الثورات فى العالم العربى هى قفزات كبرى ليس إلى الأمام وإنما إلى الوراء، فكلما خرج شعب عربى على حكامه إلا وانتهى به الحال إلى وضع أسوأ مما كان عليه قبلها. الثورة هى قاطرة التاريخ، هكذا تحدث كارل ماركس. يبدو أن قاطرة الثورة فى بلاد العرب تسير فقط إلى الخلف. أقول هذا بمناسبة ما يحدث فى السودان. فلو أن السودانيين الذين خرجوا للثورة على نظام عمر البشير فى عام 2019 علموا أن بلدهم سيقف على حافة الانقسام والحرب الأهلية بعد ذلك بأربع سنوات، وأن عاصمة بلادهم ستكون لأول مرة مسرحا لحرب شوارع طاحنة بين الجيش وجناح مسلح كان جزءا متمايزا منه حتى قبل أيام قليلة، لو أن الناس الذين خرجوا إلى الشارع فى عام 2019 علموا ذلك فربما كانوا فضلوا البقاء فى بيوتهم.
تعبير الزمن الجميل الشائع فى بلاد عربية عدة هو فى جانب كبير منها ندم على ثورات تم ارتكابها، وحنين إلى زمن ما قبل الثورة. السودان هو أكثر بلاد العرب تجسيدا لهذه الظاهرة. لم يتمرد شعب عربى على حكامه قدر تمرد السودانيين، أما مصير السودان اليوم فهو للانقسام والدول الفاشلة أقرب منه إلى أى من الوعود الجميلة التى اطلقها قادة الثوار فى كل مرة خرجوا فيها إلى الشارع.
أسقط السودانيون نظام الحكم القائم فى بلدهم ثلاث مرات عبر ثورات شعبية صاخبة اندلعت فى أعوام 1964، 1985، 2019. المفارقة هى أن السودان كان أفضل حالا بكثير قبل كل الثورات منه بعدها. المفارقة الأخرى هى أن الحكومات العسكرية الثلاث التى أسقطتها الثورات كانت قد وصلت إلى الحكم بتدبير من أحد الفصائل السياسية المدنية. فى 1958 بعد ثلاثة أعوام من الاستقلال، احتدمت المنافسة البرلمانية، وكاد رئيس الوزراء الممثل لحزب الأمة يفقد سلطته، فأوحى لقائد الجيش بتسلم السلطة. بعدها بست سنوات خرج الناس إلى الشارع، وأسقطوا نظام الفريق إبراهيم عبود.بعد خمس سنوات أخرى تأسس نظام اللواء جعفر نميرى الذى وصل إلى السلطة عبر مؤامرة دبرها تحالف يسارى ضم ضباطا شيوعيين وناصريين وبعثيين بدعم من أحزابهم. بقى الرئيس نميرى فى الحكم حتى أسقطته ثورة شعبية فى عام 1985. بعد أربع سنوات، وفى عام 1989 نظم حزب الإخوان، عبر الضباط المنتسبين له، انقلابا أتى بالفريق عمر البشير إلى الحكم، فظل فيه حتى أسقطته ثورة ديسمبر 2019.
جربت النخب السياسية السودانية كل شيء، فقد أرسل كل فصيل منها ضباطه إلى الحكم ولو لمرة واحدة، ثم خرج للثورة ضد النظام المدعوم من الجيش. الرأى الشائع بين الدارسين هو أن العسكريين حكموا السودان فى أغلب السنوات المنقضية منذ الاستقلال. لو نظرنا للأمر من الناحية الأخرى، لوجدنا أن الأحزاب السياسية المتناحرة حكمت السودان منذ استقلاله، عبر سياسيين مدنيين بعض الوقت، وعبر ضباط حزبيين أغلب الوقت.
العدالة والمساواة والحرية، شعارات ملأت الفضاء السياسى العربى صخبا وجدلا لعقود، لكنها كانت نوعا من السراب المراوغ الذى يرحل بعيدا كلما اقتربنا منه. إما أن العدالة والمساواة والحرية أشجار غير قابلة للنمو فى التربة الثقافية الاجتماعية فى المنطقة، أو أننا لم نتعلم بعد كيفية زراعتها فى تربة مجتمعاتنا الجافة المالحة. أظن أن هذه القيم السياسية العليا يمكنها الحياة فى أى بيئة شريطة تطوير الطريقة المناسبة لزراعتها. واحدة من مشكلات التطور السياسى فى بلاد العرب هى حالة الكسل الذهنى، التى تجعل نخبنا السياسية توغل فى اقتباس الأفكار والحجج وأساليب العمل من مجتمعات أخرى، بينما لا تبذل سوى القليل من الجهد لتطوير الطرق المناسبة لتوطين القيم والمؤسسات السياسية المناسبة فى التربة الاجتماعية الصعبة فى بلادنا.
فى العالم العربى يوجد ألف دليل ودليل للاعتقاد بأن الإصلاح أكثر فعالية من الثورة. البلاد العربية التى شهدت قدرا أكبر من الاستمرارية، بغير ثورات تقطع التدرج والتواصل التاريخى هى اليوم فى حال أفضل من بلاد أخرى ضربتها الثورة وكان عليها أن تبدأ من جديد فى كل مرة. لو أن العراقيين أضافوا للميراث السياسى لنظام الملك فيصل وأصلحوه، أو أن السوريين بنوا على التقاليد البرلمانية التى كانت لديهم لحظة الاستقلال، أو أن المصريين نجحوا فى إصلاح النظام البرلمانى شبه الليبرالى الذى أسسته ثورة 1919، لو أن الدول العربية اختارت مسار الاستمرارية والإصلاح بديلا عن الثورة لربما كانت اليوم فى حال أفضل.
السودان حالة متطرفة بعض الشىء، لكنها مع هذا تعكس نمطا عاما سائدا فى العالم العربى. ففى البلاد العربية، وباستثناء حالات الخروج على الحاكم الأجنبى، فإنه لا يكاد يوجد فى العالم العربى نموذج لثورة ناجحة أحدثت نقلة سياسية إلى الأمام. ليس لدينا فى العالم العربى نظير للثورة الفرنسية أو لثورات شرق أوروبا الملونة، أو للانتفاضات التى أتت بالديمقراطية إلى كوريا الجنوبية.
الثورات الناجحة تخلق حقائق جديدة، فتصنع مؤسسات ومواثيق وثقافة سياسية جديدة. الثورات فى العالم العربى تقوض ما هو ما قائم من مؤسسات، لكنها لا تنجح فى استبداله بأبنية جديدة أفضل منه؛ والنتيجة هى أن العالم العربى مع كل ثورة جديدة يقوض بناء قائما، فيهدر فرصة تطويره وإصلاحه، ولا يقيم ما يحل محله، فتبقى بلاد المنطقة فى حالة فقر مؤسسى وهشاشة سياسية.
نقلا عن الأهرام