تزايد بشكل ملحوظ الاتفاق على إنجاز أو توقيع عقود تنفيذ الربط الكهربائي بين عدد من الدول العربية، التي تبدأ من التوليد ومن ثم النقل والتوزيع، خلال الفترة القليلة الماضية، بالاعتماد على الأسس الفنية والتشغيلية والتنظيمية والاقتصادية والبيئية، وهو ما ارتبط بجملة من المداخل التي اعتمدت عليها أو الدوافع التي سرَّعت من وتيرة إنجازها، ومنها تنفيذ الرؤى الاستراتيجية الوطنية التي طرحتها بعض القيادات السياسية، وهو ما تشير إليه تجربتا مصر والسعودية، وتعزيز التفاهمات المشتركة إزاء الملفات السياسية بما يعكسه رفع قدرة الربط الكهربائي بين مصر والسودان، والتحول إلى مركز إقليمي لتبادل الطاقة من قبل بعض الدول العربية مثل مصر، والحد من معاناة الدول العربية من نقص الكهرباء على نحو ما تعاني منه لبنان، ومساعدة النظام السوري على التعافي بعد عِقد من الحرب بما يؤدي إلى عودته إلى الحاضنة العربية، ومنع احتكار بعض دول الجوار تصدير الكهرباء لدول عربية، وهو ما ينطبق على الحالة العراقية حيث ترغب حكومة مصطفى الكاظمي في تنويع مصادر الطاقة بدلاً من الاعتماد المنفرد على إيران.
تشير التفاعلات الجارية في المنطقة العربية إلى أن الدول العربية تتجه إلى تعزيز مشروعات الربط الكهربائي فيما بينها، انطلاقاً من جملة من الدوافع المُحفِّزة أو المحددات الحاكمة، بما يُطوِّر جهود التكامل البيني العربي، وذلك على النحو التالي:
رؤية 2030
1- تنفيذ الرؤى الاستراتيجية الوطنية: وقّعت مصر والسعودية، في 5 أكتوبر الجاري، عقود تنفيذ مشروع الربط الكهربائي بين البلدين لتبادل 3 آلاف ميجاوات بتكلفة إجمالية 1.8 مليار دولار، حيث يتم تشغيل المشروع كاملاً خلال 42 شهراً، على أن يتم تشغيل المرحلة الأولى خلال 26 شهراً، بما يعزز الاتجاه التكاملي بين البلدين. وقد تم التوقيع بحضور د.محمد شاكر وزير الكهرباء ود.رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي، وأسامة نقلي سفير السعودية بمصر، وعبر الفيديو كونفرانس حضر وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، وعدد من المسئولين الحكوميين وممثلي شركات القطاع الخاص التي تمت ترسية عقود تنفيذ مراحل ومكونات المشروع عليها وتشمل محطات المحولات والكابل البحري الناقل للطاقة والخط الهوائي بين البلدين.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع يعد تتويجاً لعمق العلاقات المصرية- السعودية، وتنفيذ توجيهات قيادتى البلدين لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدول العربية، حيث أن الربط الكهربائي بينهما يعد نواة لربط عربي مشترك. كما أنه يأتي مُكمِّلاً لرؤيتى البلدين 2030، والتي تمثل أهمية محورية على الصعيد التنموي، مع الأخذ في الاعتبار أن المشروع ينفذ بين أكبر شبكتين كهربائيتين في المنطقة العربية، وهو ما ينعكس على زيادة اعتمادية التغذية الكهربائية. ووفقاً لما ذكرته د.رانيا المشاط، فإن ما قيمته 484 مليون دولار كانت تمويلات إنمائية من مؤسسات عربية لتمويل مشروع الربط الكهربائي، لأن الأخير سيعمل على جهود التكامل الإقليمي، ويسهم في تعزيز مكانة كل من مصر والسعودية، بصفتهما محورين رئيسيين للربط العربي المشترك.
توافق سياسي
2– تعزيز التفاهمات المشتركة إزاء الملفات السياسية: أبرمت مصر والسودان، في 30 مارس الماضي، اتفاقاً لرفع خط الربط الكهربائي القائم بين البلدين، من 80 ميجاوات إلى 300 ميجاوات. وقد بلغت قيمة العقد 29 مليون دولار، وسيكون تمويل قيمة العقد من المشروعات الاستراتيجية لديوان عام وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة بمدة تنفيذ تصل إلى نحو 18 شهراً من تاريخ توقيع العقد. ويأتي العقد الجديد في إطار اهتمام مصر بسرعة تنفيذ مشروع الربط الكهربائي مع السودان، وسرعة إنهاء المرحلة الثانية من هذا المشروع.
ولعل ذلك يسهم في تقوية العلاقات الثنائية ويعزز المصالح المشتركة ويزيد من التفاهمات بشأن القضايا الهامة مثل أزمة سد النهضة. كما أن مصر تحرص على دعم دول إفريقيا وحوض النيل لتلبية احتياجاتها من الكهرباء. وقد يكون تدشين مشروعات للربط الكهربائي مع ليبيا لأسباب سياسية أيضاً لاسيما في ظل الحدود المشتركة التي تمتد لأكثر من 1200 كم، بما يفرض احتواء المخاطر الأمنية القادمة عبر تلك الحدود في ظل وجود مناطق غير مسيطر عليها. وكذلك الحال بالنسبة لتغذية الجزائر وتونس لليبيا بالكهرباء.
مركز إقليمي
3- التحول إلى مركز إقليمي لتبادل الطاقة: وهو ما توضحه جلياً الحالة المصرية من تحركات مسئوليها وخطاباتهم، حيث قال الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال كلمة له في 23 إبريل الماضي أثناء لقائه كبار قادة القوات المسلحة: “عندنا كهرباء زيادة ممكن نودي لليبيا زى ما هم عايزين 1000 ميجاوات أو 2000 ميجاوات، والسودان نفس الكلام، والأردن والعراق لو عايزين 1000 أو 2000 ميجاوات نديهم.. عندنا الحمد لله رب العالمين”. فمصر تخطط لتصدير فائض الطاقة الكهربائية للعديد من الدول العربية ضمن استراتيجية التحول إلى مركز إقليمي لتبادل الطاقة، في ظل نقص الطاقة الكهربائية لدى بعض الدول، وانهيار شبكات أخرى في سوريا والعراق.
إنارة بيروت
4- الحد من معاناة الدول العربية من نقص الكهرباء: تشهد لبنان أزمة غير مسبوقة شملت نقصاً حاداً في الكهرباء، بحيث اتفق وزراء الطاقة في كل من الأردن ولبنان وسوريا في ختام اجتماعهم في العاصمة عمّان، في 6 أكتوبر الجاري، على تزويد لبنان بجزء من احتياجاته من الطاقة الكهربائية من الأردن عبر الشبكة الكهربائية السورية، وفقاً لما أشارت إليه وكالة الأنباء الفرنسية، وهو ما يتطلب خطة عمل واضحة ومحددة وبرنامج زمني لإعادة تشغيل خط الربط الكهربائي بين الأردن وسوريا وإجراء كافة الدراسات الفنية وإعداد الاتفاقيات اللازمة لتنفيذ عملية التزويد.
ويهدف ذلك إلى تزويد لبنان بالكهرباء، إلا أن خط الكهرباء داخل سوريا تعرَّض لأضرار متعددة، ويحتاج إلى عدة أشهر لإصلاحها. وفي هذا السياق، أعلنت الرئاسة اللبنانية، في 19 أغسطس الماضي، تبلغها من السفيرة الأمريكية دوروثي شيا موافقة بلادها على مساعدة لبنان لاستيراد الطاقة الكهربائية والغاز مروراً بسوريا. وكان وزراء الطاقة في كل من الأردن ومصر ولبنان وسوريا قد أعلنوا، في 8 سبتمبر الماضي، الاتفاق على خارطة طريق من أجل تزويد لبنان بالكهرباء مروراً عبر الأراضي السورية. ووفقاً لتصريحات إعلامية صادرة عن وزيرة الطاقة والثروة المعدنية الأردنية هالة زواتي لقناة “سكاى نيوز”، في 7 أكتوبر الجاري، فإن لبنان يسعى لتمويل خط نقل الكهرباء من البنك الدولي، وأضافت: “نأمل بتوصيل الكهرباء إلى لبنان بنهاية العام الجاري”، وهو ما أوضحه وزير الكهرباء السوري غسان الزامل.
تعافي دمشق
5- مساعدة النظام السوري على التعافي: برز اتجاه رئيسي في الآونة الأخيرة يتبنى الانفتاح على الحكومة السورية بعد أكثر من عقد على الحرب، وهو ما عكسته جملة من المؤشرات التي تتمثل في عودة اللقاءات الرسمية لبعض مسئولي الدول العربية مع نظراء سوريين لهم، والمشاركة في معارض تنظم في دمشق، والتطلع لمشاركة شركات مقاولات من الحكومات والقطاع الخاص من دول عربية مختلفة في إعادة إعمار سوريا، والحرص على إدماج سوريا في المشروعات المتعلقة بالغاز والكهرباء. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مصر تدرس رفع قدرات الخطوط التي تربطها بالأردن، للقدرة على الربط الكهربائي مع لبنان وسوريا والعراق.
استيعاب بغداد
6- منع احتكار بعض دول الجوار تصدير الكهرباء لدول عربية: وينطبق ذلك على الحالة العراقية، إذ اتفق رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مع ولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، خلال زيارته للرياض في 31 مارس الماضي، على إنجاز مشروع الربط الكهربائي لأهميته بالنسبة للدولتين. كما أعلنت وزارة الكهرباء العراقية، في أول سبتمبر الفائت، إكمال الإجراءات النهائية لمشروع الربط الكهربائي الخليجي، الذي يُعزز إمدادات الطاقة الكهربائية المُجهَّزة لمناطق جنوب العراق، ويرفد منظومة الطاقة الكهربائية الوطنية بطاقات جديدة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع سيسهم في تزويد الشبكة الوطنية العراقية بطاقة 500 ميجاوات كمرحلة أولى.
وفي هذا السياق، طرح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، في 4 يوليو الماضي، خلال كلمته في الاجتماع الطارئ مع محافظي مختلف المحافظات العراقية وخلية الأزمة للطاقة الكهربائية، سؤالاً اعتبر أنه “مُحيِّر”، مفاده: “لماذا لم تعمد الحكومات العراقية طيلة 17 سنة لإبرام اتفاقيات ربط كهربائية مع الدول العربية المجاورة، واكتفت فقط بالربط مع إيران؟”، مضيفاً: “من غير المعقول أن دولة لا توجد لديها خطة استراتيجية في الكهرباء”، قائلاً إن “كل دول العالم تأخذ احتياطات للكهرباء، وتربط مع مختلف دول الجوار، بينما العراق لديه ربط فقط مع إيران”.
ولهذا السبب، نوّه الكاظمي إلى أن حكومته بادرت بمشروع الربط الكهربائي مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، بما يؤدي إلى تنويع مصادر الطاقة، ومشروع الربط مع دول مجلس التعاون الخليجي سيدخل حيز التطبيق قبل نهاية عام 2022. وكذلك الحال بالنسبة لمشروع الربط الكهربائي مع الأردن.
رابح- رابح
خلاصة القول، إن الكهرباء تمثل نواة لمشروعات الربط بين الدول العربية أو ما يعرف بالسوق العربية المشتركة، سواء ربط بين دولتين أو أكثر، وهو ما تعثرت فيه تلك الدول على مدى عقود، بحيث توافرت مؤشرات على اتجاهات اقتصادية ذات أبعاد تكاملية تعزز من ذلك من خلال مشروعات المياه والغاز والبنية التحتية، وامتد ذلك إلى الكهرباء، ليصبح كل الأطراف العربية “رابحة” ومنها استغلال بعض الدول العربية موقعها الاستراتيجي وتطلعها لأن تكون مركزاً إقليمياً لتبادل الطاقة الكهربائية. فضلاً عن مواجهة طبيعة عدم استقرار الطاقة المتجددة، وتقليل تكلفة إنتاج الطاقة ما ينعكس إيجاباً على بيع أسعار الطاقة الكهربائية للمستهلكين. هذا إلى جانب تقليل اعتماد العراق على استيراد الكهرباء من إيران.