عندما نتفاوض كعرب قد تأخذنا “العزة بالإثم” كما يقال. ومنا من يتفاوض ليكسب الجولة ويخسر الجميع. وهناك من يتفاوض لشراء مزيد من الوقت، فهو ليس جاداً في الوصول إلى حلول مرضية للطرفين.
سألت الرئيس الإكوادوري، ذات يوم، وهو يحاضر بنا في جامعة هارفارد العريقة، السؤال التالي: فخامة الرئيس، ما السر وراء نجاحك في المفاوضات الوطنية الشائكة في بلادك، وخروجك من عنق الزجاجة بحلول مرضية للطرفين؟ فقال: باختصار طبقت المحاور الخمسة الشهيرة التي جاء بها زميلنا في جامعة هارفارد والتي تقود أي نقاش أو تفاوض مهما كانت درجة تعقيده أو سهولته إلى نتيجة مرضية للطرفين، أو win – win كما يسميها الأميركيون (انتهى كلامه). ونسميها في أدبيات الإدارة التفاوض التعاوني أو المرضي للطرفين.
التفاوض الذي لا يأخذ في الاعتبار مصلحة الطرف الآخر مصيره الفشل. والتنازل جزء لا يتجزأ من أي تفاوض. فمن الذكاء أن تخسر جولة لتكسب جولات قادمة. وهناك عامل نفسي كبير يدفع خصومنا الى التنازل عندما يروننا نتخذ موقفاً متعاوناً. وهذا لا يعني التسليم، فمن الناس من يعتبر “التراجع خطوة” ضعفاً بل وفرصة سانحة للانتقام. وهو مؤشر الى عدم إدراك أبجديات التفاوض.
في عالم التفاوض، كان الاعتقاد الشائع “تحقيق النصر الآحادي” بأي ثمن، أي لا بد من أن نهزم الآخر. وهو امتداد لعقلية الحروب والغزوات التي خيمت على الشعوب لقرون طويلة. بعدما تحضر الانسان، وتنوعت مواضيع التفاوض وميادينه، صارت الآن تدَرَّس في المناهج التعليمية والدورات الاحترافية أساليب أخرى مثل التفاوض التوزيعي distributive كأن يقبل أحد الشراء بسعر أعلى أو شروط غير مرغوب فيها على أمل استمرار العلاقة وتعويض ذلك مستقبلاً. ومن التفاوض الأسلوب التكاملي integrative بحيث يكسب الجميع شيئاً معقولاً يضمن تقدمهم. وهناك التفاوض الموضعي positional وهو عندما يتشبث الجميع بمواقفهم، ليس لهدف سوى تثبيت مواقعهم نحو قضايا معينة مقصودة. وهو تكتيك موقت لكنه يصبح جزءاً من مشكلة “مكانك راوح” إذا كان نهجاً مستمراً، أقرب إلى العناد.
ولأن الناس في ما يتفاوضون مذاهب، حاول علماء عرب دراسة خصائص المفاوض الناجح لدى مجموعة من المديرين من جنسيات مختلفة، فجاءت إجاباتهم في 22 عنصراً يتقدمها على التوالي: الثقة بالنفس، والقدرة على إقناع الآخرين، واستغلال الفرص المتاحة، والاتصال الفعال، والمقدرة على قيادة أعضاء الفريق، وإجادة الاستماع، وبُعد النظر وعدم الاستعجال، واستيعاب الرأي المعارض، وإجادة الرد على الأسئلة. ورد ذلك في دراسة أعدها باحثان من جامعة الملك سعود وهما الدكتور عبد الرحمن العالي والدكتور أحمد عبد الرحمن ونشرت في المجلة العربية للعلوم الإدارية.
المتأمل لشتى الأزمات، يجد خلفها أزمة تفاوض. وإذا ما غابت العقلانية، سادت العاطفة وروح الانتقام. وهنا مكمن الخلل. فمن فوائد التفاوض أنه يقلل حدة النزاعات، ويحسن العلاقات، وهو فرصة لبناء تحالفات أفضل. فما أكثر خصوم الأمس الذين تحولوا إلى حلفاء اليوم. وأسوأ أنواع النزاعات والشخصانية تلك التي تجر البلاد نحو الهاوية.
نقلا عن النهار العربي