بدأ تنظيم “داعش” موجة عنف جديدة، عبر ما يُطلق عليه “غزوة الثأر للشيخين”، وبمراجعة عدد عمليات أفرع التنظيم خلال الفترة من (18 – 24 أبريل 2022)، يتضح أن هناك تكثيفاً وارتفاعاً في مستوى تلك العمليات، حيث تصدر الترتيب “ولاية العراق” ثم “ولاية غرب أفريقيا” و”ولاية الشام” و”ولاية خراسان” على التوالي. ويمكن ملاحظة بعض الاتجاهات الرئيسية من تحليل عمليات أفرع التنظيم، منها زيادة استهداف المدنيين لتضخيم تأثير العمليات، واستجابة كبيرة لبعض الأفرع، مقابل استجابة محدودة لأخرى، وعدم الاعتماد على نهج واحد في العمليات أو الأسلحة المستخدمة. ويطرح إطلاق “داعش” هذه الموجة الجديدة مجموعة من الدلالات، منها اختبار قيادة التنظيم الجديدة لولاء الأفرع، وبالتبعية إثبات تلك الأفرع الولاء عبر تكثيف العمليات، إضافة إلى الرغبة في الإخلال بالأوضاع الأمنية والترتيبات القائمة في الدول المختلفة لتخفيف الضغوط على الأفرع، خاصة تلك التي تخوض مواجهات شديدة مع قوات الشرطة والجيش. كما تعكس هذه الموجة مساعي التنظيم لاستقطاب عناصر جديدة بإثبات وجوده وعدم تأثره بالمتغيرات المحيطة، إضافة إلى الرغبة في تنشيط بعض الأفرع التي تراجع نفوذها، فضلاً عن زيادة التنافس بينها بما يؤدي إلى رفع معدل العمليات.
تصاعد نشاط أفرع تنظيم “داعش” بصورة ملحوظة مع إعلان المتحدث باسمه أبو عمر المهاجر عن موجة عنف جديدة تحت اسم “غزوة الثأر للشيخين” (في إشارة إلى مقتل الزعيم السابق للتنظيم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، والمتحدث الإعلامي السابق أبو حمزة القرشي)، خلال الكلمة التي تم بثها في 17 أبريل الجاري. وعلى الرغم من توقّع إطلاق “غزوة الثأر” لمقتل زعيم “داعش”، كنمط روتيني يُقدم عليه التنظيم عند مقتل زعيمه أو قيادات بارزة ومؤثرة فيه، مثلما حدث مع إطلاق “غزوة الثأر” لمقتل أبو بكر البغدادي عام 2019؛ إلا أنّ ثمة دلالات عديدة يطرحها تصاعد العنف وتزايد العمليات الإرهابية خلال الأيام الأولى التي أعقبت كلمة المتحدث باسم “داعش”.
اتجاهات مختلفة
واجه تنظيم “داعش” أزمة شديدة بتأخر الإعلان عن الزعيم الجديد للتنظيم، عقب مقتل زعيمه السابق أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، وبعد مضيّ نحو 35 يوماً، أعلن التنظيم كنية الزعيم الجديد، دون الكشف عن هويته الحقيقية، وهو ما فتح مجالاً للترقب بشأن مبايعة أفرع “داعش” وحدود الاستجابة لتوجيهات القيادة الجديدة، فكانت “غزوة الثأر للشيخين”، ثاني توجيه للأفرع عقب المطالبة بأداء “البيعة” للزعيم الجديد.
ويمكن تقييم حدود استجابة الأفرع لدعوات قيادة “داعش” لموجة عنف جديدة، من خلال رصد وتحليل عدد عمليات تلك الأفرع، وفقاً لما أعلنته وكالة “أعماق” –الموالية للتنظيم- في الفترة من (18 – 22 أبريل 2022)، كما يوضح المخطط التالي:
ويتضح من خلال عدد عمليات أفرع التنظيم المختلفة بعض الاتجاهات والمؤشرات، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- رغبة الأفرع الرئيسية في استعادة النشاط: يكشف معدل عمليات أفرع التنظيم عن تصدر “ولاية العراق” لعدد العمليات بواقع 30 عملية، ثم “ولاية غرب أفريقيا”، و”ولاية الشام”، و”ولاية خراسان” بمعدل (29 – 14 – 13) على الترتيب. وهنا يتضح أن ثمة اتجاهاً إلى تكثيف العمليات في بعض الأفرع خلال فترة قصيرة تمتد لخمسة أيام فقط منذ إعلان المتحدث باسم “داعش” إطلاق “غزوة الثأر للشيخين”. وعلى سبيل المثال، فإن تصدر “ولاية العراق” لمعدل العمليات خلال تلك الفترة، على الرغم من أنها جاءت في المرتبة الثانية من حيث إجمالي عدد العمليات منذ بداية العام الجاري، خلف “ولاية غرب أفريقيا”، إضافة إلى تكثيف “ولاية خراسان” معدل العمليات بعد تراجع خلال الأشهر القليلة الماضية؛ يعكس وجود رغبة لدى بعض أفرع التنظيم في استعادة حالة النشاط العملياتي، في حدود إظهار استجابة مرتفعة لتوجيهات القيادة الجديدة للتنظيم.
2- ضعف قدرات بعض الأفرع الأخرى: في مقابل الاستجابة الملحوظة من جانب بعض الأفرع، فإن ثمة أفرعاً اتسمت استجابتها بالمحدودة، مثل ولايات “وسط أفريقيا، والصومال، وليبيا، والهند، وباكستان”، بواقع (4، 4، 1، 1، 1) على الترتيب، على نحو يعكس ضعف قدرات هذه الأفرع بالأساس، بصورة تمنعها من تكثيف عملياتها حتى خلال “غزوة الثأر للشيخين”، باعتبارها استجابة لتوجيهات القيادة الجديدة لـ”داعش”، ويتفق هذا مع معدل عمليات تلك الأفرع خلال الأشهر القليلة الماضية.
3- التركيز على استهداف المدنيين: من خلال تحليل عمليات أفرع تنظيم “داعش” خلال المدى الزمني المُحدد، يمكن ملاحظة التركيز على استهداف المدنيين لتضخيم تأثيرات العمليات، وتحقيق أهداف “داعش” الدعائية، خاصة بعدما تراجعت عمليات بعض الأفرع خلال شهرى فبراير ومارس الماضيين، على وقع حالة الارتباك والترقب لإعلان هوية الزعيم الجديد لـ”داعش”، فكان تركيز “ولاية وسط أفريقيا” على استهداف المدنيين بارزاً بثلاث عمليات من إجمالي أربع عمليات، فضلاً عن اتجاه “ولاية غرب أفريقيا” إلى استهداف المدنيين على الرغم من خوض هذا الفرع مواجهة موسعة مع قوة “المهام المشتركة” لدول منطقة بحيرة تشاد، التي بدأت عملية عسكرية كبيرة أواخر مارس الماضي، وكانت أبرز عملية لهذا الفرع في هذا الإطار استهداف تجمع لمدنيين في منطقة تارابا وسط نيجيريا أسفر عن سقوط العشرات بين قتلى وجرحى. وبشكل عام، يمكن ملاحظة زيادة في معدل استهداف “ولاية غرب أفريقيا” للمدنيين عن الأشهر القليلة الماضية. كما سار على النهج نفسه “ولاية خراسان”، وفجر أحد مساجد الشيعة باستخدام حقيبة ملغومة في مزار شريف، ويمكن تفسير ذلك في ضوء توجيهات المتحدث باسم “داعش” لاستهداف المدنيين، حينما حرَّض على استهداف “المسيحيين والشيعة”.
4- عدم الاعتماد على نهج واحد في العمليات: تتسم عمليات أفرع تنظيم “داعش” بالتنوع، من ناحية التركيز على أهداف متنوعة خلال موجة العنف الحالية، سواء من المدنيين أو الأهداف العسكرية الثابتة أو الدوريات، أو الأهداف الشرطية مثلما هو الحال في “ولاية الصومال” عبر استهداف حاجز للشرطة، إضافة إلى عمليات ضد القوات العسكرية، مع استخدام أسلحة متعددة إضافة إلى قذائف الهاون والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة. وتهدف هذه العمليات إلى إحداث حالة من الإرباك لدى القوات العسكرية والشرطية في مختلف الدول، بصورة تحدّ من قدرات المكافحة، نظراً لتعدد الأهداف، خاصة فيما يتعلق بما يُعرف بـ”الأهداف الرخوة”، وهو ما يستدعي حالة من الاستنفار لتحجيم النشاط المتزايد لبعض أفرع “داعش”، خاصة مع اتجاه بعض الأفرع إلى عمليات “نوعية” مثل استخدام “ولاية ليبيا” سيارة مفخخة في عمليتها الإرهابية.
دلالات مهمة
تطرح موجة العنف الحالية لـ”داعش” عبر إطلاق “غزوة الثأر للشيخين” مجموعة من الدلالات الرئيسية التي تتمثل في:
1- إثبات الولاء لـلقيادة الحالية: في إطار قياس مدى استجابة الأفرع لتوجيهات قيادة التنظيم الجديدة، بتكثيف العمليات حسب قدرات كل فرع؛ فإن ذلك يعكس رغبة لدى القيادة الجديدة في اختبار درجة الولاء، ومن ناحية أخرى إثبات الأفرع ولاءها لتلك القيادة؛ إذ تمثل الاستجابة لـ”الغزوات” التي يُطلقها “داعش” أحد عوامل الولاء للقيادة، في ضوء تنفيذ التوجيهات. ويُعد هذا النهج مهمّاً لـ”داعش” خاصة خلال الفترة الحالية، بعد تراجع عمليات بعض الأفرع وتلقي ضربات متلاحقة في نطاق “القيادة المركزية” بالعراق وسوريا، وأبرزها مقتل أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، في عملية إنزال أمريكية، وما يتصل بحالة الترقب لإعلان هوية الزعيم الجديد، وبالتالي فهي رسالة تُفيد تماسك التنظيم، وعدم حدوث انشقاقات للأفرع، على الأقل ظاهرياً.
2- محاولة تنشيط بعض الأفرع: تمكنت بعض أفرع التنظيم خلال موجة العنف الحالية في إطار “غزوة الثأر”، من استعادة بعض النشاط، وتحديداً “ولاية الشام” و”ولاية خراسان”، خاصة مع تراجع عمليات الأولى بداية من شهر فبراير الماضي، والأخيرة منذ نهاية العام الفائت، وبالتالي فإن موجة العنف الجديدة تكشف عن وجود رغبة لدى القيادة الجديدة في محاولة تنشيط تلك الأفرع وغيرها، خاصة وأن بعض تلك الأفرع لم تتمكن من توسيع نشاطها، مثل ولايات “الهند، وليبيا، وباكستان، والصومال”، إضافة إلى غياب ملحوظ لعمليات التنظيم في اليمن وموزمبيق خلال موجة العنف الحالية.
3- رفع مستوى التنافس بين “الولايات”: يشير ثناء المتحدث باسم تنظيم “داعش” في كلمته الأخيرة، على فرع “ولاية غرب أفريقيا”، باعتباره أنشط الأفرع متقدماً على “ولاية العراق” (ساهم بنسبة 33% من إجمالي عمليات “داعش” منذ مطلع يناير وحتى 21 أبريل 2022)، إلى الرغبة في الترويج لعمليات هذا الفرع، في إطار محاولات رفع مستوى التنافسية بين الأفرع المختلفة، خاصة وأن عمليات هذا الفرع كانت أكبر من العمليات التي نفذت في نطاق “القيادة المركزية” للتنظيم، وبالتالي فإن هناك اتجاهاً إلى تحفيز الأفرع على التنافس في سياق أهدافه بإعادة التموضع في أكثر من منطقة ودولة.
4- إثبات الوجود لاستقطاب عناصر جديدة: يسعى تنظيم “داعش” عبر تلك الموجة إلى إثبات وجوده، في محاولة لاستقطاب عناصر جديدة، لتعويض تراجع عدد عناصره بفعل المواجهات التي ينخرط فيها داخل بعض الدول. وهنا، فإن التنظيم يعول بالتأكيد على ما يسمى بـ”الريادة الجهادية”، من خلال إظهار قوته وتماسكه رغم ما يمر به وتحديداً عقب مقتل زعيمه السابق، ويتوافق ذلك مع الدعوات التحريضية للمتحدث الإعلامي باسم “داعش”، لمن وصفهم بـ”المنتكسين” –للإشارة إلى عناصره التي انشقت- بضرورة العودة إلى ما وصفه بـ”الجهاد”، كما أنه حاول توظيف بعض التطورات المحلية في بعض الدول، فضلاً عن الأوضاع الإقليمية، لاستقطاب عناصر جديدة.
5- الإخلال بالأوضاع الأمنية والترتيبات القائمة: يحاول التنظيم من خلال موجة العنف الحالية إحداث خلل في الأوضاع الأمنية والترتيبات القائمة خلال الأشهر القليلة الماضية، اعتماداً على تكثيف العمليات والاتجاه إلى سياسة الإرباك في تنوع الأهداف وطبيعة الاستهداف. وثمة عمليات لأفرع التنظيم تشير إلى رغبة في خلط الأوراق، إذ إن إطلاق “ولاية خراسان” صواريخ “كاتيوشا” على القوات في أوزبكستان، إضافةً إلى تفجير مسجد للشيعة، يشير إلى رغبة في الإخلال بتفاهمات حركة “طالبان” مع دول الجوار لأفغانستان. وعلى مستوى العراق، فإن تكثيف العمليات واتّباع النمط الهجومي يهدف إلى تخفيف حدة الضغوط على التنظيم هناك، بعد سلسلة من العمليات العسكرية والأمنية منذ شهر نوفمبر الماضي، بما استدعى إطلاق العراق المرحلة الثانية من عملية “الإرادة الصلبة” في المنطقة الغربية.
حتمية الاحتواء
ختاماً، تستدعي الموجة الجديدة من العنف التي أطلقها تنظيم “داعش”، عبر تكثيف العمليات الإرهابية على مستوى أكثر من فرع في المنطقة، وفي إطار “غزوة الثأر للشيخين” التي أعلن عنها مؤخراً، مواصلة جهود مكافحة الإرهاب وتكثيف العمليات الأمنية ضد مواقع وقيادات التنظيم، بهدف احتواء تداعياتها ومنع التنظيم من تعزيز نشاطه واستعادة نفوذه مجدداً.