أدوار استخباراتية:
كيف تخدم الدبلوماسية الدينية السياسة الخارجية التركية؟

أدوار استخباراتية:

كيف تخدم الدبلوماسية الدينية السياسة الخارجية التركية؟



شكّل الخطاب الديني واحدًا من أهم أدوات النظام التركي في تحقيق مصالحه. وبالرغم من أن الدستور ينص على علمانية الدولة التركية؛ فإن واقع ممارسات النظام التركي، بقيادة حزب العدالة والتنمية، كشف عن مقاربة مغايرة لمفهوم العلمانية، فقد أثبت النظام حرصه الدائم على استحضار الخطاب الديني في كافة ممارساته، وإضفاء الصبغة الدينية على أجندته السياسية الخارجية، وترسيخ صورة تركيا كقائدة للعالم الإسلامي، وذلك تحت مظلة مشروع “الدولة العثمانية الجديدة” الذي يتبناه الرئيس التركي “أردوغان” وحزبه الحاكم.

أدوات رئيسية

لعبت الدبلوماسية الدينية دورًا مؤثرًا وجوهريًا في السياسة الخارجية التركية، لا سيما مع تنامي نفوذ المؤسسات الدينية الحكومية وغير الحكومية منذ بداية عهد حزب “العدالة والتنمية”، حيث تم الاعتماد على تلك المؤسسات كأدوات لإثبات حضور تركيا الديني، وتنفيذ الأجندة السياسية والأيديولوجية للحزب الحاكم إقليميًا وعالميًا. ومن بين أبرز المؤسسات الدينية: 

1- رئاسة الشؤون الدينية “ديانت”: عملت “ديانت” منذ نشأتها عام 1924، كمؤسسة دينية حكومية مُستقلة ومحدودة الصلاحيات. إلا أنه مع تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم تنامَى دور المؤسسة حتى أصبحت تُضفي نوعًا من الشرعية على النظام الحاكم وسياساته، وأصبحت مسؤولة قانونيًا ودستوريًا عن كل ما يخص الإسلام والمسلمين، ليس فقط داخل تركيا بل وخارجها أيضًا. فوفقًا للقانون رقم 6002 التأسيسي، تمتلك مؤسسة “ديانت” مُستشارين ومُلحقيين وموظفين في العديد من البلدان من أستراليا إلى أمريكا، وذلك للعمل على تطوير العلاقات بين المؤسسات والهيئات الدينية، وإقامة الأنشطة التعليمية وغير التعليمية، وتقديم الخدمات الدينية للمجتمعات الإسلامية حول العالم.

هذا فضلًا عما يُمكن تسميته بـ”دبلوماسية المساجد” التي تتبناها تركيا، حيث تُدير المؤسسة أكثر من 8500 مسجد في تركيا، وأكثر من 2000 مسجد حول العالم، منهم ما يُقارب 1000 مسجد في ألمانيا فقط. ومن أهم وأكبر مشاريع المؤسسة في الخارج هو مركز “ديانت في أمريكا”، الذي يعمل كمسجد ومركز ثقافي بالتنسيق الكامل مع المقر الرسمي لمؤسسة “ديانت” في تركيا، ويتم الترويج له كأكبر مجمع إسلامي تركي في النصف الغربي من الكرة الأرضية. ومن الجدير بالذكر في هذا الشأن أن المؤسسة تقوم بإعداد الخطب الأسبوعية التي تُقرأ في جميع المساجد داخل وخارج البلاد، وهو ما دفع بعض الدول لحظر التمويل لتلك المساجد، مُتهمة إياها بالعمل على نشر الأفكار المتطرفة، وخدمة مصالح النظام التركي السياسية، لا سيما في مواجهة مُعارضيه في الخارج.

وبرغم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وأزمة (كوفيد-19)؛ إلا أن برنامج الأداء السنوي لعام 2020 المنشور على موقع المؤسسة قد أوضح أنها تسعى للنمو خلال العامين المُقبلين. فبينما كان مُخصصًا لها ميزانية بقيمة 11.6 مليار ليرة تركية عام 2020، فمن المتوقع أن يُخصص لها 12.4 مليار ليرة لعام 2021، و13.2 مليار ليرة لعام 2022، حيث تتجاوز ميزانية المؤسسة الوزارات الأخرى بهامش فرق كبير، مما يعكس مدى أهميتها لدى النظام الحاكم.

2– وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا”في البداية تم الإعلان عن تأسيس الوكالة كمنظمة خيرية عام 1992 بموجب قرار وزاري، للعمل على التعاون في مجالات التنمية والاقتصاد والتعليم والإعلام وتقارب الشعوب والمجتماعات، لا سيما ذات الأغلبية المسلمة في دول آسيا الوسطى والقوقاز. إلا أنه مع قدوم حزب العدالة والتنمية، بدأت ملامح نشاط الوكالة تتغير من كونها منظمة خيرية تقدم المساعدات الإنسانية وتعمل على مهام الإغاثة، إلى مؤسسة تقدم خدمات مختلفة تخدم النظام السياسي التركي. حيث امتد نشاط الوكالة لتشمل كافة الدول الإسلامية ودول الشرق الأوسط وإفريقيا، معتمدة في ذلك على الدين، والتراث الثقافي المشترك بينها وبين تلك الدول، لنشر أيديولوجيتها وتعزيز نفوذها من خلال الترويج للأفكار التركية القومية، ونشر النموذج التركي للتعليم الديني، وتوفير المنح الدراسية لدراسة الإسلام في تركيا.

وفي هذا الصدد، حظيت الدول الإفريقية باهتمام كبير من قبل الوكالة، حيث امتد نشاطها إلى ثلث القارة تقريبًا، من خلال الحضور في 35 بلدًا، وافتتاح 21 مكتبًا للوكالة في 53 مدينة، فضلًا عن المساجد التي اعتبرتها الوكالة أداتها الرئيسية في تعزيز حضورها في المجتمعاتالإفريقية، ونشر أفكارها الدينية.

3– الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية في ألمانيا “ديتيب”: يضم الاتحاد مُنذ تأسيسه عام 1984 جميع المساجد والجمعيات والمنظمات الإسلامية في ألمانيا، تحت مُسمى “الاتحاد الإسلامي التركي للشؤونالدينية” والمعروف بـ”ديتيب”، وهو يُعتبر من أكبر المنظمات الإسلامية التركية في أوروبا، وأكبر رابطة دينية إسلامية في ألمانيا. ويعمل الاتحاد على تدعيم النفوذ التركي في ألمانيا، من خلال نشر التربية الدينية في المدارس، والهيمنة على المساجد والمراكز الإسلامية.

أهداف متعددة

يعود اهتمام تركيا المُتزايد باستخدام الدبلوماسية الدينية وحضورها على أجندتها السياسية، إلى دور هذه الدبلوماسية في تحقيق عدد من الأهداف الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– شرعنة سياسات النظام الحاكماتسم الخطاب الديني في عهد حزب العدالة والتنمية بـ”ازدواجية المعايير” وتبرير البراجماتية السياسية التي يتبناها النظام الحاكم. فبينما تعمل الدولة على تشويه صورة مُعارضي النظام، استخدم الرئيس التركي “أردوغان” من جانبه الخاطب الديني لتبرير ممارساته بشأن التدخل في شؤون الدول الأخرى، سواء بشكل مباشر عن طريق إرسال القوات العسكرية الخاصة، أو بشكل غير مباشر عن طريق تقديم الدعم العسكري والاقتصادي لتيارات الإسلام السياسي في تلك الدول، وذلك بزعم حماية ومساعدة الشعوب المسلمة المعارضة لأنظمتها الحاكمة الاستبدادية.

وفي هذا السياق، سعى النظام التركي إلى إضفاء حالة من الشرعية على سياسته على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، أضافت الحكومة التركية عنصرًا جديدًا ذا خلفية دينية إلى هيئات إنفاذ القانون، تُمنح بموجبه الجهات الأمنية في الدولة حق التعامل مع المُشتبه بهم ومُعارضي النظام الحاكم وسياساته على أنهم “كفار” و”إرهابيون” و”أعداء الإسلام”.

كما حرص النظام على تغليف سياساته الخارجية بمفردات وشعارات دينية لدعم تحركاته الخارجية، وكسب الدعم الشعبي للمعارك والعمليات التي يخوضها، والتغاضي عن حجم التكاليف والخسائر البشرية والمادية التي تلحق بالجيش التركي، فضلًا عن عدد القتلى والمصابين المدنيينخلال تلك الحروب. ومثال على ذلك، وصف وزارة الأوقاف التركية عملية “غصن الزيتون” في عفرين بـ”الجهاد الأكبر”، ووصف الجيش التركي بـ”جيش الإسلام الأخير”، وضحاياه بـ”الشهداء”.

وشكّلت الفتوى الدينية واحدة من أهم الأدوات الداعمة للسياسة الخارجية التركية. ووفقًا للمؤشر العالمي للفتوى GFI الصادر عام 2020، يتم استخدام الخطاب الديني في الخارج بنسبة 70% بهدف تجنيد دُعاة ومُفتين من دول، وتنظيمات إرهابية، ومليشيات مُتطرفة لدعم وتأييد أطماع “أردوغان” التوسعية في الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، جندت تركيا الشيخ الليبي “عمر مولود عبدالحميد”، الذيأدلى بفتواه بشأن شرعنة طلب حكومة الوفاق الوطني الليبية المساعدة من الحكومة التركية، ووصفه بـ”الحق الشرعي”،كون تركيا دولة مسلمة وليبيا دولة مسلمة، وذلك الدعم والتحالف سيكون في مواجهة “العدو الصائل”، في إشارة منه إلى روسيا. فضلًا عن فتاوى الداعية الليبي “الصادق الغرياني”، المُقرب من جماعة الإخوان المسلمين، الذي صرح بأن التدخل التركي في ليبيا حلال شرعًا، وأجاز استيلاء المليشيات والمقاتلين في طرابلس على الممتلكات والأسلحة والمعدات كغنائم حرب، واستشهد في ذلك بآياتٍ قرآنية.

وفي سياق آخر، أشاد “المجلس الإسلامي السوري” الذي يتخذ من إسطنبول مقرًا له، بالدور التركي في عملية “نبع السلام”، وبارك جهود الدولة التركية في التصدي للنفوذ الإيراني في سوريا. إضافة إلى ذلك، جاءت فتاوى “هيئة الشام الإسلامية” (إحدى هيئات “المجلس الإسلامي السوري”) لتشير إلى أن منع الاستعانة بتركيا يُعتبر جهلًابالشرع، وغلوًا في الدين، وأجازت الاشتراك في العمليات التي تدعمها تركيا في الشمال السوري، موضحة أن ذلك من باب “الاستعانة بالمسلم على الكافر المُعتدي أو الخارج الباغي”.

2- حشد الشتات التركيطورت المؤسسات الدينية التابعة للدولة التركية روابطها مع التيارات الإسلامية التركية حول العالم لتعزيز التعاون والتنسيق فيما بينها بشأن التغلغل وسط الجاليات والشتات التركي، وكسب ولاء أعداد كبيرة منهم، وذلك استغلالًا لما تتميز به تلك المؤسسات من شرعية ودعم مالي وهيكلي من قبل النظام الحاكم في تركيا عن غيرها من التيارات والمؤسسات الإسلامية المُنافسة لها في الخارج. ويعود الاهتمام الكبير بالجاليات التركية والتنافس على كسب وحشد ولائهم الديني لعدة أسباب، أبرزها:

أ) منع التيارات والقوى الإسلامية الأخرى، خاصة الصوفي منها، من اختراق الجاليات التركية والسيطرة عليها، خاصة أنها في الأساس تيارات مُناهضة للنظام الحاكم في تركيا.

ب) تشكيل قواعد وشبكات اجتماعية في الخارج داعمة وموالية للنظام السياسي التركي، لاستغلالها في شن حملات الدعاية والتأييد لصالح الرئيس التركي “أردوغان”وحزبه الحاكم، والاعتماد عليها كخزان انتخابي تُساهم أصواته في بقاء واستمرار النظام الحاكم.

ج) استغلال القوة الاقتصادية لتلك الجاليات، لا سيما أن شبكات “التضامن الأناضولي” المكونة من المهاجرين الأتراك كانت دائمًا أحد أهم مصادر العملة الصعبة، وتمويل الحزب الحاكم في تركيا.

د) حاجة النظام الحاكم في تركيا لوجود كتل شعبية موالية له في الخارج للضغط على الحكومات الأجنبية في الملفات الخلافية بين الجانبين.

3- أدوار استخباراتية: فخلال السنوات الماضية تحدثت العديد من التقارير عن قيام المؤسسات الإسلامية التركية بدور استخباراتي لصالح الرئيس التركي “أردوغان”وحزبه الحاكم، وذلك تحت غطاء إنساني وإغاثي مثل وكالة “تيكا”، أو تحت غطاء ديني وثقافي كالمساجد والمراكز الإسلامية. وفي هذا الإطار، حذرت المخابرات الألمانية والفرنسية من تمادي المؤسسات الدينية التركية في التغلغل داخل المجتمعات الأوروبية. كما أجرت مؤخرًا بعض البلاد الأوروبية، كألمانيا والنمسا، تحقيقات مع أئمة أتراك بتهمة التجسس لصالح المخابرات التركية. حيث اتخذ البرلمان النمساوي قرارًا بأغلبية الأصوات يقضي بإغلاق كافة المساجد التركية التابعة لمؤسسة “ديانت”، مؤكدًا أن المساجد لا تعمل كدور للعبادة، بل هي امتداد لخدمة مصالح النظام التركي.

4- عقد تحالفات على أساس إسلامى: في أعقاب ما يُطلق عليه “الربيع العربي”، سعت تركيا لتوثيق علاقاتها مع التنظيمات الإسلامية المُتطرفة في مناطق الأزماتلضمان لعب دور في تشكيل أنظمة ما بعد الثورات؛ حيث برز حضور أذرع تنظيم الإخوان المسلمين، المصنف إرهابيًا في عدد من الدول العربية، في سياسة تركيا الخارجية، من خلال التحالفات التي عقدها مع التيارات المختلفة على أساس إسلامي مشترك. فضلًا عن محاولة استقطاب الجماعات والمليشيات الإرهابية، عن طريق تقديم الدعم المالي والعسكري، لاستغلالها كأداة لمد النفوذ التركي إلى بؤر صراع جديدة، كما شهدت سوريا وليبيا، وذلك تحت غطاء حماية الإسلام والمسلمين.

5– كسب أوراق مُقايضةمع تنامي موجات الهجرة واللجوء مؤخرًا في الدول التي شهدت تصاعدًا في الحروب الأهلية والصراعات الداخلية، والتي على رأسها سوريا، استثمرت أنقرة الخطاب الإسلامي للتعامل مع قضايا اللاجئين، وأعلن النظام الحاكم عن تبنيه سياسة “المهاجرين والأنصار”، مُؤكدًا تضامنه مع المواطنين المسلمين الذين فروا من بلدانهم، طالبين اللجوء والحماية.

وقد حرص الرئيس التركي “أردوغان” على إضفاء الطابع الديني على قرار استقبال بلاده للاجئين لاحتواء الغضب الشعبي من تلك السياسة، لا سيما في ظل ما يشهده الأتراك من تدهورٍ في الأحوال الاقتصادية وارتفاع في معدلات البطالة. خاصة أنه يسعى من خلال تطبيق تلك السياسة لتوظيف ملف اللاجئين كأداة ضغط، والمساومة معالاتحاد الأوروبي باعتبارها قضية أمنية تُهدد أمن واستقرار المجتمعات الأوروبية، وهو ما يعني إمكانية استغلالها للتفاوض بشأن طلب العضوية في الاتحاد، والحصول على المساعدات المالية باسم اللاجئين