تسعى إيران إلى التلويح بأوراق ضغط في مواجهة العراق من أجل حسم ملف المعارضة الكردية، ومنها التهديد بشن ضربات عسكرية جديدة، وتكليف المليشيات الشيعية بالانخراط في عمليات الاستهداف من الداخل، وتخفيض صادرات الطاقة، والعودة إلى خيار مهاجمة المصالح الأمريكية. ورغم أن بغداد أعلنت تعاونها في هذا الصدد، إلا أن المهمة لن تكون سهلة في ظل صعوبة نزع أسلحة تلك المعسكرات، وانشغال الحكومة بالاستحقاقات السياسية والأمنية القائمة، وتراجع فرص تكرار نموذج “مجاهدي خلق”، وتخوف المعارضة الكردية من تعرضها لاستهداف الحشد في محافظة الأنبار.
بدأت إيران في منح الأولوية لملف تفكيك المعسكرات التي تقطن فيها أحزاب المعارضة الكردية الإيرانية في شمال العراق، على نحو يمكن أن يؤثر على علاقاتها مع الأخيرة، في حالة ما إذا لم تستطع تنفيذ الاتفاق الذي تم توقيعه بين الطرفين في 19 مارس الماضي، من أجل نزع سلاح المعسكرات الكردية ونقلها إلى مناطق أخرى، سواء في عمق إقليم كردستان أو في غرب العراق. وتتمثل أبرز جماعات المعارضة الكردية في: الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وحزب الحياة الحرة “بيجاك”، وحزب كومله، ومنظمة خبات.
فقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، في 28 أغسطس الجاري، إن “إيران والعراق توصلا إلى اتفاق يلتزم بموجبه العراق بنزع سلاح الانفصاليين والجماعات الإرهابية الموجودة على أراضيها، وإغلاق قواعدها ونقلها إلى أماكن أخرى قبل 19 سبتمبر القادم”، مضيفاً أن “تاريخ 19 سبتمبر لن يتم تمديده بأي شكل من الأشكال”، ومؤكداً أنه إذا لم يتم تنفيذ الاتفاق في الموعد المحدد “فسوف نقوم بمسؤولياتنا في إطار الحفاظ على أمننا”.
رمزية التوقيت
كان لافتاً أنه تم تحديد تاريخ 19 سبتمبر تحديداً لحسم هذا الملف، وهو تاريخ يتوافق مع حلول الذكرى الأولى للاحتجاجات التي اندلعت في إيران في منتصف سبتمبر 2022، اعتراضاً على وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني. وهنا، فإن الرسالة تبدو واضحة ومفادها أن النظام في إيران يريد أن يؤكد مبدئياً أنه استطاع البقاء رغم قوة هذه الاحتجاجات التي استمرت أكثر من خمسة أشهر، وأن أي جماعة معارضة في الداخل أو الخارج لا تمتلك من الأرضية الداخلية ما تستطيع من خلاله أن تشكل تهديداً لبقائه في الحكم.
وهنا، يمكن القول إن إصرار النظام على تفكيك هذه المعسكرات في هذا التوقيت لا يعود إلى وجود كميات من الأسلحة النوعية التي يمكن أن تفرض أخطاراً كبيرة، بقدر ما يعود إلى تخوف النظام من أن تستغل هذه الأحزاب أية احتجاجات مستقبلية لمحاولة التدخل فيها عبر اختراق الحدود مرة أخرى. ويبدو أن النظام يرى أن من ضمن أسباب استمرار احتجاجات مهسا أميني أكثر من خمسة أشهر هو الدعم الذي تلقاه المحتجون من خلف الحدود، وتحديداً من هذه الجماعات المسلحة.
ومن هنا، كان لافتاً أن الحرس الثوري قام بتوجيه ضربتين عسكريتين قويتين ضد المواقع التابعة لتلك الجماعات خلال فترة تفاقم الاحتجاجات، وتحديداً بعد نحو عشرة أيام من اندلاع الاحتجاجات (24 سبتمبر 2022)، وبعد أكثر من شهرين على تفاقمها (21 نوفمبر 2022).
أدوات التأثير
أهمية هذا الملف دفعت إيران إلى محاولة حسمه بسرعة مع السلطات العراقية، عبر توقيع اتفاق أمني منح السلطات العراقية ستة أشهر بالضبط لتفكيك المعسكرات الكردية ونزع أسلحتها. ويبدو أن إيران تسعى في هذا السياق إلى التلويح بأوراق ضغط عديدة ترى أنها يمكن أن تؤثر بقوة على موقف الحكومة العراقية، يتمثل أبرزها في:
1- التهديد بشنّ ضربات عسكرية جديدة للمعسكرات الكردية: لم تتوقف التهديدات الإيرانية بشنّ ضربات عسكرية جديدة ضد المواقع التابعة لتلك الجماعات. وحتى قبل التهديدات التي جاءت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، فإن رئيس هيئة الأركان الإيرانية المشتركة محمد باقري قال، في 19 أغسطس الجاري –أي قبل شهر بالضبط من انتهاء المهلة التي حددها الاتفاق الأمني– إن “تدمير مقار الإرهابيين في إقليم كردستان شمال العراق هو الطريق الذي يؤدي إلى نزع سلاحهم بشكل كامل”. كما أنّ قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري اسماعيل قاآني سبق أن ألمح إلى أن إيران سوف تتدخل عسكرياً في حالة عدم تنفيذ الاتفاق.
وهنا، يمكن القول إنّ هذا التهديد ليس موجهاً إلى الجماعات الكردية الإيرانية في شمال العراق، وإنما إلى الحكومة العراقية نفسها وإقليم كردستان، فالرسالة واضحة ومفادها أنه إذا لم يتم الالتزام بالاتفاق الأمني، فإن الحرس الثوري والجيش الإيراني سوف يتدخلان عسكرياً من جديد لتصفية تلك المعسكرات.
2- تكليف المليشيات الشيعية بالتدخل: وهنا، فإن هذه المليشيات، بما لها من نفوذ وقدرات عسكرية، تستطيع أن تمارس ضغوطاً من جانبها على الحكومة العراقية للإسراع في تفكيك تلك المعسكرات، باعتبار أن ذلك يتماهى مع مصالح وحسابات وكيلها الأساسي وهو إيران.
وكان لافتاً أنه تَوَازَى مع الضربات التي وجهها الحرس الثوري بواسطة المدفعية لمواقع المعارضة الكردية في شمال العراق، في 11 مايو 2022، هجمات أخرى تعرضت لها منشآت نفطية في إقليم كردستان التي وجهت السلطات فيه اتهامات مباشرة إلى ما أسمته “المليشيات الخارجة عن القانون”، في إشارة إلى مليشيا الحشد الشعبي تحديداً، التي يبدو أنها شاركت في هذه الهجمات لتحذير السلطات في إقليم كردستان وبغداد من أنها لن تقف صامتة في حالة ما إذا قررت إيران تصفية تلك المعسكرات بالفعل.
3- التلويح بخفض صادرات الطاقة إلى الحكومة العراقية: دائماً ما تستخدم إيران ورقة الطاقة لممارسة ضغوط على الحكومة العراقية، التي تقوم باستيراد 70 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني يومياً في شهور الصيف لتغذية محطات الكهرباء. وهنا، فإن إيران قد تتجه إلى عرقلة تصدير الطاقة إلى العراق أو تخفيض الكمية المصدرة من أجل دفع الحكومة العراقية إلى التماهي معها بإيجابية في ملف نزع أسلحة المعسكرات الكردية وتفكيكها. وقد اختبرت إيران بالفعل هذه الورقة، في 4 يوليو الفائت، عندما انخفضت صادرات الطاقة إلى العراق، مما تسبب في تفاقم أزمة الكهرباء. ورغم أنّ إيران فسّرتها بأنها كانت بسبب مشكلات فنية، فإن التفسير الأقرب إلى الصحة ربما يكون ممارسة ضغوط على العراق للإفراج عن قسم من المستحقات الإيرانية المجمدة لديها والتي تبلغ نحو 12 مليار دولار.
4- السماح بمهاجمة المصالح الأمريكية مجدداً في العراق: تراجعت عمليات استهداف المصالح الأمريكية في العراق، وتحديداً القواعد التي تتواجد بها قوات أمريكية، وربما يكون ذلك مرتبطاً بالتفاهمات التي تجري بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، لكن الأولى قد تعاود منح الضوء الأخضر لهذه الهجمات مرة أخرى في حال ما إذا تعثرت هذه التفاهمات، أو إذا رأت أن السلطات العراقية تتقاعس عن تنفيذ التزاماتها وفقاً للاتفاق الأمني الذي وُقّع في 19 مارس الماضي.
حسابات بغداد
رغم أنّ العراق أعلن أنه سوف يلتزم بما جاء في الاتفاق الأمني، بما يعني أنه سيتخذ خطوات إجرائية بالفعل لتفكيك المعسكرات ونزع أسلحتها ونقل القاطنين فيها إلى مناطق أخرى، إلا أن ثمة اتجاهات عديدة ترى أن المهمة لن تكون سهلة على السلطات العراقية، وذلك لاعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- الانشغال باستحقاقات سياسية وأمنية مهمة: تبدو الحكومة العراقية حالياً منشغلة في الاستعداد لانتخابات مجالس المحافظات التي سوف تجري في 18 ديسمبر القادم، والتي سيكون لنتائجها تأثير مباشر على توازنات القوى السياسية قبل إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة، التي قد تجري بشكل مبكر في عام 2024. كما أن أجهزة الأمن العراقية تمنح أولويتها حالياً لضمان عدم عودة تنظيم “داعش” لاستئناف عملياته الإرهابية بعد أن أكدت أنه تم تدمير القسم الأكبر من القدرات العسكرية للتنظيم. ومن هنا فإن الانخراط في عملية أمنية ربما تكون معقدة في المعسكرات الكردية قد يربك حسابات السلطات العراقية في المرحلة القادمة. صحيح أن تلك العملية ربما تكون قد بدأت بعد توقيع الاتفاق الأمني في 19 مارس الماضي، إلا أن الفترة المتبقية والتي تتمثل في شهر سوف تكون هي الحاسمة في هذا السياق، في حالة ما إذا قررت الحكومة الالتزام الفعلي بالموعد المحدد وهو 19 سبتمبر القادم.
2- صعوبات عملية في نزع الأسلحة: تشير تقارير عديدة إلى أن معظم الأسلحة التي تتواجد في تلك المعسكرات هي من النوع الخفيف. وبصرف النظر عن مدى دقة ذلك، فإنه يعني أنه من الصعب على الحكومة العراقية أن تقوم بتنفيذ عملية واسعة لنزع تلك الأسلحة. فضلاً عن أن بعض الجماعات الكردية تتواجد في مناطق جبلية وعرة، وهو ما يضع عقبات إضافية أمام تلك المهمة.
3- إمكانية رفض الجماعات الكردية الاقتراحات المطروحة: ومن بين هذه الاقتراحات نقل هذه الجماعات إلى غرب العراق، خاصة محافظة الأنبار. ففضلاً عن أن ذلك يعني نزع تلك الجماعات من المناطق المتاخمة للمناطق الكردية الإيرانية، بكل ما يوفره ذلك من تشابك قومي وعرقي، فإن نقلها لمناطق أخرى غير كردية يعني أنها يمكن أن تتعرض لعمليات استهداف وضغوط متكررة من جانب المليشيات الشيعية الموالية لإيران، خاصة الحشد الشعبي.
4- صعوبة تكرار نموذج “مجاهدي خلق”: وهي المنظمة التي مارست إيران ضغوطاً على العراق من أجل إخراجها من أراضيها، وهو ما حدث بالفعل في عام 2013، حيث تم نقلهم إلى معسكرات في ألبانيا. لكن إلى جانب أن ألبانيا الآن تقوم بالتنسيق مع إيران لتصفية هذه المعسكرات وتقييد أنشطتها، عبر اقتحام مقراتها وتسليم إيران أجهزة كمبيوتر كانت موجودة فيها، فإنه لا يوجد ما يؤشر إلى أن دولاً أخرى قد تقبل باستضافة هذه المعسكرات على أراضيها، خاصة أن إيران دائماً ما تحاول استهداف هذه المعسكرات بالفعل، على غرار ما حدث في ألبانيا خلال الفترة الماضية، لدرجة دفعت السلطات الألبانية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في 7 سبتمبر 2022، قبل أن تتوصل إلى تفاهمات معها بشأن معسكرات “مجاهدي خلق”.
ضغوط مستمرة
في ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران لن تكفَّ عن مواصلة ضغوطها على الحكومة العراقية من أجل حسم هذا الملف خلال المرحلة القادمة، خاصة أنها ترى أن تصفية هذه المعسكرات ونزع أسلحتها ونقلها إلى مناطق أخرى سوف يكون أفضل آلية لمنع تجدد الاحتجاجات داخل إيران نفسها، في ظل الرؤية التي ما يزال النظام الإيراني متمسكاً بها والقائمة على أن هذه الاحتجاجات كانت عبارة عن مخطط خارجي لتقويض دعائمه ونشر دوامة الفوضى في إيران.