يشير مشروع الموازنة الحكومية الذي تقدم به الرئيس إبراهيم رئيسي إلى مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، في 12 ديسمبر الجاري، إلى أن إيران سوف تواصل سياستها الحالية في المنطقة أياً كان المسار الذي سوف تنتهي إليه المفاوضات التي تجري حالياً في فيينا مع دول مجموعة “4+1” وتشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر. وربما يعكس ذلك العقبات التي تواجه المقاربة التي تتبناها بعض الدول الغربية والخاصة بإجراء مفاوضات أخرى حول التدخلات الإقليمية وبرنامج الصواريخ الباليستية، في حالة الوصول إلى صفقة في فيينا تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي في المرحلة القادمة.
ملامح عديدة
قدّم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في 12 ديسمبر الجاري، أول مشروع لحكومته للموازنة العامة، للعام المالي الجديد الذي سوف يبدأ في 21 مارس القادم، إلى مجلس الشورى الإسلامي لإقراره. ورغم أن هذا المشروع ما زال “وثيقة أوَّلية” وسيكون عرضة لإجراء تعديلات عليه من قبل البرلمان، فإنه في النهاية يكشف عن بعض الملامح التي ستحدد اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية إزاء العديد من الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب دول المنطقة، والقوى الدولية المعنية بأزماتها، لاسيما التدخلات الإقليمية وبرنامج الصواريخ الباليستية. وتتمثل أبرز ملامح السياسة الإيرانية كما يعكسها مشروع الموازنة العامة الذي قدمه الرئيس رئيسي إلى البرلمان في:
1- تعزيز التدخلات الإقليمية في المنطقة: يشير حرص حكومة إبراهيم رئيسي على زيادة المخصصات المالية للحرس الثوري، إلى أن إيران لن تتوانى عن المضى قدماً في تدخلاتها الحالية، لاسيما في دول الأزمات على غرار سوريا والعراق ولبنان واليمن. إذ رصدت للحرس نحو 93 تريليون تومان، بما يعادل أكثر من 3 مليار دولار (الدولار يساوي حوالي 30 ألف تومان في السوق السوداء). وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الحرس لا يعتمد في الأساس على المخصصات المالية التي توفرها الموازنة الحكومية، وإنما على العوائد المالية الضخمة التي توفرها المؤسسات والشركات التابعة له في العديد من القطاعات الحيوية في الاقتصاد على غرار مجموعات شركات “خاتم الأنبياء”. لكن في كل الأحوال، فإن الاتجاه نحو تقديم مزيد من الموارد المالية للحرس يعني أن النظام يسعى إلى تعزيز دوره في الخارج خلال المرحلة القادمة.
2- عدم استبعاد فشل الصفقة النووية: توقعت الحكومة في مشروع الموازنة أن تصل الصادرات النفطية خلال العام المالي القادم إلى 1.2 مليون برميل يومياً، وهو ما يعني في المقام الأول أنها لا تستبعد فشل المفاوضات الجارية في فيينا وعودة أزمة الملف النووي إلى مربعها الأول من جديد. ويعود ذلك إلى اعتبارين: أولهما، أن إيران تصدر حالياً، وفقاً لبعض التقديرات، نحو 900 ألف برميل يومياً، بما يعني أن الزيادة المقترحة في مشروع الموازنة تصل إلى 300 ألف برميل يومياً فقط. وثانيهما، أن إيران كانت تصدر قبل فرض العقوبات الأمريكية المفروضة عليها نحو 2.5 مليون برميل يومياً، وهو فارق كبير عن ما تقوم بتصديره حالياً وما تطمح إلى زيادته في مشروع الموازنة.
ومن دون شك، فإن فشل المفاوضات، وهو احتمال قائم رغم استمرارها وحرص الأطراف المختلفة على الوصول إلى تسوية في نهايتها، يعني أن إيران قد تتجه إلى التصعيد في الملفات الأخرى، لاسيما التدخلات الإقليمية في المنطقة، خاصة في الدول التي تحظى بأهمية خاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية أو تتواجد فيها مصالح أمريكية على غرار سوريا والعراق.
3- تراجع التعويل على العلاقات مع الغرب: حرص الرئيس إبراهيم رئيسي خلال تقديمه مشروع الموازنة الجديد على توجيه انتقادات قوية لحكومة الرئيس السابق حسن روحاني، باعتبار أنها عوّلت على الوصول إلى صفقة مع القوى الدولية، بما يتيح رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وهو ما دفعها إلى إعداد مشروع الموازنة المعمول بها حالياً (مارس 2021-مارس 2022) بناءً على هذه التصورات، دون أن يحدث ذلك في النهاية، في ظل تصاعد حدة الخلافات مع معظم تلك القوى. ويشير ذلك إلى أن الحكومة الحالية سوف تعتمد في سياستها الخارجية على منح الأولوية للعلاقات مع القوى الأخرى، سواء على الصعيد الدولي مثل روسيا أو الصين، أو على الصعيد الإقليمي مثل تركيا وبعض دول المنطقة، رغم أن ذلك يواجه في حد ذاته عقبات عديدة، أبرزها أن استمرار التوجهات الإيرانية الحالية على المستوى الإقليمي قد يفرض تداعيات سلبية على هذه العلاقات.
4- إجراء مزيد من التجارب الصاروخية: يكشف اقتراح الحكومة بشأن تخصيص نحو 5 مليار دولار لبرنامج الدفاع والأبحاث الاستراتيجية (بما فيها المخصصات المالية للحرس الثوري) عن أن إيران تستعد للتصعيد في برنامجها الصاروخي أيضاً. وهنا، كان لافتاً أن تقديم مشروع الموازنة جاء بعد نحو أسبوعين من انعقاد المجلس الأعلى للفضاء، لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، برئاسة الرئيس إبراهيم رئيسي، وتحديداً في 26 نوفمبر الفائت، حيث دعا الرئيس إلى الوصول لمدار 36 ألف كيلو متر حسب تعليمات المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي. وقد أشارت تقارير عديدة، في 13 ديسمبر الجاري، إلى أن إيران تستعد حالياً لإجراء تجربة جديدة خاصة بإطلاق قمر صناعي من قاعدة الإمام الخميني بمحافظة سمنان، وهى خطوة، في حالة التأكد من حدوثها، تعني أن إيران تصر على تصعيد حدة ضغوطها على القوى الدولية من أجل الوصول إلى صفقة تستوعب شروطها وحساباتها، حيث يتوازى ذلك مع مواصلة أنشطتها النووية لاسيما ما يتعلق برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60% وتقليص مستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
توجهات مستمرة
إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن حكومة رئيسي لن تجري أى تغييرات جذرية في السياسة الإيرانية، حتى رغم اهتمامها بتحسين العلاقات مع بعض دول المنطقة. بل كان لافتاً أنها تسعى إلى استقطاب تأييد بعض المؤسسات النافذة في إيران، على غرار الحوزة، لهذه السياسة، على نحو بدا جلياً في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية حسين امير عبد اللهيان إلى مدينة قم، في 9 ديسمبر الجاري، حيث التقى بكبار مراجع التقليد في الحوزة، وتركزت الحوارات التي أجريت في تلك اللقاءات على المسارات المحتملة للمفاوضات التي تجري فيينا، والدعم الذي تقدمه إيران لما تسميه “المستضعفين في الأرض”. وفي هذا السياق، قال آية الله سبحاني إلى وزير الخارجية: “إن بعض الشيعة في العالم ينظرون إلى إيران على أنها الوطن الثاني، ويجب على الحكومة الإسلامية أن تقدم لهم المساعدات، على غرار شيعة أفغانستان واليمن”، وهو ما يعني في النهاية أن حكومة رئيسي حريصة على التماهي مع الخطاب المتشدد الذي تتبناه المؤسسات الرئيسية في النظام الإيراني.