يبدو أن موجة التضخم العالمي الراهنة تدفع البنك الفيدرالي الأمريكي إلى اتخاذ سياسة نقدية أكثر تشدداً، والمضيّ نحو إنهاء التيسير الكمي ورفع أسعار الفائدة، وذلك في محاولة لإبطاء التضخم. فقد بلغ معدل التضخم السنوي في الولايات المتحدة الأمريكية 6.8% في نوفمبر المنصرم، بينما كان من المستهدف أن يبقى أقل من 2%.
في هذا السياق؛ أصدر البنك الفيدرالي الأمريكي من خلال اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة مؤخراً قراره بمضاعفة وتيرة خفض مشترياته من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري إلى 30 مليار دولار شهرياً. ليثبت بذلك خطواته نحو إنهاء برنامج التسهيل في ربيع العام 2022. علاوة على ذلك توقع المسؤولون الفيدراليون ثلاث زيادات في أسعار الفائدة الفيدرالية عام 2022، وثلاثاً أخرى مماثلة في العام التالي، وزيادتين في العام 2024، لتصل إلى مستوى 2.1% في نهاية العام 2024 مقارنة بالنطاق الحالي (0- 0.25%).
في الاتجاه نفسه، يتوقع بنك جي بي مورجان أن يرفع البنك الفيدرالي أسعار الفائدة بنسبة 0.25٪ في شهر سبتمبر من العام 2022، وأن يواصل رفعها بمقدار 25 نقطة أساس كل ربع سنة. في حين يتوقع دويتشه بنك أن أول زيادة لسعر الفائدة الفيدرالي سيكون في شهر يوليو 2022.
كيف تعمل آلية رفع سعر الفائدة الفيدرالية؟
تحدد اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) نطاقاً مستهدفاً لسعر الأموال الفيدرالية، والذي يعمل كمرجع لأسعار الفائدة التي تفرضها البنوك التجارية الكبرى على بعضها بعضاً مقابل قروض الليلة الواحدة.
تقترض البنوك قروضاً لليلة واحدة لتلبية متطلبات السيولة التي حددها المنظمون، بما في ذلك بنك الاحتياطي الفيدرالي. ويُطلق على متوسط سعر الفائدة التي تتفاوض عليها البنوك للحصول على قروض لليلة واحدة معدل الأموال الفيدرالية الفعال (FFR).
يؤدي رفع سعر الفائدة الأمريكي إلى ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي، ومن ثم يؤثر على أسعار الفائدة والتجارة الخارجية والديون في جميع أنحاء الاقتصاد العالمي ككل. وهنا يشار إلى أنه بمجرد إعلان الفيدرالي الأمريكي عن قراره الأخير المذكور أعلاه، ارتفع في اليوم نفسه مؤشر الدولار بنسبة 0.2٪ إلى 96.737 بعد فترة وجيزة.
وتتوقف التأثيرات الناتجة عن رفع سعر الفائدة الفيدرالية على الأسباب التي أدت إلى رفعها. حيث يشير صندوق النقد الدولي إلى أنه في حال إن كانت الأسباب إيجابية، كارتفاع معدلات التوظيف في الولايات المتحدة الأمريكية، أدت إلى تأثيرات أقل حدة على الاقتصاد العالمي وعلى الاقتصادات الصاعدة على وجه الخصوص، حيث إن الأخبار الجيدة في الأسواق المتقدمة تُشير إلى زيادة متوقعة في حجم الصادرات العالمية، وبالتالي ارتفاع صادرات الاقتصادات الصاعدة والناشئة، ومنها اقتصادات عربية. أما إن كان الرفع ناتجاً عن صدمة في السياسة النقدية -كالحالة الراهنة- فإن التأثيرات تكون أكثر سلبية.
تأثيرات واسعة
ينتظر الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من العام 2022 ارتفاعاً في قيمة الدولار، مما يقود -في المقابل- إلى تغييرات متوازية في معاملات قطاع الاقتصاد الخارجي لكل الدول العربية، بل وفي السياسة النقدية وسياسة المالية العامة، وبعض مؤشرات الاقتصاد الكلي أيضاً. وذلك كما هو موضح على النحو التالي:
1- انخفاض أسعار النفط: ترتبط أسعار النفط عكسياً بقيمة الدولار الأمريكي، وبالتالي فإن أي رفع للفائدة الأمريكية، ومن ثم سعر الدولار الأمريكي، يقود مباشرة إلى تراجع في أسعار النفط العالمية التي تعرضت بالفعل لتراجعات قوية خلال الشهر المنصرم نتيجة ظهور وانتشار المتحور الجديد أوميكرون من سلاسة “كوفيد-19”.
كما من المتوقع أن يؤدي إفراج الولايات المتحدة الأمريكية عن 50 مليون برميل للنفط من الاحتياطي الاستراتيجي إلى زيادة في المعروض العالمي من النفط، وهو ما يسفر عن المزيد من الضغوطات على أسعار النفط.
إزاء الضغوطات الراهنة والمتوقعة في المدى القصير على أسعار النفط، نتيجة رفع الفائدة وعوامل أخرى؛ فإن الدول العربية المصدرة للنفط سوف تواجه تراجعاً في الإيرادات النفطية، ومن ثم ارتفاع مخاطر عجز الميزانية العامة.
2- تهديد للسندات الدولارية العربية: تعد السندات الدولارية من أكثر الأدوات النقدية حساسية للفائدة الأمريكية بطبيعة الحال، حيث إن رفع الفائدة الفيدرالية يقود إلى رفع مدفوعات الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل، مما يجعلها أعلى جاذبية للاستثمار الأجنبي في السوق العالمية. في المقابل، تقل تنافسية السندات الدولارية التي تصدرها الحكومات العربية، وبالتالي تدفق الاستثمارات في أدوات الدين إلى الخارج باتجاه السوق الأمريكية.
يأتي ذلك في وقت تسعى فيه بعض الدول العربية، إلى إصدار سندات دولارية لدعم احتياطياتها من النقد الأجنبي الذي يتعرض لسحوبات بسبب تداعيات “كوفيد-19”.
3- انتقال التضخم وارتفاع تكلفة الواردات: من المرجَّح أن تؤدي زيادة الفائدة الفيدرالية إلى انتقال جزء من التضخم إلى الدول العربية من خلال قناتين أساسيتين؛ الأولى هي تراجع العملات المحلية أمام سعر صرف الدولار الأمريكي، كنتيجة أوّلية. غير أن هذا الأثر يعتمد أيضاً على عوامل أخرى قد تقلل من انتقاله، كقوّة العملة المحلية وارتفاع الطلب العالمي، وهذا ما يختلف من دولة عربية إلى أخرى. وسوف تكون الدول ذات العملات الأضعف هي الأكثر تأثراً كلبنان والسودان.
والثانية هي ارتفاع تكلفة الواردات من القطاع الخارجي وعلى رأسها تكلفة استيراد اللقاحات، وعليه فإن الدول العربية ذات العجز في الميزان التجاري سوف تُواجه اتساعاً في هذا العجز، إلى جانب ارتفاع أسعار الواردات المتداولة في السوق المحلية. ومن المرجَّح أن تعاني أغلب الدول العربية من هذا الأثر فيما يخص الميزان التجاري غير النفطي.
4- ارتفاع تكلفة الديون: تؤدي قيمة الدولار المرتفعة -بطبيعة الحال- إلى ارتفاع عبء الديون الخارجية وارتفاع خدمتها، مما يُلقي بعبء جديد على الموازنات العامة للدول العربية المستدينة، ويقودها إلى مزيد من الإجراءات التقشفية لموجهة أعباء الديون.
ويأتي على رأس الدول العربية المتضررة من الديون بعض الدول العربية مثل، لبنان، والسودان، وتونس، وجيبوتي بحسب صندوق النقد العربي.
5- رفع الفائدة محلياً: قد تتجه بعض البنوك المركزية العربية إلى رفع أسعار الفائدة المحلية، وذلك في محاولة لرفع تنافسيتها في الاستثمار في أدوات الدين أمام الميزة الأمريكية المكتسبة بفضل رفع الفائدة الفيدرالية، وكذلك لجذب المزيد من الادخار المحلي، ومن ثم جذب تمويل جديد للبنوك.
وفي دراسة أخيرة لصندوق النقد الدولي وُجد أن معدلات المرور قوية من سياسة الولايات المتحدة النقدية إلى دول مجلس التعاون الخليجي، مفسرة ذلك بأن البنوك الخليجية تميل إلى جذب تمويل إضافي ومن ثم تقوم برفع الفائدة لتتوافق مع تشديد السياسة النقدية الأمريكية.
وبشكل عام، يَخلُصُ صندوق النقد الدولي إلى أن كل ارتفاع بمقدار نقطة مئوية واحدة في أسعار الفائدة الأمريكية بسبب توقعات مفاجئة في السياسة النقدية، يقود إلى رفع أسعار الفائدة طويلة الأجل مباشرة بمقدار ثلث نقطة مئوية في متوسط الأسواق الصاعدة، أو ثلثي نقطة مئوية في السوق الصاعدة ذات التصنيف الائتماني الأدنى المقدر بدرجة المضاربة.
6- تخفيض محدود في الناتج المحلي الإجمالي: في محاولة لقياس تداعيات رفع الفائدة الفيدرالية على الاقتصاد العالمي، أشار الاقتصاديان في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ماتيو إياكوفيلو وجاستون نافارو، في ورقة نُشرت في 2018 بعنوان “التداعيات الأجنبية غير المباشرة لأسعار الفائدة الأمريكية المرتفعة كبيرة”، إلى أن كل زيادة بنسبة 1 في المائة في الأسعار تخفض الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الناشئة بنسبة 0.8 في المائة على مدى ثلاث سنوات.
غير أن هذا التأثير –على محدوديته- يبقى عرضة للتغير إذا ما تحسنت عوامل نمو الاقتصادات المحلية. وعليه فإنه أقل التأثيرات المحتملة حدوثاً.
السيناريو المتوقع
يتوقف السيناريو المتوقع على ردود استجابة البنوك المركزية لتغير أسعار الفائدة الفيدرالية، إلى جانب عوامل أداء الاقتصاد الكلي، وفي ضوء ذلك نجد أن الدول العربية ستقدم استجابات مختلفة بين السيناريوهات التالية:
1- سيناريو احتواء الصدمة: في هذا السيناريو تستطيع الدول العربية احتواء أثر الصدمة النقدية العالمية من خلال خطة نقدية استباقية، تعلن فيها عن سياستها النقدية المستقبلية حيال الفائدة المحلية وآلياتها للسيطرة على التضخم محلياً.
وسوف يكون هذا السيناريو أكثر نجاحاً إذا ما تكاملت الخطة النقدية مع خطة اقتصادية ومالية لدفع النمو الاقتصادي محلياً، وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي. وقد تلجأ البنوك المركزية هنا إلى تخفيض سعر الفائدة المحلية نحو سياسة أكثر تسهيلاً. ومن المرجح أن تتخذ هذا السيناريو مصر والإمارات والسعودية.
2- سيناريو المفاقمة: تقع الدول العربية ذات الاقتصادات الأكثر انكشافاً أمام الصدمات الخارجية، والتي بالفعل تعاني من تدهور لعملتها المحلية وضعف في أداء قطاع معاملاتها الخارجية، في سيناريو متشائم؛ حيث ينتقل إليها أثر رفع سعر الفائدة الفيدرالية مضاعفاً، وترتفع المخاطر، فيزداد أداء مؤشراتها النقدية والخارجية سوءاً. ومن المرجَّح أن يحدث هذا السيناريو في لبنان، والسودان، وتونس، وجيبوتي، والصومال، وجزر القمر.
3- سيناريو انتقال الأثر المحدود: وهو السيناريو الوسط بين الاثنين السابقين، حيث تلجأ فيه الدول إلى اعتماد بعض آليات استجابة الصدمة المذكورة في السيناريو الأول، فينتقل جزء من أثر رفع الفائدة الفيدرالية، ليصبح بذلك أثراً محدوداً وليس متفاقماً. ومن الدول المتوقعة لهذا السيناريو المغرب، والبحرين، وسلطنة عمان، والعراق، والجزائر.
ختاماً؛ إن الصدمة النقدية الناتجة عن رفع الفائدة الفيدرالية قد تتسع في حال اتّخذت البنوك المركزية للاقتصادات المتقدمة نفس المنحى. وبالفعل قررت بريطانيا رفع سعر الفائدة، بينما ما زال البنك المركزي الأوروبي مبقياً على سعر الفائدة عند مستواه، ولم يصرح بأي رفع مستقبلي بعد.