مع حلول الذكرى الثانية لمقتل قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في 3 يناير الجاري، بدا أن إيران تحاول استغلالها لتمرير رسائل عديدة إلى دول المنطقة، فضلاً عن القوى الدولية المعنية بأزماتها المختلفة. ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عن مجموعة من الأهداف الرئيسية التي تحاول إيران تحقيقها ويتمثل أبرزها في ممارسة ضغوط أقوى على الوجود الأمريكي في العراق، والإصرار على عدم تغيير السياسة المتبعة تجاه واشنطن، وتوجيه مزيد من التحذيرات إلى إسرائيل في إطار المواجهات المتصاعدة بين الطرفين، والإشارة إلى استقلالية القرار الإيراني عن الضغوط الروسية.
أبدت إيران، خلال إحياء الذكرى الثانية لمقتل قاسم سليماني، مع نائب الأمين العام لمليشيا “الحشد الشعبي” العراقية أبومهدي المهندس، في العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في 3 يناير 2020، اهتماماً خاصاً بتوجيه رسائل مباشرة لا تنفصل عن تطورات المفاوضات التي تجري في فيينا مع مجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة، فضلاً عن التصعيد المتواصل بين إيران وإسرائيل بسبب سعى الأخيرة إلى “تحييد” المخاطر التي يمكن أن ينتجها البرنامج النووي الإيراني على أمنها ومصالحها. ففي لقاءه مع عائلة سليماني، وصف المرشد الأعلى للجمهورية على خامنئي قائد “فيلق القدس” السابق بأنه “لا يزال أكثر الشخصيات الوطنية والمتميزة في إيران والعالم الإسلامي”، مشيراً إلى أن “الشهيد سليماني أخطر من الفريق سليماني”.
وبالتوازي مع ذلك، تعرضت قاعدتا “فيكتوريا” و”عين الأسد” العراقيتان اللتان تضمان قوات أمريكية وقوات من التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، لهجمات بواسطة طائرات من دون طيار “درونز”. كما هاجم حسن نصر الله الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني السياسة الأمريكية في المنطقة، واعتبر أن الولايات المتحدة الأمريكية مسئولة عن التطورات التي طرأت على الساحتين العراقية والسورية. فيما وجه أمين عام مليشيا “عصائب أهل الحق” العراقية قيس الخزعلي تحذيرات لواشنطن من عواقب استمرار وجودها العسكري في العراق خلال المرحلة القادمة.
أهداف عديدة
يمكن تفسير حرص طهران ووكلاءها على استغلال هذا الحدث في تمرير رسائل إقليمية في ضوء سعيها لتحقيق أهداف عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تكريس الفصل بين “النووي” و”الإقليمي”: تسعى إيران مجدداً إلى الترويج لمقاربتها الخاصة بالمفاوضات التي تجري حالياً في فيينا، والتي استونفت جولتها الثامنة في 3 يناير الجاري، والقائمة على أنها تجري حصراً حول الاتفاق النووي، ولا تمتد إلى الملفات الخلافية الأخرى، لاسيما الدور الإقليمي والبرنامج الصاروخي، الذي تعمدت إيران اتخاذ خطوات تصعيدية جديدة بشأنه بعد أن قامت بإطلاق 16 صاروخاً باليستياً خلال مناورات “الرسول الأعظم 17” التي أجريت في الفترة من 20 إلى 24 ديسمبر الفائت. وربما تعكس كلمة خامنئي أمام عائلة سليماني هذه المقاربة بشكل واضح. فوفقاً لرؤية المرشد، فإن الدور الذي تقوم به إيران على الساحة الإقليمية لم يتوقف بمقتل سليماني، بل ربما تصاعد خلال العامين الماضيين رداً على ذلك، في إطار سعى إيران لرفع كُلفة تلك الخطوة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
2- استمرار الضغط على المصالح الأمريكية في العراق: أثارت تصريحات قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال فرانك ماكنزي، في 10 ديسمبر الفائت، والتي أشار فيها إلى بقاء 2500 جندي أمريكي في العراق بعد انتهاء العمليات القتالية للتحالف الدولي ضد “داعش”، استياء طهران، التي اعتبرت أن ذلك يمثل رسالة تحدي لنفوذها في العراق. ومن هنا، فإنها منحت الضوء الأخضر للمليشيات الموالية لها سواء لشن هجمات بواسطة الطائرات من دون طيار ضد القواعد التي تتواجد فيها قوات تابعة للولايات المتحدة الأمريكية أو التحالف الدولي، أو لتوجيه تهديدات مباشرة للأولى من مغبة الاحتفاظ بقوات لها في العراق، على نحو ما عكسته تصريحات قيس الخزعلي. وربما لا يمكن استبعاد أن تكون الحكومة العراقية قد حاولت ممارسة ضغوط من أجل تمرير الذكرى الثانية دون تصعيد حدة التوتر بين طهران وواشنطن على الساحة العراقية، وهو ما يبدو أنه كان أحد أهداف الزيارة التي قام بها وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى طهران في 23 ديسمبر الفائت.
3- تأكيد عدم تغير السياسة الإيرانية تجاه واشنطن: مازالت طهران مُصِرَّة على تأكيد أن الوصول إلى صفقة محتملة في مفاوضات فيينا تعزز من استمرار العمل بالاتفاق النووي لن يساهم في تحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة القادمة، على غرار ما حدث بعد الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، حيث جرى آنذاك اتصال هاتفي بين الرئيسين الأمريكي باراك أوباما والإيراني حسن روحاني، والتقى وزيرا الخارجية جون كيري ومحمد جواد ظريف أكثر من مرة بشكل مباشر. ويبدو ذلك واضحاً في تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية سعيد خطيب زاده، في 31 ديسمبر الفائت، التي قال فيها أن “إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تتحمل أيضاً مسئولية قرار الإدارة السابقة بقتل سليماني”. ذلك لا يعني بالطبع أن إيران ستعزف عن الانخراط في صفقات اقتصادية مع جهات أمريكية أو غربية بشكل عام، في حالة الوصول إلى صفقة، وإنما يعني في المقام الأول وضع سقف واضح لهذا الانخراط بحيث لا يفرض عواقب وخيمة في حالة تعرضه لأزمة قوية وطارئة على نحو ما حدث عندما انسحبت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 وفرضت عقوبات على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.
4- توجيه تهديدات جديدة إلى إسرائيل: تبدي إيران قلقاً واضحاً إزاء التهديدات التي توجهها إسرائيل بشن ضربات عسكرية أو عمليات أمنية ضد منشآتها النووية، وربما لا تستبعد احتمال أن تنخرط تل أبيب في عمليات جديدة لتعطيل أنشطتها النووية، حتى لو توصلت وفود التفاوض إلى صفقة في فيينا. ومن هنا، فإنها حرصت على توجيه تحذيرات إلى إسرائيل بأن كُلفة شن عمل عسكري ضد منشآتها قد تكون عالية، عبر وكلاء إيران في الإقليم، سواء في سوريا أو لبنان أو العراق أو اليمن، الذين قد يحاولون استهداف مصالحها في حالة اتجاهها إلى تبني هذا الخيار.
5- احتواء تصاعد تأثير الدور الروسي: كان لافتاً أن الخطاب الإيراني في ذكرى مقتل سليماني ركز على دوره المزعوم في الحرب ضد تنظيم “داعش”، في كل من سوريا والعراق، وعلى جهوده التي كان لها تأثير بارز في تغير توازنات القوى لصالح النظام السوري في الأعوام الأخيرة. وهنا، فإن الهدف الأساسي من ذلك هو وضع حد للدور الذي تسعى روسيا إلى الترويج له باعتبارها الطرف الرئيسي الذي يمتلك القدرة على تحديد اتجاهات الأزمة في سوريا. ومن دون شك، فإن ذلك يكشف في المقام الأول عن نضوج الخلافات بين الطرفين في التعامل مع تطورات الأزمة في سوريا.
بالطبع، فإن ذلك لا يعني أن إيران سوف تتخلى عن علاقاتها القوية مع روسيا، بل إنها تتجه إلى رفع مستوى تلك العلاقات، على نحو يبدو جلياً في استعداد الرئيس إبراهيم رئيسي للقيام بزيارة إلى موسكو في الفترة القادمة، لكنه يعني أن إيران تسعى إلى تأكيد أن ذلك لا ينتقص من دورها في سوريا أو في أى دولة أخرى في المنطقة، وأنه لا يؤثر على استقلالية قرارها، بما يفيد بأنها تحاول الرد على ما أشارت إليه اتجاهات عديدة من أن موسكو مارست ضغوطاً قوية على طهران دفعتها إلى تغيير موقفها في مفاوضات فيينا.
تحذيرات مضادة
اللافت في هذا السياق أيضاً، أن جهات أمريكية عديدة سعت إلى استغلال حلول الذكرى الثانية لمقتل سليماني من أجل توجيه تحذيرات مضادة إلى طهران، مفادها أن واشنطن لن تتوانى عن الدفاع عن مصالحها حتى لو اقتضى الأمر أن تنخرط في عمليات من هذا النوع. وبمعنى آخر، فإنه رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن سبق أن تحفظ، وقت أن كان مرشحاً رئاسياً، على قرار قتل سليماني، حيث علّق على ذلك بقوله أن “ترامب ألقى إصبع ديناميت في برميل بارود”، فإن هذه الخطوة لا تخلو، في رؤية تلك الاتجاهات، من رسائل قد تعزز من قدرة واشنطن على تقليص احتمالات تعرض مصالحها للخطر في الشرق الأوسط، خاصة في ضوء انسحابها العسكري من المنطقة. ويوحي ذلك في النهاية بأن الوصول إلى صفقة نووية في فيينا قد لا يساعد في احتواء التوتر والتصعيد في الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة.