداء إدارة بايدن مرونة لافتة بشأن الاستجابة لطلب قدمته أنقرة في العام 2021 للحصول على 40 طائرة من طراز F16 إلا أن الكونجرس الأمريكي لا يزال يعارض منح تركيا هذه المقاتلات بعد أن حصلت على أنظمة صواريخ دفاعية روسية الصنع، مما أدى إلى فرض عقوبات أمريكية واستبعاد تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة F35.
كما يتزامن الإعلان التركي عن إنتاج منظومات تسليحية جديدة مع تصاعد حدة التوتر بين أنقرة وأثينا، فبينما تتهم أنقرة أثينا بتسلح جزرها شرق بحر إيجة بشكل غير قانوني، وهو أمر محظور بموجب معاهدة لوزان لعام 1923 ومعاهدة باريس لعام 1947 ناهيك عن إعلان الرئيس التركي في أكتوبر الماضي عن أن بلاده ستتخذ الخطوات اللازمة في حال استمرت التهديدات اليونانية ضدها، مؤكدا أن “للصبر حدودا”، من جهته أكد رئيس وزراء اليونان “كيرياكوس ميتسوتاكيس” في 8 نوفمبر الجاري أن بلاده تعتزم بدء التنقيب عن الغاز الطبيعي في جنوب غربي جزيرة كريت خلال الأيام المقبلة، ومن شأن هذه الخطوة أن تزيد حدة التوتر بين اليونان وتركيا، وتنذر بعسكرة الأزمة بينهما. وهنا، يمكن فهم إعلان تركيا عن إنتاج صاروخ تايفون الباليستى، خاصة أن ثمة مخاوف يونانية من توسع تركيا في برامج أضخم تتعلق بإنتاج الصواريخ الباليستية التي تغطي كافة الأراضي اليونانية.
3- معالجة إشكاليات الواردات العسكرية: على الرغم من اتجاه تركيا إلى تنويع وارداتها العسكرية خلال الفترة الماضية، إلا أن تركيا ربما وجدت هذه السياسة غير مجدية نظرًا لاستنزافها كمًّا هائلًا من الموارد المالية بالإضافة إلى أن حصول تركيا على بعض الصادرات العسكرية من الخارج يفرض عليها أعباء سياسية وإلتزامات تجاه الدول الموردة للصناعات الدفاعية، وهو ما قد يتعارض مع مصالحها وتوجهاتها. لذلك، فإن تطوير الصناعات الدفاعية المحلية بات أولوية في استرتيجية تركيا العسكرية لتلبية احتياجاتها، وتفادياً لضغوط الدول الموردة للصناعات الدفاعية.
4- التغطية على الأزمة الاقتصادية: تعاني تركيا من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ويكشف عن ذلك تدهور سعر صرف العملة الوطنية -الليرة- التي فقد نحو ثلث قيمتها بالإضافة إلى تصاعد معدلات التضخم والتي وصلت إلى ما يقرب من 85 في المئة، وتراجع الأوضاع المعيشية بسبب الارتدادات السلبية التي أفرزتها أزمة كورونا ناهيك عن التأثيرات الاقتصادية للحرب الأوكرانية التي طالت دول المنطقة، وبخاصة تركيا. ويعتقد البعض أن أردوغان يُوظف مثل هذه الاكتشافات في مجال الصناعات الدفاعية للتحايل على تعثر الاقتصاد، والقفز على حالة الغضب لدى قطاعات شعبية واسعة بسبب تراجع مستويات المعيشة وغلاء الأسعار.
أهداف مختلفة
يشير كشف تركيا النقاب عن إنتاج منظومات تسليحية جديدة إلى أنها تستهدف تحقيق العديد من الأهداف، ويمكن توضيح ذلك عبر ما يأتي:
1- تأمين “العمق الاستراتيجي” للدولة التركية: تسعى تركيا من خلال تطوير قدراتها الدفاعية، وبخاصة في قطاع الصواريخ الباليستية والأنظمة الدفاعية المحلية للتصدي للتطور المتسارع في قدرات خصومها الإقليميين، وتهديدهم للعمق الاستراتيجي لتركيا ناهيك عن معاداة التحركات التركية في مناطق نفوذها، وبخاصة في منطقة شرق المتوسط، حيث نجحت اليونان وقبرص في تحشيد المواقف الغربية والإقليمية المناهضة لعمليات التنقيب التركي عن مكامن الطاقة في المتوسط. كما ستقوم تركيا بتوظيف الصاروخ الباليستى “تايفون”، ونظام الدفاع المحلي الذى أعلنت عنه في نهاية أكتوبر الماضي شركة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التركية (MKE)، والمقرر أن يدخل خدمة الجيش التركي نهاية العام الجاري، لتأمين الأجواء التركية ضد المخاطر والتهديدات.
2- تنامي الدور الذي تلعبه الصادرات الدفاعية في الاقتصاد الوطني: أفضت مساهمة قطاع الصناعات الدفاعية بدرجة متزايدة في إحداث تحولات في القطاع الاقتصادي، إلى قناعة الحكومة التركية بضرورة توسيع قاعدة الاستثمار في المجال الدفاعي. ويشار إلى أن عوائد الصادرات من الصناعات الدفاعية التركية وصلت خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري ما يقرب من 2.6 مليار دولار، بزيادة أكثر من 40% عن نفس الفترة من عام 2021. كما تبيع شركات الدفاع التركية منتجاتها إلى أكثر من 80 دولة، وقفزت صادراتها الدفاعية من 248 مليون دولار فقط في العام 2002 لتصل إلى نحو 2.27 مليار دولار في العام 2020، ونحو 3.22 مليار ولار بنهاية العام 2021. كذلك قفز عدد المشاريع الدفاعية التي نفذتها الشركات المحلية مع مجئ حزب العدالة والتنمية في العام 2002 من 66 مشروع إلى ما يقرب من 800 خلال العام الماضي.
3- تعزيز مكانة الصناعات الدفاعية التركية على المستوي العالمي: أوضح الاهتمام التركي بالمضي قدماً في تعزيز صناعاتها الدفاعية، وتطوير قدرتها في إنتاج الصواريخ الباليستية مستقبلاً، وكذلك الإعلان في 25 أكتوبر الماضي عن إضافة منتجا جديدا لقائمة منتجات تركيا من المسيرات الانتحارية “كاميكازي”، والتي تم تطويرها محليا، وأطلق عليها “دلي” Deliأن رؤية هيئة الصناعات الدفاعية التركية فيما يتعلق بالإنتاج الدفاعي تدور حول تعزيز دور الهيئة لكي تكون واحدة من أهم المؤسسات الأكثر فاعلية وكفاء وموثوقية وتأثيراً في مجال الصناعات الدفاعية حول العالم.
4- تأكيد القدرة على ردع الخصوم الإقليميين: يعكس إعلان تركيا عن إنتاج منظومات تسليحية جديدة في قطاعات عسكرية مختلفة عدة مزايا لتركيا، أهمها التأكيد على قدرتها لتطوير صناعاتها الدفاعية بجهود وإمكانات محلية، والحفاظ على صادراتها في هذا التوجه، فضلاً عن ردع خصومها، خاصة أن تفوقها في البرامج الدفاعية بات يثير قلق خصومها الإقليميين، وبخاصة قبرص واليونان.
تحديات ضاغطة
ختاماً، يمكن القول أن إعلان تركيا عن التطور الهائل في قطاع الصناعات الدفاعية، وفي الصدارة منها إنتاج صاروخ باليستى، ونظام دفاعي جديد في هذا التوقيت يدل على اتجاهها للاستمرار في تطوير برامجها الدفاعية محلياً خلال الفترة المقبلة، لاسيما في الوقت الذي تتعثر فيه المفاوضات مع الولايات المتحدة سواء للحصول على طائرات F16 أو العودة لبرنامج إنتاج مقاتلات F35 ناهيك عن رغبتها في إظهار قدرتها على ردع الخصوم. لكن هذا المسعى قد تواجهه بعض التحديات، في الصدارة منها اعتماد الصناعات الدفاعية التركية على استيراد جانب معتبر من مكونات التصنيع من الدول الغربية ناهيك عن احتمال اتجاه القوى الغربية، وبخاصة واشنطن نحو تسليح خصوم أنقرة بمزيد من التقنيات المتطورة، وبخاصة قبرص واليونان، وهو ما قد يُدخل تركيا في سباق تسلح يزيد من أزمتها الاقتصادية.