ليس من عادة كاتب هذه السطور أن يعلق على الأحداث الرياضية، بحكم اقتصار ممارساته الرياضية على تمشية صباحية والقيام ببعض التمرينات التى نصح بها طبيب العظام، ولا يشفع له فى هذا المجال أن معلوماته الرياضية لا تعادل ما يعرفه بعض الصغار المولعون بألعاب متعددة من كرة القدم إلى السباحة والتنس، ويعرفون عن ظهر قلب قواعدها وأسماء أبطالها وبطلاتها على مستوى العالم، ولكنه يشارك قراء هذه الصفحة شعورهم بالفخر أن ينجح شعب عربى فى استضافة كأس العالم لكرة القدم فى دورته الثانية والعشرين، وأن ينظمها على نحو مبهر، وأن يثبت بالدليل القاطع خطأ من توقعوا لها أن تفشل لمجرد أن الذين يشرفون على هذا التنظيم هم من العرب، كما يشارك قراء هذه الصفحة أن مراسم حفل الافتتاح أكدت الاعتزاز بتقاليد عربية وبلغة العرب. كما شاركهم أيضا الشعور بالمتعة والدهشة أمام أحداث مهمة فى هذه البطولة مثل سقوط عمالقة كرة القدم من أرجنتينيين وألمان وفرنسيين وإسبان وأخيرا برتغاليين أمام فرق عربية وآسيوية من السعودية واليابان وتونس وكوريا الجنوبية، وهو ما يقدم دليلا آخر على أن التفوق فى هذه الرياضة لم يعد حكرا على الشعوب البيضاء.
لكن لا أعتقد أن قراء هذه الصفحة ينتظرون منى أن أسهب فى التعليق على البعد الرياضى فى هذه البطولة، فكما أوضحت من قبل لست مؤهلا لذلك، ولكن بحكم المرض المهنى الذى أصبت به منذ عقود خمس أرى السياسة فى كل الأمور، ولذلك لم يغب عنى وربما عن فطنة القارئ أن هذه البطولة قد أحاطت بها منذ البداية ألاعيب السياسة ومعاركها، من اتهامات لقطر، لم تثبت صحتها، بأنها استخدمت سلاح الرشوة لكسب الحق فى تنظيمها، أو أنها غير جديرة بذلك بسبب دعاوى انتهاكها لحقوق العمال المهاجرين، أو أن نظامها السياسى غير ديمقراطى. وغاب عن من أطلقوا هذه الاتهامات أن قسما كبيرا من مواطنيهم لا يرغب أصلا أن يكون هناك عمال مهاجرون على أراضيهم، بينما يشكل العمال المهاجرون قرابة ٩٥٪ من إجمالى العاملين فى قطر، كما أن دورة سابقة لكأس العالم فى كرة القدم جرى تنظيمها فى موسكو، واستضافت بكين دورة ألعاب أوليمبية، ولا يعتبر البلدان من وجهة نظر من أطلقوا هذه الاتهامات بلادا ديمقراطية. وكانت آخر معارك السياسة حول هذه البطولة هو سخط دوائر عديدة فى الدول الغربية على قطر لأنها لا تسمح برفع شعارات وأعلام أصحاب الميول الجنسية المثلية، وكأن المفروض على كل دول العالم أن تتبنى المعايير الثقافية للدول الغربية فى الوقت الحاضر، وهى نفسها التى كانت تعتبر هذه الميول منذ عقود طويلة خطيئة أخلاقية.
لن أشغل قراء هذه الصفحة بهذه القضايا السياسية، ولكن أود استرعاء الاهتمام بظاهرة لم تلق بعد حظها من التأمل وهو صعود دول صغيرة فى الخليج مسرح السياسة العربية، بل وقيامها بدور بارز على الصعيد العالمى فى الوقت الذى توارت فيه دول كانت بحق أقطابا كبرى للسياسة فى الوطن العربى. كنا نعلق منذ عقود الأمل أن يؤدى التفاهم بين أقطاب ثلاث وهى مصر وسوريا والسعودية إلى نجاح العرب فى مواجهة التحديات من جانب دول الشرق الأوسط غير العربية وفى مقدمتها إسرائيل ومعها إيران وتركيا، وأن يقفوا صفا واحدا فى مواجهة القوى الكبرى على صعيد العالم. ألم يكن نجاح العرب فى الإطاحة بأسطورة التفوق العسكرى الإسرائيلى فى أكتوبر ١٩٧٣ومعاقبة القوى الدولية المساندة لإسرائيل فى أكتوبر ١٩٧٣ هو نتيجة التوافق بين هذه الدول الثلاث؟. أو لم تكن بداية التصدع فى جدار التضامن العربى هى انفراط العقد بينها بعد سعى الحكومة المصرية إلى صلح منفرد مع إسرائيل فى نوفمبر ١٩٧٧ مع الرحلة الشهيرة للرئيس السادات إلى إسرائيل؟. ما زالت السعودية قطبا رئيسيا على مسرح السياسة العربية، وهى بكل تأكيد مؤهلة لذلك بحكم أنها موقع الحرمين الشريفين وأرض الرسالة السماوية التى أصبح معظم العرب يدينون بها ويتحدثون لغتها، وهى فوق ذلك تتمتع بعدد سكان معتبر يتجاوز خمسة وثلاثين مليونا يشكل الأجانب حسب التقديرات نحو ثلثهم، وحتى قبل تراكم أصولها المالية نتيجة ارتفاع ثمن النفط فى الأسواق الدولية وسيطرتها على قطاع النفط فيها من السيطرة الأجنبية، فقد كانت قطبا رئيسيا فى علاقات القوى فى الوطن العربى، فقد كانت قائدة المعسكر المحافظ فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وما زالت تقوده حتى الآن. لكن الجديد حقا هو صعود كل من قطر والإمارات العربية المتحدة كقطبين جديدين فى التفاعلات العربية والتفاعلات الإقليمية، بل والقيام بدور دولى يتجاوز بكثير ما تقوم به الدول الكبيرة نسبيا فى الوطن العربى بل وبالتنافس مع ما بقى من هذه القوى، فلم يبق من هذه القوى خارج منطقة الخليج سوى مصر بعد أن سقطت سوريا ضحية لصراعات داخلية وإقليمية ودولية احتدمت على أراضيها ومن حولها منذ انطلاق الثورة ضد حكم أسرة الأسد فى مارس ٢٠١١، وأضعف عدم الاستقرار الداخلى فى العراق نتيجة التطاحن بين قواه السياسية ذات الجذور الطائفية واللغوية من قدرته على لعب دور مؤثر على الصعيد العربى أو الوقوف فى وجه التحالف الإيرانى مع بعض هذه القوى، وذلك بعد أن انهك الاحتلال الأمريكى لأراضيه من قدراته العسكرية والاقتصادية وغذى عوامل الفرقة بين مواطنيه. كما أبعد عدم الاستقرار السياسى الداخلى منذ بداية التسعينيات من قدرة الحكومة الجزائرية على أن تحقق طموحها بأن تكون فاعلا مؤثرا فى الوطن العربى، حتى وإن كانت هناك بوادر معاودة هذا الطموح فى الشهور الأخيرة مع انعقاد القمة العربية فى عاصمتها.
علامات الصعود وأسبابه
أبرز علامات الصعود على مسرح السياسة العربية والشرق أوسطية لكل من قطر والإمارات العربية المتحدة هما أنهما أصبحتا صاحبتى المبادرات سواء بالدعوة إلى منهج جديد فى التعامل مع قضايا الوطن العربى أو بحل بعض الخلافات المستحكمة فيه. قادت الإمارات الدعوة إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل رغم أنها ليست من دول المواجهة المسلحة معها ولا تقع إسرائيل على حدودها، وجرت من ورائها السودان وشجعت البحرين وتعاطفت مع المغرب. وتقوم قطر بالسعى لتحقيق المصالحة بين القوى الفلسطينية، وأيدت الثورات العربية التى انطلقت فى خمس من الدول العربية فى شتاء ٢٠١١ وسبب ذلك توترا فى علاقاتها مع كل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وكانت قطر ربما من أول دول الخليج التى دخلت فى علاقات غير رسمية مع المسئولين الإسرائيليين، وأخيرا قام الأمير تميم حاكم قطر بجهود وساطة بين الرئيسين المصرى والتركى ونجح فى الجمع بينهما لأول مرة فى تاريخ كل منهما بعد سنوات من العداء المعلن. طبعا كان للمملكة العربية السعودية مبادراتها، ولكن بينما أخفقت مبادرات الحكومة السعودية فى شن حرب ضد سيطرة حزب أنصار الله الحوثيين فى اليمن ودفع حكومة سعد الحريرى فى لبنان لاتخاذ مواقف مناوئة لحزب الله، تجنبت دولة الإمارات التورط المباشر فى المنازعات الداخلية فى الوطن العربى، ونجحت حكومة قطر فى التباعد عن حركة الإخوان المسلمين التى كانت سببا فى توتر علاقاتها مع كل من السعودية والإمارات ومصر.
قد يرى البعض فى صعود الدولتين على مسرح السياسة العربية والشرق أوسطية أنها نتيجة لما تراكم لدى كل منهما من أرصدة مالية هائلة بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعى فى الأسواق الدولية، وهو ما مكنهما من الاحتفاظ بصندوق ثروة سيادى، قدر فى حالة دولة الإمارات بـ٧٠٨ بلايين دولار وفى السعودية بـ٦٢٠ بليون دولار وفى قطر بـ٤٥٠ بليون دولار، وهو ما يمكن هذه الدول من أن تستغنى عن صادراتها من النفط أو الغاز لسنوات، وأن تستخدم هذه الأصول المالية فى تنويع ثرواتها ومدها إلى مجالات أخرى داخل وخارج حدودها بينما لا تتخلى عن أصولها الإنتاجية التى تواصل الحفاظ عليها بدلا من أن تلجأ إلى بيعها كما تفعل دول أخرى فى الوطن العربى.
• • •
ومع ذلك لا يمكن نسبة نجاح هاتين الدولتين فقط إلى مواردهما المالية سواء من احتياطات نقدية أو صناديق ثروة. بل يعود الأمر إلى امتلاكهما لعناصر قوة ناعمة فضلا عن عناصر قوة صلدة.
أولى عناصر القوة الناعمة لهاتين الدولتين هى الصورة التى نجحت كل منهما فى أن تطرحها عن نفسها أمام مواطنيها وأمام العالم، فكل منهما دولة تتمتع بالرخاء، وتوفر لمواطنيها واحدا من أعلى مستويات المعيشة فى العالم. متوسط الدخل الفردى فى قطر فى سنة ٢٠٢١ هو ٦١ ألف دولار وفى الإمارات ٣٦ ألفا وفى السعودية ٢٤ ألف دولار ولا يتجاوز فى مصر أربعة آلاف من الدولارات. وفقا لصحيفة إيكونوميست البريطانية تأتى كل من أبى ظبى ودبى كأفضل مدينتين للعيش فى الشرق الأوسط وذلك من حيث النشاط الثقافى وتوافر البنية الأساسية والأوضاع البيئية وحالة الصحة العامة واستقرار المعيشة. وتعتبر شركتا الطيران الإماراتية والقطرية من أفضل شركات الطيران فى العالم. وتتفوق دولة الإمارات فى نشاط شركاتها غير البترولية مثل شركة موانئ دبى التى كادت تنجح فى الفوز بحق إدارة ميناء بوسطن فى الولايات المتحدة الأمريكية لولا تدخل الكونجرس الأمريكى لوقف هذه الصفقة. كما دعمت دولة الإمارات من قوتها الناعمة بكونها الدولة العربية الأولى التى دخلت مجال غزو الفضاء بإطلاق سفينة فضائية وصلت إلى كوكب المريخ فى فبراير ٢٠٢٠ وخططت ذلك بالتعاون مع وكالة فضاء يابانية.
ثانى عناصر القوة الناعمة لكل من الدولتين هى أذرعتهما الإعلامية. كانت قطر الأكثر نجاحا فى هذا المجال بإطلاقها شبكة قنوات الجزيرة التى تميزت فى البداية بجرأتها فى تناول أوضاع العالمين العربى والإسلامى وحققت فى ذلك اختراقات عديدة، واكتسبت قدرا عاليا من المصداقية دون أن يمتد ذلك إلى تناول الأوضاع فى قطر، بل وأصبحت بسهولة الوصول إليها فى جميع أرجاء العالم نافذة العالم على ما يجرى داخل الوطن العربى، وامتلكت دولة الإمارات شبكة سكاى نيوز التى تتوجه أيضا إلى الجمهور العربى، وزاد من مصداقية الجزيرة حظر مكاتبها بل وقنواتها ومطاردة مراسليها فى عدد من الدول العربية، وكانت آخرهن الشهيدة شيرين أبو عاقلة التى اغتالها جندى إسرائيلى أثناء تغطيتها لاقتحام القوات الإسرائيلية مخيم جنين فى الضفة الغربية.
لكن أهم عناصر القوة الناعمة لكل من الدولتين هو دبلوماسيتها التى انفتحت بدون تهيب على جميع دول العالم حتى ما كان يعتبر عدوا للعرب والمسلمين. أقامت دولة قطر علاقات مع إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وتوسطت بين الولايات المتحدة وطالبان، كما توسطت بين الاتحاد الروسى ومقاتلى الشيشان فى الوقت الذى احتفظت فيه بأكبر قاعدة عسكرية فى منطقة الخليج، وتواصلت سرا وعلانية مع إسرائيل دون أن تقيم علاقات رسمية معها، وفى نفس الوقت كانت تحاول تحقيق المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية بل وتقدم المساعدات لكل منهما. وذهبت دولة الإمارات حدا أبعد فقد قادت التطبيع مع إسرائيل، كما استعادت العلاقات مع سوريا، وحافظت على علاقات دبلوماسية وتجارية مهمة مع إيران، وخالفت الولايات المتحدة فى بعض قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بأوكرانيا، وتعددت زيارات مسئوليها إلى موسكو حتى مع احتدام هذه الحرب. ويمكن القول أن كلتا الدولتين لم تتقيد باعتبارات أيديولوجية لا من تضامن عربى أو إسلامى وهى تتبع هذه الدبلوماسية المفتوحة وإنما استرشدتا فقط بمصالحهما القطرية فى الأساس.
قطر تسعى للتواصل مع قوى كبرى وإقليمية لتساندها فى مواجهة المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات تخشى امتداد النفوذ الإيرانى باتباع سياسة العصا بالتقرب من إسرائيل والجزرة بالحفاظ على علاقات دبلوماسية تجارية مع إيران وحلفائها فى المنطقة، كما تساند مصر وفى نفس الوقت تستثمر أموالا طائلة فى أراضى إثيوبيا التى أقامت سدا يهدد أمن مصر المائى فى أوقات الجفاف.
وأخيرا لا تتردد الدولتان فى السعى لاستخدام بعض عناصر القوة الصلدة مثل تشجيع فصائل مسلحة كما فعلت الإمارات فى اليمن وليبيا، ومثلما فعلت قطر فى سوريا. كما يستخدمان المساعدات الاقتصادية لمساندة الحلفاء فى الوطن العربى وخارجه.
وهكذا قرائى الأعزاء، فتنظيم الدورة الثانية والعشرين فى دولة قطر هو مظهر آخر لصعود الدول العربية الصغيرة فى منطقة الخليج على مسرح السياسة العربية والشرق أوسطية واكتسابها مكانة على مستوى النظام العالمى.
نقلا عن الشروق