خصص تنظيم داعش المقالات الافتتاحية في أعداده الأخيرة بصحيفة “النبأ” لتوظيف حرب غزة لتنفيذ أهدافه في زيادة أتباعه بالدول العربية والإسلامية، إلى جانب تجديد التواصل مع ذئابه المنفردة في الغرب وتجديد دوافعهم لتنفيذ هجمات مؤثرة، مع التشكيك في جدوى الأيديولوجيات المتطورة حول الجهاد المحلي خوفاً على تفتت فروعه وبالأخص في أفريقيا، علاوة على مضاعفة المنافسة مع الجماعات المتطرفة الأخرى.
حرص تنظيم داعش على توظيف حرب غزة لتعضيد دعائمه الحركية التي يبني عليها خطة انتشاره وتمكينه عالمياً، وتعتمد هذه الخطة في جوهرها على إقناع التابعين والمتعاطفين بأن القضاء على قوة الغرب سَيَحدُث بإسقاط أنظمة الدول العربية والإسلامية، فيما يُعرف باستراتيجيات العدو القريب والبعيد، إلى جانب استخدام طوفان الأقصى وما تبعه من أحداث لنقض أساليب الجماعات التكفيرية الأخرى وزيادة الحشد لصفوفه.
رسائل حركية
استخدم التنظيم منصاته الإعلامية وبالأخص صحيفة “النبأ” منذ اندلاع أحداث طوفان الأقصى لنشر رسائل متتالية بزغت من سطورها عدة أهداف يسعى لتحقيقها خلال المرحلة المقبلة، ويمكن تفسير ذلك على النحو التالي:
1- تنفيذ هجمات داخل الدول الإسلامية: دعا داعش عناصره لتنفيذ هجمات ضد المؤسسات الحكومية ولا سيما الجيش والشرطة والسفارات لإحداث قلاقل داخل الدول العربية والإسلامية باعتبار أدوات حكمها، سواء الأنظمة أو القواعد الدستورية ومن يحميها، لا يتبعون النهج الصحيح للشريعة الإسلامية، ولا يشتركون في الحرب الدائرة بالقطاع.
2- التشكيك في أنظمة حكم الدول العربية: هاجم التنظيم القمة العربية الإسلامية الطارئة التي عُقدت في 11 نوفمبر الجاري بالرياض، مُشككاً في تأثيرها، بما يخدم استراتيجيته الساعية لنشر الاضطرابات في تلك الدول وزعزعة استقرار أنظمتها، وخصص التنظيم مقالاً في افتتاحية العدد (417) من صحيفة “النبأ” لنشر رسائله بخصوص القمة. إذ ادعى التنظيم أن الدول الحدودية لإسرائيل تمنع إيصال المساعدات التي يرسلها المسلمون لأهل غزة بحجة تعاونهم مع تل أبيب، ويمثل ذلك ادعاء متكرراً تستخدمه الكيانات المناوئة لمصر على وجه التحديد للتشكيك في دورها في إرسال الإعانات للقطاع والالتفاف على حقيقة الأزمة.
3- استنكار مفهوم الوطنية: انتقدت كتابات التنظيم التفاف النخب العربية حول مصطلح الوطنية، معتبرة إياه من أسباب تواجد إسرائيل في المنطقة، علاوة على كونه من العوامل التي أدت بالأنظمة العربية نحو الانخراط في مواثيق التعاون الدولي المخالفة للإسلام. ويبقى السبب غير المباشر في اعتماد داعش على هذا المتغير هو التشكيك في النعرات الحركية المتزايدة حول استبدال الجهادية العالمية بـ(الجهادية المحلية) وفقاً لنموذج طالبان الذي أصبح قدوة مؤثرة للحركات الإرهابية، ويخشى داعش امتداد تأثيره لفروعه.
4- معالجة الرسائل الإعلامية حول قوة الغرب: دفع تنظيم داعش بأن الغرب يستخدم أدواته الإعلامية لصنع قوة زائفة لجيوشه وأنظمته لبث الخوف في نفوس المناوئين له، مؤكداً اعتماد التنظيم على أساليب نفسية حديثة وكذلك عسكرية لمعالجة أثر هذه الرسائل على عناصره.
5- الهجوم على إيران والفصائل المسلحة التابعة لها: هاجم التنظيم إيران وفصائلها بالشرق الأوسط على اعتبار أن النظام الحاكم بطهران مُخالف لصحيح الدين كونه شيعياً، واستخدم داعش هذا النقد للوصول لهدفين غير مباشرين:
أولهما، ضرب تنظيم القاعدة الذي يعتمد على طهران لحماية عناصره وأبرزهم سيف العدل الذي كان يعول عليه أن يخلف أيمن الظواهري في قيادة التنظيم، وهو السبب ذاته الذي يُروج كعامل رئيس في تأخير تسمية قائد القاعدة خوفاً من حدوث انشقاقات داخلية تضر المنافسة المشتعلة بين التنظيمين.
ثانيهما، التقليل من أهمية النشاط المتزايد حالياً للفصائل المسلحة التابعة لإيران ضدالأهداف الأمريكية بالمنطقة، إذ اعتمد داعش منذ بداياته على كثرة الهجمات وعنفها لإظهار أنه أكثر الجماعات تأثيراً، ولذلك يحرص على تثبيت الصورة الذهنية عنه لدى المتعاطفين معه، إلى جانب وأد أي محاولات للتقليل من دوره في الوقت الحالي مقارنة بفصائل أخرى قد تبدو أشد خطراً على العدو الخارجي منه.
6- حُكم داعش للشام كان سَيُحْدِث تأثيراً في حرب غزة: ادعى التنظيم أنه لو كان مُسيطراً على مقاليد حكم الشام حالياً ولم يتم إضعافه عبر قوات التحالف الدولي، لأسهم كحاكم مؤثر في دعم غزة، واعتمد على هذا المتغير للترويج بأن الغرب والمتعاونين مع حكوماته يكافحون التنظيم لإضعاف داعمي المسلمين بفلسطين، كما روج لأن وجوده على رأس سلطة المنطقة كان سيمنع الفرقة الموجودة حالياً ويوحد الجميع تحت رايته.
7- التشكيك في القواعد الفقهية لطالبان: استخدم داعش نقد أسس عمل الهيئات الدولية ولا سيما الأممية كمنفذ للتشكيك في صحيح عقيدة حكام طالبان الساعين للانضمام لهيئة الأمم المتحدة التي لا تُنصف المسلمين، على حد تعبير داعش. كما أشار التنظيم إلى أن سعي طالبان للانضمام للأمم المتحدة جعلها تترنح في علاقاتها الدولية، فتارة تتحالف مع واشنطن والدول الأوروبية، وتارة تتحالف مع منافسيهم روسيا والصين وإيران، ويخدم هذا الخطاب المنافسة مع الحركة في أفغانستان وكذلك مهاجمة تيار (الجهادية المحلية) والتشكيك في منهجه الديني.
8- اتهام جماعة الإخوان بالتقارب مع تركيا ومخالفة الشرع: يُمثل هذا الاتهام متغيراً محورياً خلال الوقت الحالي، فالجماعات التكفيرية انبثقت بشكل أو بآخر كتطور مرحلي لمنهج الجماعة، ويبرز ذلك في كتابات الظواهري عن سيد قطب ودور أفكاره في هذا النهج، ومن ثم يسعى داعش لإبراز ذاته كتنظيم أوحد على الساحة المُتسق دينياً، وفقاً لأفكاره.
كما أن نقد الإخوان يحمل دلالات حول رؤية التنظيم لحركة حماس التي عملت لسنوات كجزء مُعلن من جماعة الإخوان قبل بيانها في عام 2017 الذي أعادت من خلاله تقديم نفسها بتوارٍ عن الجماعة، وهو ما يُعيد التأكيد على أن داعش يوظف الحرب لخدمة أجندته، وأنه التنظيم الأولى باعتناق أفكاره والانضمام إليه، ولكن هذه الدعوة إذا ما أثرت على الداخل فستُمثل في حد ذاتها خطراً على القضية الفلسطينية ومستقبل التعاطف معها، لأن إسرائيل ستستفيد من ذلك لمزيد من قلب الحقائق.
9- حثّ “الذئاب المنفردة” على استهداف الدول الغربية: وجه التنظيم رسائل لتشجيع المتعاطفين معه لتنفيذ هجمات ضد أماكن تجمع اليهود وتهديد الاقتصاد، ما يحتمل معه سعي داعش لتشجيع العناصر على استهداف العلامات التجارية التابعة لإسرائيل والولايات المتحدة.
دلالات الخطاب
ترتكز رسائل داعش الأخيرة التي سعت لتوظيف حرب غزة على ثلاث دلائل أساسية تُبرز مخاوفه ومساعيه في الوقت ذاته، وأبرزها:
1- إحداث اضطرابات داخل الدول العربية: يستخدم التنظيم خطاباً عاطفياً حول الأزمة لنقد الأنظمة الحاكمة في المنطقة والتشكيك فيها، للتأثير على الطبقات الفكرية الوسطى والدنيا كدعائم مهمة للارتباط بصفوفه أو التعاطف معه، ما يضر الشرق الأوسط ويزيد من بؤر التوتر التي تشتت الأمن وتزيد من الكلفة الاقتصادية لمواجهة الإرهاب.
2- تصعيد المنافسة مع الحركات المتطرفة: يُوظف داعش الحرب لنقد خصومه والترويج لضعف عقيدتهم ومنهجهم الحركي، لدعم عناصره داخلياً وزيادة الانتساب لصفوفه، إذ يشكل زيادة تعداده على حساب الجماعات الأخرى نقطة قوة له.
3- التخوف من تنامي أيديولوجيا الجهاد المحلي على حساب العالمي: برز هذا المتغير بوضوح في الرسائل الأخيرة لداعش، كما حرص التنظيم في حديثه عن وحدة المسلمين على نشر صور خلفية لعناصره الأفريقية في دلالة على خوفه من تفتت هذه الفروع وتأثرها بتجربة طالبان.
عامل الحظوظ
وختاماً، يُمكن القول إن داعش يستهدف أصحاب الرؤى السياسية الضعيفة عبر رسائل عاطفية ودينية لتنفيذ خطته مُستغلاً حرب غزة بغير اهتمام لكون هذه الدعاوى تُستغل سياسياً في إسرائيل، كما أن مهاجمة الدول العربية سيزيد من أزماتها لصالح المناوئين، ويبقى أبرز هدف للتنظيم هو الحفاظ على حظوظه وسط الجماعات الأخرى والدفاع عن الجهادية العالمية خوفاً من خسارة فروعه وبالأخص في أفريقيا.