لم تكن التداعيات الناجمة عن أزمة أوكرانيا مقصورة على التفاعلات الدولية، وخاصة بين القوى الكبرى؛ وإنما تمتد لتشمل الأوضاع في مناطق وأقاليم جغرافية مختلفة، بغض النظر عن أثر العامل الجغرافي، وهو ما ينطبق على الشرق الأوسط، على نحو ما أشار إليه الجنرال إريك كوريلا المرشح لمنصب القائد العام للقيادة المركزية الأمريكية في جلسة استماع بمجلس الشيوخ، في 9 فبراير الجاري، من أنه إذا غزت روسيا أوكرانيا فقد يؤدي ذلك إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا.

ومن أبرز تلك التداعيات الانصراف النسبي العالمي عن تفاعلات دول الأزمات العربية، وإثارة أزمة العالقين في أوكرانيا ودول جوارها، وتأثر محتمل في إمدادات القمح والحبوب لا سيما أن دول الإقليم أكثر المستوردين للحبوب من روسيا وأوكرانيا، حيث صارت الأخيرة كسلة غذاء “مهددة”، وتفاقم تداعيات الأزمات الغذائية في دول الصراعات المسلحة وبشكل خاص اليمن، وارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية مما يعزز من موارد الدول المُصدِّرة للنفط في المنطقة، وتأثر أسواق السياحة في البلاد الشرق أوسطية.

تتعدد التأثيرات الناتجة عن الأزمة الروسية-الأوكرانية على إقليم الشرق الأوسط، من زوايا عديدة، وذلك على النحو التالي:

تراجع التسوية

1- الانصراف النسبي العالمي عن تفاعلات دول الأزمات العربية: قد يكون من التأثيرات المحتملة لأزمة أوكرانيا عدم اهتمام دول العالم بالمسار الذي تصل إليه دول الأزمات، وخاصة ليبيا واليمن وسوريا، لا سيما أن هناك بؤرة عالمية استحوذت على الاهتمام. فعلى سبيل المثال، يسود توقع بأن قوات الجيش النظامي السوري سوف تحافظ على تأمين المناطق التي استعادت السيطرة عليها خلال الأعوام السبعة في أعقاب الدعم الروسي لها، خاصة أن الصورة الذهنية عن موسكو تتمثل في قدرتها على مناطحة الغرب.

ولذا، أكد الرئيس السوري بشار الأسد في مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعقاب شن العملية العسكرية، في 24 فبراير الجاري، على أن “ما يحصل اليوم هو تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفيتي”، وأن “الهيستريا الغربية تأتي من أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطئ لصالح الفوضى التي لا يسعى إليها إلا الخارجون عن القانون”، وحمّل الأسد الدول الغربية مسئولية “الفوضى والدماء نتيجة سياساتها التي تهدف للسيطرة على الشعوب، حيث إن هذه الدول تستخدم أساليبها القذرة لدعم الإرهابيين في سوريا والنازيين في أوكرانيا وفي أماكن مختلفة من العالم”.

واعتبر الأسد أن “العدو الذي يجابهه الجيشان السوري والروسي واحد، ففي سوريا هو تطرف وفي أوكرانيا هو نازية”. ومن ثم سوف يستمر الأسد في تبني استراتيجية “القضم التدريجي للأراضي”، وهو النهج الروسي نفسه لاستعادة الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق، والذي يحقق نجاحاً تراكمياً فترة بعد أخرى.

أزمة العالقين

2- إثارة أزمة العالقين في أوكرانيا ودول جوارها الجغرافي: يرتبط أحد التوابع الرئيسية لأزمة أوكرانيا بتصاعد أزمة العالقين الشرق أوسطيين على الأراضي الأوكرانية، سواء كان هؤلاء العالقون طلاب الجامعات والمعاهد أو سياحاً، وبصفة خاصة من دول مثل سوريا ومصر والمغرب وليبيا والعراق والأردن ولبنان والجزائر وتونس وغيرها، مما يفرض على أجهزة الدولة التواصل معهم لتوفير سبل إجلائهم وعودتهم إلى أوطانهم، من خلال الابتعاد عن المناطق الخطرة واللجوء الفوري إلى الملاجئ لمن هم في مناطق العمليات العسكرية، أو النزوح نحو المدن والمناطق الآمنة نسبياً أو توفير مسارات خروج آمنة برية مع دول أوروبية قريبة مثل بولندا ورومانيا. ولعل نداءات الاستغاثة التي عبر عنها مواطنو عدد من الدول العربية عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية تعكس عمق تأثير أزمة العالقين بحيث تم تشكيل غرفة عمليات متخصصة للمتابعة والتواصل المستمر مع رؤساء الجاليات في أوكرانيا في ظل المتغيرات المتلاحقة.

سلاسل الغلال

3- تأثر محتمل في إمدادات القمح والحبوب: مع الأخذ في الاعتبار أن روسيا وأوكرانيا تعدان من أكبر مصدري الحبوب إلى دول العالم، لكن الجانب الأكبر يقع في منطقة الشرق الأوسط. وهنا تتوقع بعض الكتابات قيام بعض دول الإقليم بإلغاء بعض المناقصات العالمية التي قد طرحتها لاستيراد القمح نظراً لإحجام العديد من الشركات عن الدخول فيها تخوفاً من ارتدادات الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن ارتفاع الأسعار لطن الحبوب، مما يفرض عليها تنويع مصادر استيرادها.

حصص الغذاء

4- تفاقم تداعيات الأزمات الغذائية في دول الصراعات المسلحة: وينطبق ذلك جلياً على الحالة اليمنية بشكل خاص، حيث يعتمد اليمن بشكل شبه كامل على الاستيراد من الخارج لتأمين إمدادات الحبوب، إذ حذر برنامج الأغذية العالمي في تقاريره الصادرة في الثلث الأخير من فبراير الجاري من أن الحرب في أوكرانيا ستؤدي على الأرجح إلى زيادة في أسعار الغذاء والوقود في اليمن الذي يعاني بدوره من أزمة حادة لدرجة أن المؤسسات الدولية تشير إلى أن أسوأ أزمة إغاثية إنسانية توجد في اليمن، بحيث إن برنامج الأغذية العالمي اضطر إلى خفض الحصص الغذائية لثمانية ملايين شخص. فاليمن يحتاج إلى ما يقرب من 800 مليون دولار خلال الشهور الستة المقبلة لتقديم المساعدة الكاملة إلى 13 مليون شخص.

ومن ثم من المرجح أن تؤدي الأزمة الأوكرانية إلى ازدياد معاناة قطاع واسع من اليمنيين من المجاعة، ولا سيما مع تراجع المساعدات الدولية نظراً لتوجه الاهتمام إلى بؤرة دولية مشتعلة. وفي هذا السياق، قال برنامج الأغذية العالمي في تقرير أخير له: “ليس لدينا خيار سوى إطعام من يتضورون جوعاً على حساب الجوعى، وما لم نحصل على التمويل العاجل، فإننا في غضون أسابيع قليلة نواجه خطر عدم قدرتنا حتى على إطعام الجوعى.. وسيكون ذلك بمثابة جحيم على الأرض”.

قفزة نفطية

5- ارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق العالمية: يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن الدول المُصدِّرة للنفط تعد من الأطراف الرابحة من تفاقم أزمة أوكرانيا بسبب ارتفاع برميل النفط لأكثر من 100 دولار لأول مرة منذ عام 2014، على نحو يسهم في زيادة الموارد المالية المتاحة لها نتيجة الفوائض في الميزانية. ويعتبر هذا تحولاً حاداً بعد اضطراب سوق الطاقة لسنوات. علاوة على ذلك، تسهم تلك الأزمة في إتاحة نافذة فرصة لبعض الدول العربية مثل مصر في سوق الطاقة الأوروبية، لا سيما في ظل استيراد الدول الأوروبية ثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا بحيث يمكن لمصر الإسهام في تأمين إمدادات أوروبا من الغاز بعد نقص أو توقف الغاز الروسي، خصوصاً مع فرض العقوبات الغربية على موسكو والارتفاع المستمر لأسعار الغاز الطبيعي على المستوى العالمي، فضلاً عن الطموح المصري للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة بمنطقة شرق البحر المتوسط.

تراجع السياحة

6- تأثر أسواق السياحة في البلاد الشرق أوسطية: يمكن القول إن توتر العلاقات بين روسيا من جانب والدول الغربية من جانب آخر على خلفية الأزمة الأوكرانية قد يدفع دول العالم إلى الخوف من السفر بشكل عام، وهو ما يؤثر على سوق السياحة في بعض الدول التي يعتمد دخلها القومي بشكل أساسي على عائدات السياحة مثل مصر ولبنان وتونس وتركيا. وقد تشهد الفترة المقبلة انخفاضاً في حجز الطيران والإقامة في المنشآت الفندقية مقارنة بفترات سابقة، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك عوامل أخرى محفزة لذلك ومنها انتشار المتحور الجديد من فيروس كورونا المعروف بـ”أوميكرون”.

أزمة – فرصة

خلاصة القول، إن ثمة تأثيرات انتشارية لما يجري من التوترات الروسية-الأوكرانية، ومنها تجاهل إطفاء حرائق الصراعات المشتعلة، وخاصة في ليبيا واليمن وسوريا، وتضرر العديد من الدول التي تعتمد في تأمين احتياجاتها من الحبوب، وعلى رأسها القمح والذرة والشعير وزيوت الطعام، على روسيا وأوكرانيا، وتأثر مجيء السياح الأجانب إلى المنطقة بسبب الخوف من تداعيات السفر وانتشار متحور “أوميكرون”، غير أن هناك جانباً آخر يتعلق بمنح نوافذ فرص لدول الإقليم لزيادة مواردها المالية وشغل موقع رئيسي في سوق الغاز العالمي لتعويض النقص في الغاز الروسي لأوروبا، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن لدولة بمفردها أن تحل محل إمدادات الغاز الروسية.

ويظل البعد الأكبر لتأثير الأزمة الأوكرانية متعلقاً بانعكاس سياسة الاستقطاب الدولي على الدول العربية، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في حواره مع صحيفة “الشرق الأوسط”، في 26 فبراير الجاري، متوقعاً أن تواجه دول العالم مجدداً المعادلة الخانقة “إما أن تكون معي أو ضدي”.