لم يكن النظام التركي، على مدار السنوات الماضية، يتعاطى مع الدراما كمجال ترفيهي، بقدر ما كان يتعامل معها كإطار تتجلى فيه العثمانية الجديدة، ويمكن من خلاله التكريس لحضور ثقافي تركي في العالم العربي بعد سنوات من التباعد. إذ أدى إخفاق المساعي التركية في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى الالتفات التركي للمنطقة العربية بوصفها عمقًا استراتيجيًا وساحة محتملة لبسط النفوذ والترويج لمشروع العثمانية الجديدة عبر إغراق المنطقة العربية بتيار متلاحق من الأعمال الدرامية التركية، التي ساهمت -بشكل أو بآخر- في خدمة المصالح التركية، لا سيما وأنها أنتجت صورة نمطية إيجابية للواقع والمجتمع التركي لدى المشاهدين في العالم العربي، وهو الأمر الذي اضطلع، في الوقت ذاته، بخلق سياق إقليمي، على أقل تقدير في مرحلة ما قبل إنهاء تجربة الإخوان في مصر، أكثر تسامحًا مع المصالح والسياسات التركية.
النوستالجيا العثمانية
استدعت الأعمال الدرامية التركية وتأثيرها في المنطقة العربية مفهوم القوة الناعمة كواحد من المفاهيم السائدة في العلاقات الدولية خلال العقود الأخيرة؛ إذ صك “جوزيف ناي” هذا المفهوم ليدلل على قدرة الفاعل على الحصول على ما يريد من خلال الجذب بدلًا من الإكراه. هذا المفهوم كان له حضور في السياسة التركية تجاه المنطقة العربية، وخصوصًا مع الاستدعاء المكثف للأعمال الدرامية، واستخدامها كأداة للترويج للعثمانية الجديدة.
وفي هذا الإطار، تعبر “الدراما العثمانية” عن سياسة حكومية، وليس توجهات شخصية أو خاصة، لخلق صورة مغايرة لتركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية. فبالإضافة إلى إنتاج مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية (TRT) للعديد من الأعمال التاريخية مثل “السلطان عبدالحميد” و”قيامة أرطغرل”، عمل “أردوغان” أيضًا على دعم هذه الأعمال عبر تصريحاته الدائمة حول أهميتها، وكذلك عبر بعض سلوكياته مثل استقباله لنجوم مسلسل “قيامة أرطغرل” بزيهم التاريخي في الاحتفال بذكرى فتح القسطنطينية، واصطحابهم في زيارات خارجية، وزيارة موقع تصوير المسلسل.
صحيح أن تركيا قامت بتصدير أنواع مختلفة من الدراما إلى المنطقة العربية، بما في ذلك المسلسلات الرومانسية؛ إلا أن الدراما التاريخية والسياسية مثلت الأداة الأهم بالنسبة للنظام للتركي لتحقيق أهدافه، وخصوصًا عملية صناعة العثمانية الجديدة المرتبطة باستعادة الماضي العثماني، أو ما يمكن أن نطلق عليه النوستالجيا العثمانية كمفهوم مستعار من كتاب محمد حقان “النوستالجيا للإمبراطورية” Nostalgia for the Empire. وراهنت أنقرة، في هذا الشأن، على بُعدين جوهريين:
أولًا- التوق إلى الأعمال التاريخية والحربية: من الملاحظ انجذاب المشاهد عالميًا إلى الأعمال التاريخية والحربية والخيالية أكثر من الأعمال التقليدية. ويزداد هذا الأمر في المنطقة، حيث يتوق المشاهد إلى أعمال تاريخية تعبر عن لحظات التوهج. وتعمل السياسة التركية على جذب المشاهد العربي، واستغلال هذا الشغف، وملء هذه المساحة بما يعبر عن السردية العثمانية للتاريخ. أو بمعنى آخر، احتكار السردية التاريخية وتصوير فترة الخلافة العثمانية كمرحلة رائدة ومعبرة عن التاريخ الإسلامي ككل، وهو ما يمزج الحنين إلى الماضي الإسلامي بالحنين إلى الماضي العثماني، ومن ثم دعم فكرة “العثمانية الجديدة”.
ثانيًا- حلم الخلافة: يداعب حلم “عودة دولة الخلافة الإسلامية” أشجان كثير من المسلمين. وهو ما تلعب عليه الدراما التركية بتمجيد فترة الخلافة العثمانية، وإبراز مظاهر قوتها ورشادة حكمها. وهو ما يجد قبولًا لدى الكثير من المسلمين الذين لا يزالون يقفون عند لحظة انهيار الخلافة ويحلمون بعودتها. سواء توقف هؤلاء على الحلم بعودة الخلافة، أو رأوا في “أردوغان” وتركيا الوريث الأحق بالخلافة، أو حتى انضموا إلى تنظيمات متطرفة تزعم أنها تقاتل من أجل “إقامة دولة الخلافة الإسلامية”.
التوظيف التركي للدراما التاريخية
ساعدت الدراما التركية، بشكل أو بآخر، في الحضور الطاغي للثقافة التركية في المنطقة العربية، وإنتاج أنماط جديدة من التفاعلات المجتمعية مع “النموذج التركي” إن جاز التعبير. إذ تفترض “جنى جبور”، الأستاذة في معهد العلوم السياسية بباريس، في كتابها “تركيا: دبلوماسية القوة الناهضة”، أن “المسلسلات التركية أنتجت نوعًا من العلامة المميزة عززت النفوذ الثقافي لأنقرة في المنطقة”. وفي هكذا سياق، ارتبط التوظيف التركي للدراما، وخاصة التاريخية، بعدد من الأهداف المركزية المتمثلة فيما يلي:
1- الذاكرة التاريخية: عملت الدراما التركية على إعادة سرد الروايات التاريخية الخاصة بالدولة العثمانية وعلاقتها بالمنطقة العربية، وهو ما يؤثر على عملية “التذكر” وتشكل الاتجاهات لدى المواطن التركي والعربي. فمن ناحية، حاولت هذه الدراما تكذيب الروايات التاريخية التي تحدثت عن دموية الحكم العثماني. كما عملت من جهة أخرى على إبراز أدوار تاريخية للدولة العثمانية في الدفاع عن الإسلام وعن دول المنطقة، وفي تطبيق سياسات حكم رشيدة وعادلة، وهو ما تم الالتفات له عربيًا مؤخرًا، حيث تم إنتاج مسلسل “ممالك النار” من أجل تقديم رؤية ذاتية عن تاريخ المنطقة العربية وعلاقتها بالعثمانيين، وكذلك من أجل تبديد “الهالات التي وُضعت حول شخصيات أو أحداث بعينها في التاريخ، وبمرور السنين أصبحت واقعًا لا يناقش” على حد تعبير كاتب المسلسل “محمد سليمان عبدالمالك”.
2- البعد القيمي: تروج الدراما التركية لبعض القيم التي تخدم السياسة التركية الحالية، ومنها الدور المحوري للدين في إدارة العملية السياسية والشأن العام، وكذلك وجود تربص دائم من الغرب تجاه المسلمين، والجهاد كقيمة عليا لا تستمر الدولة الإسلامية القوية بدون إحيائه. وكذلك قيم التضامن الإسلامي، والوحدة الإسلامية. وهي القيم التي تعمل الخطابات والسياسات على إعادة توظيفها بعد ذلك، سواء تناسب هذا التوظيف مع مضمونها أم لا.
3- الصورة التركيّة لدى الرأي العام العربي: تحاول الأعمال الدرامية التاريخية إبراز البعد العثماني في التاريخ التركي، محاولة التوفيق بين الطابع الكمالي العلماني الذي تنتمي إليه تركيا الحديثة، وبين الطابع العثماني الإسلامي الذي يسعى حزب العدالة والتنمية إلى استعادته. وهكذا، تحاول الدراما إعادة إنتاج صورة تركيا كقوة دولية وريثة للدولة العثمانية، وليس فقط لسياسات وتوجهات أتاتورك. وبذلك تسعى تركيا إلى تصوير نفسها كحامية للإسلام والمسلمين، وكوريثة للدولة العثمانية. أو بحسب ما ذهبت إليه “جنى جبور” فإنه “من خلال إبراز صورة تركيا الحديثة المتطورة اقتصاديًا، والمتمسكة بتقاليدها الاجتماعية وقيمها الدينية، والمستحقة لماضيها المجيد؛ فإن المسلسلات أشاعت بطريقة معينة صورة مشرقة كالعلامة التجارية عن هذا البلد”.
4- الربط بين “أردوغان” وصورة الحاكم: يعمل الإعلام التركي على استغلال الأعمال التاريخية العثمانية في عمل مقاربات ومقارنات ظاهرة أحيانًا، ومستترة أحيانًا أخرى، حول سمات الحاكم. حيث يبرز صورة الخليفة العثماني الثوري المدافع عن حقوق الأمة الإسلامية. ويستدعي هذه الصورة التاريخية عند مناقشة أوضاع المنطقة العربية وقضايا الإسلام والمسلمين، محاولًا الإشارة إلى وجود فجوة عميقة بين الماضي والحاضر. وفي الوقت نفسه يستدعي الرئيس التركي “أردوغان” صورة هؤلاء الحكام باعتباره وريثهم والسائر على خطاهم.
5- استدعاء القوة: يمثل الجانب العسكري أو السياسي -على أقل تقدير- قلب الأعمال الدرامية التركية التاريخية. حيث تظهر الكثير من المشاهد التي تعبر عن قوة الدولة العثمانية، وعن قوة الخليفة الذي يدافع عن مصالح المسلمين، ويرفض أية تهديدات أو تلميحات تنتقص من هيبة الأمة الإسلامية والدولة العثمانية. فدراما العثمانية الجديدة تركز على إبراز أهمية القوة في العلاقات الدولية. وهو ما يتناسب مع تنامي عسكرة السياسة الخارجية التركية، ويخدم ملامحها ويساعد في تقبلها.
إجمالًا، وبالرغم من تحولها مؤخرًا إلى ساحة للاستقطابات الإقليمية، فقد لعبت الدراما التركية، خلال السنوات الماضية، أدوارًا عديدة يتعلق بعضها بالاقتصاد، وبعضها بالسياسة. إذ أضحت إحدى أهم استراتيجيات القوة الناعمة التركية فيما يتعلق بالترويج لفكرة العثمانية الجديدة في المحيط العربي والعالمي، وهي تعبر عن سياسة رسمية تركية لاستدعاء ميراث الدولة العثمانية، والتركيز على بعض ملامحه، من أجل إعادة توظيفه بما يخدم السياسات التركية الحالية.