تشهد مناطق جغرافية محددة، سواء في المركز أو الأطراف، داخل دول في الشرق الأوسط، احتجاجات متصاعدة، يقودها سياسيون وحزبيون ومهنيون وعمال في نهاية عام 2021، لاعتبارات عديدة تتمثل في ارتباك الانتقال السياسي في السودان، وإلغاء التدابير الاستثنائية، ومعالجة إشكالية التنمية غير المتوازنة في تونس، وانتزاع حصة من الوزارات عند تشكيل الحكومة في العراق، وتوفير فرص عمل للخريجين في محافظات جنوب العراق التي تمثل مركز الحراك الشعبي منذ عام 2019، والحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان وتركيا، ونقص إمدادات المياه في إيران، ومحاكمة واعتقال نشطاء الرأى في الأراضي الفلسطينية وسوريا.
وقد تعددت العوامل المفسرة لتصاعد دورة الاحتجاج في إقليم الشرق الأوسط، وبصفة خاصة في الربع الأخير من عام 2021، وذلك على النحو التالي:
عودة المسار
1- استمرار ارتباك الانتقال السياسي في السودان: تزايدت الاحتجاجات من قبل قوى سياسية وكوادر مهنية كالأطباء، منذ نهاية أكتوبر 2021 وحتى نهاية ديسمبر الجاري، للمطالبة بالتحول من الانتقال السياسي الهش إلى التحول الديمقراطي المستقر، وفقاً للمطالب المرفوعة، بحيث يتم تكليف المكون المدني بقيادة الحكومة الانتقالية. وكان أبرز تلك الاحتجاجات خروج حشود غفيرة في العاصمة الخرطوم، في 25 ديسمبر الجاري، للتنديد بالاتفاق السياسي الذي تم التوصل إليه، في 21 نوفمبر الفائت، بين المجلس السيادي برئاسة الفريق عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك الذي أفضى إلى قيام الأخير بتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة تحت إشراف عسكري، الأمر الذي يفسر تعثر جهود عبدالله حمدوك لتشكيل تلك الحكومة على مدى أكثر من شهر، حيث وُجِّهت دعوات للتظاهر من قبل تجمع المهنيين ولجان المقاومة.
وكانت أبرز تلك الاحتجاجات في العاصمة ومدن أخرى، في 19 ديسمبر الجاري، تحت شعار “مليونية تحرير الخرطوم من الانقلابيين”، والتي تزامنت مع الذكرى الثالثة لثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظام “الجبهة الإسلامية” برئاسة عمر البشير، وهو ما اعتبرتها بعض التحليلات نقطة تحول في الحراك الشعبي السوداني. ولا يزال المحتجون يرفعون شعارات “لا تفاوض ولا مساومة ولا شرعية”، على نحو يعكس مطالب محددة أكدت عزمهم على الاستمرار في الاحتجاج حتى تشكيل حكومة مدنية تحاسب من قام بقتل أنصار بعض القوى المحتجة وتوحيد الجيش السوداني وحصر مهامه في الدفاع عن حدود البلاد ودستورها.
رفض الاستثناء
2- الدعوة إلى إلغاء التدابير الاستثنائية في تونس: تواصلت تجمعات الاحتجاج التي شهدتها تونس في مرحلة ما بعد تمديد القرارات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو 2021، للمطالبة برفع التجميد عن البرلمان، وإعادة العمل بالدستور. وقد تصاعد الاحتجاج بعد 13 ديسمبر الجاري، حينما طرح الرئيس سعيّد خريطة طريق للخروج من التدابير الاستثنائية. وتمثلت أبرز بنود هذه الخريطة في مواصلة تجميد أو تعليق عمل مجلس نواب الشعب (البرلمان) حتى تنظيم انتخابات جديدة في البلاد، وإجراء حوار وطني بدءاً من يناير 2021 عبر المنصات الإعلامية بعد استشارة شعبية على أن تنتهي هذه المرحلة في 20 مارس القادم، بحيث ستتولى لجنة تأليف مختلف المقترحات، وأيضاً إجراء استفتاء شعبي على مشروعات الإصلاحات الدستورية بما فيها قانون الانتخابات في 25 يوليو القادم، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في 17 ديسمبر 2022، على نحو يتزامن مع الذكرى السنوية للثورة التي أدخلت الديمقراطية إلى البلاد، على حد تعبير الرئيس سعيّد.
ووفقاً لما أعلنه قطاع من المحتجين، وخاصة الذين يطلقون على أنفسهم “مواطنون ضد الانقلاب”، سيتم الاستمرار في الوقفات الاحتجاجية بالشارع حتى 14 يناير المقبل، وهو تاريخ سقوط حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي قبل 11 عام. وفي سياق متصل، دعت حركة “النهضة”، في 17 ديسمبر الجاري، إلى “تصعيد أشكال النضال السلمي” ضد قرارات رئيس الجمهورية، وخططه لإصلاح النظام السياسي، لاسيما أنه سبق أن طالبت الحركة في مبادرة رئيسها راشد الغنوشي بإلغاء تجميد البرلمان وكذلك رفع قرارات الحظر عن أعضاءه، وهو ما رفضه الرئيس سعيّد، ومن الملاحظ أن الأخير واصل تعليق عمل البرلمان ولم يتجه إلى حله؛ لأنه إذا قام بحله فسوف يكون مضطراً لإجراء انتخابات برلمانية خلال فترة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر وفقاً لنص الدستور في هذا الخصوص، وهو ما يعني أيضاً أن الرئيس سعيّد سيعمل على تهيئة الأجواء السياسية الداخلية بعد تعديل قانون الانتخابات لتنظيم انتخابات برلمانية وفق أسس وضوابط تسهم في إنتاج برلمان جديد وصياغة دستور جديد يقود إلى تدشين نظام سياسي مختلف.
غنائم السلطة
3- انتزاع حصة من الوزارات عند تشكيل الحكومة في العراق: صعّدت بعض الفصائل المسلحة، في أكتوبر الماضي، من احتجاجها في محافظات مثل بغداد والبصرة وذي قار قبل الإعلان عن نتيجة الانتخابات البرلمانية التي تمخض عنها فوز التيار الصدري بأكثرية المقاعد، واستغلت تلك الفصائل عناصر “الحشد الشعبي” والحركات المسلحة الأخرى، ولوَّحت بالسلاح للضغط على القوى السياسية بهدف ضمان حصة وازنة عند تشكيل الحكومة العراقية أو عدم تجاوزها بشكل كامل بسبب الهزائم التي تعرضت لها.
تنمية مستدامة
4- معالجة إشكالية التنمية غير المتوازنة في تونس والعراق: تجددت الوقفات الاحتجاجية، في النصف الثاني من ديسمبر الجاري، في مدينة القصرين التونسية، حيث طالب المحتجون بإحداث تنمية حقيقية في الأطراف أو الهامش وتوفير فرص عمل للشباب. وفي سياق متصل، تواصلت الاحتجاجات الشعبية في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار جنوب العراق، في 22 ديسمبر الجاري، إذ طالبت بتحسين الخدمات العامة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الناصرية تعد أحد معاقل الحراك الاحتجاجي عام 2019 الذي استمر لأكثر من عام نظراً لتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانعدام فرص العمل فيها، الأمر الذي يغذي عوامل السخط المجتمعي على نحو ما أدى إلى حرق معظم المقار للأحزاب والفصائل المسلحة.
انهيار الليرة
5- الحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان وتركيا: عادت الوقفات الاحتجاجية وبشكل خاض “قطع الطرقات” في العاصمة بيروت ومدن أخرى، في نوفمبر الفائت، على خلفية تردي الأوضاع المعيشية وانهيار سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار، ولم يؤد تشكيل حكومة نجيب ميقاتي إلى التخفيف من انهيار الليرة، إذ تشير بعض التقديرات إلى خسارة الليرة أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار خلال العامين الأخيرين. وفي هذا السياق، يشير البنك الدولي إلى أن لبنان تواجه إحدى أكثر أزمات الكساد في العصر الحديث نظراً لسوء الإدارة من قبل النخب السياسية وتفشي الفساد.
وفي 19 ديسمبر الجاري، خرج آلاف الأتراك في مظاهرات باسطنبول وأنقرة- استجابة لنداء اتحاد نقابات عمال الخدمة العامة- احتجاجاً على السياسات الاقتصادية للرئيس رجب طيب أردوغان وحكومة “العدالة والتنمية” التي تسببت في تراجع الوضع الاقتصادي وانهيار عملة البلاد التي خسرت ما يقرب من 50% من قيمتها أمام الدولار، حيث ندد المتظاهرون بغلاء الأسعار، وسوء الحالة المعيشية وزيادة التضخم، ورفعوا لافتات كتب عليها “لا نريد العيش بالحد الأدنى للأجور” و”نطالب بأجر يكفي حياة كريمة” وأكدوا أن الشعب سيحاسب حكومة حزب “العدالة والتنمية”. ولعل ذلك دفع نائب رئيس الوزراء الأسبق علي باباجان إلى التعبير عن ندمه في مقابلة صحفية، في 20 ديسمبر الجاري، لصمته على سياسات الرئيس أردوغان بعد تركه منصبه في عام 2015.
أزمة الجفاف
6- نقص إمدادات المياه العذبة في بعض المحافظات الإيرانية: شهدت محافظة أصفهان، في نوفمبر الفائت، تزايد الاحتجاجات من قبل المزارعين على خلفية تناقص المياه في مناطق مختلفة بتلك المحافظة. وفي يوليو الماضي، اندلعت احتجاجات في إقليم خوزستان جنوب غرب إيران بسبب نقص المياه أيضاً. وتشير العديد من التحليلات إلى أن هذه أسوأ أزمة جفاف تضرب مناطق إيرانية منذ خمسة عقود، وهو ما يرتبط في أحد أبعاده بسوء الإدارة.
قمع الحريات
7- محاكمة واعتقال النشطاء في الأراضي الفلسطينية وسوريا: فعلى سبيل المثال، احتج نشطاء وحقوقيون فلسطينيون، في 19 ديسمبر الجاري، في مدينة رام الله، على محاكمة السلطة الفلسطينية نشطاء رأى تم احتجازهم لفترات متفاوتة، على خلفية مشاركتهم في تظاهرات ضد السلطة الفلسطينية، بعد احتجاز هؤلاء الأشخاص من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية. وقد ارتدى المشاركون في الاحتجاج الزى البرتقالي تعبيراً عن رفض المحاكمة التي يواجهها النشطاء، ورفعوا لافتات مكتوب عليها مطالب بحماية حرية الرأى والتعبير. كما شهدت مدينة السويداء السورية، في 20 ديسمبر الجاري، احتجاجات على خلفية مقتل شاب من أبناء المدينة وسقوط عدد آخر من الجرحى بعد اعتقاله من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري، لمعارضته النظام ومشاركته في مظاهرة احتجاجية سلمية للمطالبة بتحسين الظروف المعيشية.
عوامل ضاغطة
خلاصة القول، إن هناك عوامل ضاغطة تتوافر لتعزيز دورة الاحتجاج في منطقة الشرق الأوسط، بخلاف ما تم ذكره مثل احتجاجات انقطاع الكهرباء في ليبيا ولبنان، فضلاً عن احتجاجات المغتربين اللبنانيين للمطالبة بمحاسبة المسئولين عن انفجار مرفأ بيروت، وتصاعد احتجاجات المعلمين في المغرب وإيران وغيرها، على نحو يمثل بيئة كاشفة ومُحفِّزة لعدم الاستقرار الإقليمي في عام 2021، ولا يوجد ما يشير من قريب أو بعيد إلى أنه يمكن تجاوز تلك الحالة المزمنة من الاضطراب خلال العام المقبل، كما لو أن الإقليم تتراوح خياراته ما بين البقاء في الاضطراب أو التحين للدخول إليه بشكل جديد.