حاولت بعض دول الشرق الأوسط منذ بداية الأزمة الأوكرانية تبني سياسة حذِرة تجاه تطوراتها، وتجنب إبداء مواقف منحازة لأىٍ من أطرافها. ولكن بمرور الوقت، وخاصة بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 21 فبراير الجاري، الاعتراف باستقلال منطقتى لوغانسك ودونيتسك عن أوكرانيا وما تلا ذلك من تدخل عسكري روسي في أوكرانيا في 24 من الشهر نفسه، تشكلت ملامح مواقف محددة تجاه الأزمة الأوكرانية من جانب بعض الأطراف الإقليمية في الشرق الأوسط، وهى المواقف التي تعكس ديناميات التفاعلات الحاكمة للمنطقة خلال السنوات الماضية، وطبيعة الصراعات التي شهدتها المنطقة واستدعت معها دوراً متصاعداً لروسيا في بعضها، فضلاً عن طبيعة العلاقات التي جمعت العديد من دول المنطقة مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، وهو الأمر الذي ساهم في تعقيد حسابات الفاعلين بالشرق الأوسط وطريقة تعاملهم مع الأزمة الأوكرانية.
عوامل مؤثرة
لم يكن من الممكن للدول، أو حتى للفاعلين من غير الدول، في الشرق الأوسط، أن تتجاهل الأزمة الأوكرانية نظراً للتداعيات الممتدة للأزمة على المنطقة وخاصة من الزاوية الاقتصادية. صحيح أن هذه التداعيات تعزز من اهتمام دول المنطقة بما يجري في أوكرانيا، ولكن تفسير أنماط الاستجابة الإقليمية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يظلّ مرتبطاً بعوامل أكثر عمقاً وليست وليدة اللحظة. فمن جهةٍ أولى، تشكّلت على مدار السنوات الماضية عوامل دافعة لتوسع الحضور الروسي في المنطقة في خضم طموحات موسكو للاضطلاع بدور أكبر في النظام الدولي الراهن، حيث تدخلت عسكرياً في سوريا دعماً لنظام الرئيس بشار الأسد ضمن تحالف موسع مع إيران ووكلائها، كما ظل الدور الروسي في الملف الليبي موضع اهتمام من قبل أوساط عديدة في المنطقة، ناهيك عن تبني موسكو سياسة الانفتاح المتعدد على أطراف مختلفة، ومتعارضة في الوقت ذاته، في الشرق الأوسط.
ومن جهةٍ ثانية، بدا أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا اجترت معطيات الاستقطاب التي هيمنت على المنطقة خلال السنوات الماضية نتيجة للصراعات العنيفة التي وقعت في بعض دول المنطقة، وكانت روسيا جزءاً منها. ومن ثمّ، شكّل ما يجري في أوكرانيا فرصة للبعض للترويج لسرديته السياسية ضد خصومه، واستغلال الصراع الأوكراني من أجل الثأر، إن جاز التعبير، من موسكو وتدخلها العسكري في الشرق الأوسط، وخصوصاً في حالة سوريا. ومع ذلك، كان هناك وجه آخر لسياسة تصفية الحسابات مع موسكو ظهر مع محاولة البعض استغلال الأزمة الأوكرانية لاستقطاب دعم موسكو في بعض الصراعات.
ومن جهةٍ ثالثة، لم تنفصل أنماط التفاعل الإقليمي مع تطورات الأزمة الأوكرانية عن التحولات التي شهدتها المنطقة في السنوات الماضية في ظل الإشارات التي وجهتها واشنطن بشأن إمكانية التراجع عن الانخراط المكثف في قضايا المنطقة، وهي الإشارات التي تزامنت مع محاولات قوى دولية، وبالأخص الصين وروسيا، تعزيز حضورها في المنطقة. هذا الطلب المتزايد على الشرق الأوسط من قبل قوى دولية منافسة للولايات المتحدة أنتج المزيد من الضغوط على دول المنطقة، وجعلها إما حذِرة في تعاملها مع الملف الأوكراني حفاظاً على توازنات علاقاتها الخارجية، وإما منحازة لأىٍ من طرفى الأزمة (روسيا، أو الولايات المتحدة والدول الأوروبية) بحسب مصالحها وطبيعة تحالفاتها.
أبعاد رئيسية
تُشكل العوامل الثلاثة السابقة مدخلاً رئيسياً لتفسير أنماط وأبعاد استجابة الفاعلين بالمنطقة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث يمكن تناول أهم هذه الأبعاد فيما يلي:
1– غلبة سياسة الترقب الحذِر: تكشف بعض ردود الفعل الرسمية العربية تجاه الأزمة، حتى الوقت الراهن، عن غلبة الطابع الحذِر على سياسة بعض الدول العربية، وتجنب إبداء مواقف رسمية تجاه تطورات الأحداث أو الاكتفاء بإصدار بيانات تستخدم مصطلحات دبلوماسية محايدة لا تتضمن انحيازات بعينها. ولا يمكن إغفال أن هذه السياسة الحذِرة متعلقة بطبيعة الأزمة وتعقيداتها، وكذلك تشابكات العلاقات بين دول المنطقة وطرفى الأزمة، روسيا والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
2– تأثير التحالف مع روسيا: دللت المواقف الإقليمية من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على استمرار ديناميات التحالف السوري – الإيراني – الروسي، حيث أظهر النظام السوري درجة واضحة من الاستعداد لدعم السياسة الروسية في أوكرانيا، ولا سيما فيما يتعلق بالاعتراف باستقلال كل من لوغانسك ودونيتسك عقب القرار الذي اتخذته روسيا في هذا الصدد في 21 فبراير الجاري. كما عبر الرئيس السوري بشار الأسد، في مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي في 25 من الشهر نفسه، عن دعمه للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ووصف ما تقوم به روسيا بأنه “تصحيح للتاريخ، وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفيتي”.
ومن جهتها، كشفت طهران عن حالة من التماهي مع السردية الروسية للأحداث في أوكرانيا، ولعل هذا ما كشف عنه الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس بوتين ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، في 24 فبراير الجاري، حيث نقلت وكالة “سبوتنيك” عن الكرملين قوله في بيان إن “بوتين أطلع رئيسي على تطورات الوضع حول أوكرانيا في سياق قرار إجراء عملية عسكرية خاصة لحماية السكان المدنيين في جمهوريات دونباس وفقاً للقانون الدولي والالتزامات بموجب اتفاقيات الصداقة والمساعدة المتبادلة مع جمهوريتى دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين”. ومن جانبه، أعرب الرئيس الإيراني -وفقاً للبيان- عن “تفهمه للمخاوف الأمنية الروسية بسبب الأعمال المزعزِعة للاستقرار من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي”.
3– انعكاسات التنافس بين تركيا وروسيا: لا تنفصل الاستجابة التركية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عن إرث التنافس مع روسيا في عدد من ملفات الشرق الأوسط، فبالرغم من أن السنوات الماضية شهدت مساحات للتفاهم بين أنقرة وموسكو في بعض الملفات على غرار الملف السوري، إلا أن العلاقات بينهما ظلت موسومة بدرجة كبيرة من التنافس وصراع المصالح، والتوتر في أحيانٍ كثيرة. ولا يمكن إغفال أن هذه الخلفية المعقدة تسهم بصورة رئيسية في تشكيل الموقف التركي من الأزمة الأوكرانية.
في هذا الإطار، أصدرت وزارة الخارجية التركية، في 24 فبراير الجاري، بياناً أكدت خلاله رفضها التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، واعتبرته “غير مقبول”. ودعا البيان روسيا إلى وقف أعمالها “غير القانونية” ضد أوكرانيا. وقال إن “هذا التدخل يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ولاتفاقيات مينسك، وتهديداً خطيراً لأمن المنطقة والعالم”. كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن أنقرة ترى التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا “مخالفاً للقانون الدولي، وتعتبره ضربة قاصمة موجهة ضد أمن المنطقة واستقرارها ورخائها”. وأضاف أن بلاده “ستقوم بما يقع على عاتقها لضمان سلامة أرواح كل من يقيم في أوكرانيا، ولا سيما المواطنين الأتراك والتتار”.
4– الانحياز الإسرائيلي للموقف الغربي: أظهر الموقف الإسرائيلي من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا انحيازاً للموقف الغربي. وربما يرتبط هذا الموقف بديناميات الصراع السوري والتقارب الروسي-الإيراني الذي يُثير الكثير من الهواجس الإسرائيلية. ويلاحظ هنا أن الموقف الإسرائيلي أفضى إلى توتر سياسي مع موسكو، فبعد إدانة إسرائيل للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ووصفها بأنها “انتهاك للنظام الدولي”، أصدرت روسيا بياناً أدانت خلاله خطط إسرائيل للبناء في مرتفعات الجولان، وذكر البيان أن “روسيا لا تعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان التي هى جزء من سوريا”.
5– توظيف الفاعلين من غير الدول للأزمة: شكّلت الأزمة الأوكرانية فرصة مواتية بالنسبة للعديد من الفاعلين من غير الدول لخدمة مصالحهم، ولذا بلور هؤلاء الفاعلون عدداً من التوظيفات الرئيسية وفي مقدمتها اجترار ما يحدث في أوكرانيا إلى الصراعات في المنطقة، فبعض المنصات المحسوبة على قوى المعارضة في سوريا أدانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ورأت أن هذه العملية لا تختلف كثيراً عما تقوم به روسيا داخل سوريا، ومن ثم طالبت الدولَ الغربية بتوسيع ضغوطها على موسكو للتوقف عن التدخل في سوريا.
ومن جهةٍ ثانية، حاولت المليشيا الحوثية المتمردة استغلال ما يجري في أوكرانيا لخدمة مصالحها وربما الحصول على الدعم الروسي، ولعل هذا ما عبر عنه القيادي في المليشيا محمد علي الحوثي، الذي نشر تغريدة على موقع “تويتر” في 21 فبراير الجاري، قال فيها: “نؤيد الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك جمهوريتين مستقلتين، وندعو الى ضبط النفس وعدم الانزلاق في حرب يُراد لها استنزاف القدرات الروسية”.
مصالح مترابطة
ختاماً، يبدو أن اتجاهات الاستجابة الإقليمية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ستظل محكومة بالحسابات السياسية والأمنية، وكذلك معطيات العلاقات السابقة مع روسيا والتقاطع بين أزمة أوكرانيا والصراعات القائمة في الشرق الأوسط، فضلاً عن أن العملية العسكرية لا تزال مستمرة ومن الصعب استجلاء مآلاتها النهائية في اللحظة الآنية، وهو ما يعني إمكانية فرض المزيد من الضغوط، وخاصة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، على بعض دول المنطقة من أجل تبني مواقف متسقة مع الموقف الأمريكي.