شكّلت الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي انعقدت يوم 12 يونيو 2021، حدثًا سياسيًا هامًا في المشهد الجزائري لاعتبارات عديدة، في مقدمتها أن هذه الانتخابات جاءت على خلفية قرار الرئيس الجزائري “عبدالمجيد تبون”، في شهر فبراير الماضي، بحل المجلس الشعبي الوطني، الذي انتخب في 2017، والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وهو القرار الذي اعتُبر حينها محاولةً من الرئيس الجزائري للتأكيد على التخلص من إرث الرئيس السابق “عبدالعزيز بوتفليقة”، وخصوصًا أن الرئيس الجزائري “تبون” صرح في أكثر من مرة بضرورة إحداث تغيير جوهري في الدولة ومؤسساتها. وبالإضافة إلى ذلك، فقد شهدت الانتخابات عددًا من المتغيرات الرئيسية، حيث جرت وسط دعوات للمقاطعة، ونسب مشاركة متدنية، ونظام انتخابي جديد.
النظام الانتخابي الجديد
وفقًا للأمر القانوني الذي أصدره الرئيس الجزائري “عبدالمجيد تبون”، في شهر مارس الماضي، يبلغ عدد أعضاء المجلس الشعبي الوطني 407 أعضاء، بدلًا من 462 مقعدًا في المجالس السابقة. وتوزع المقاعد على الدوائر الانتخابية وفقًا لعدد السكان، حيث يُخصَّص مقعد واحد لكل 120 ألف نسمة، ويُخصَّص مقعد إضافي لكل حصة متبقية تشمل 60 ألف نسمة، على ألا يقل عدد المقاعد عن ثلاثة بالنسبة للولايات التي يقل عدد سكانها عن 200 ألف نسمة. وحدد القرار عدد المقاعد في الدائرة الانتخابية للجالية الجزائرية بالخارج في انتخاب المجلس الشعبي الوطني بـ8 مقاعد.
ويعتمد النظام الانتخابي للانتخابات التشريعية الجزائرية الجديدة على “العتبة الانتخابية التصويتية” حيث يُشترط لبلوغ العتبة حصول القائمة على نسبة 5% من الأصوات، ويتم إقصاء القوائم التي لا تبلغ هذه العتبة، وحساب عدد المقاعد التي حصلت عليها كل قائمة وفقًا لعدد الأصوات التي حصلت عليها، ثم ترتيب المرشحين داخل القائمة الواحدة حسب الأصوات التي حصلوا عليها، مع إعطاء الأفضلية للمرشح الأقل سنًا حال تساوي مرشحين في الأصوات، وإذا كان المرشحان المتساويان في الأصوات رجلًا وامرأة تكون الأفضلية للمرأة. وبذلك فإن قانون الانتخابات يعتمد على الاقتراع النسبي للقائمة المفتوحة لأول مرة في تاريخ الجزائر، من أجل الحد من دور المال السياسي.
دلالات رئيسية
انطوى مشهد الانتخابات التشريعية الجزائرية على عدد من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
(*) انتخابات مبكرة: تأتي هذه الانتخابات التشريعية في توقيت غير اعتيادي، بدلًا من الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها العام القادم. حيث تعد هذه الانتخابات انتخابات مبكرة فرضها قرار الرئيس الجزائري “عبدالمجيد تبون”، في شهر فبراير الماضي، بحل المجلس التشريعي الذي انُتخب في 2017 تحت حكم “بوتفليقة”، وكان من المقرر أن يستمر حتى عام 2022. وحاول أن يسوق الرئيس الجزائري لهذا القرار بحسبانه جزءًا من مسار التغيير الجوهري للجزائر عبر بناء مؤسسات يمكن الثقة فيها بشكل كامل. كما تعهد “تبون” بإجراء تغييرات سياسية واقتصادية تلبية لمطلب رحيل النخبة الحاكمة كلها الذي ترفعه الاحتجاجات، خاصة أن حلفاء الرئيس السابق “بوتفليقة” كانوا يستحوذون على أغلبية مجلس النواب المنحل.
(*) استكمال البنية المؤسسية: تأتي هذه الانتخابات في إطار المساعي الجزائرية لاستكمال البنية المؤسسية للنظام الجديد بعد الحراك الذي أطاح بنظام “بوتفليقة”، وإنهاء الطابع الانتقالي وحالة الاستثناء التي تعيشها الجزائر. وبعد إجراء الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي أسفرت عن فوز الرئيس الحالي “عبدالمجيد تبون”، تعد الانتخابات التشريعية اللبنة الثانية في البناء المؤسسي الجزائري الجديد، قبل إجراء الانتخابات البلدية والمحلية. وهو ما أشار إليه الرئيس الجزائري كخطوات انتخابية ثلاث لإعادة السلطة للشعب.
كما تُعد تلك الانتخابات التي تأتي تحت شعار “فجر التغيير” الاستحقاق الثالث في الجزائر بعد الحراك وخلال عام ونصف فقط بعد الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في ديسمبر 2019، والاستفتاء على تعديل الدستور في الأول من نوفمبر 2020.
(*) حضور المستقلين: تُعتبر انتخابات 2021 هي الأولى التي تشهد هذا العدد الكبير من المرشحين المستقلين، وهو ما يعكس -في جانب منه- تراجع الثقة في الأحزاب والاستياء منها وربما أيضًا تحميلها مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الجزائر. كما يُعزَى هذا الحضور للمستقلين إلى الفرص السياسية والآمال التي تطرحها حالة ما بعد الحراك خاصة مع غياب “الحزب الحاكم” عن السلطة. ورغم أن العتبة الانتخابية تُعد أحد المعوقات التي واجهت القوائم المستقلة، إلا أنها أيضًا حظيت بتشجيع حكومي عبر منح المرشحين دون سن الأربعين تمويلًا لحملاتهم الانتخابية.
(*) منطقة القبائل الأمازيغية: ثمة حالة من عدم الثقة التاريخية بين منطقة القبائل الأمازيغية والسلطة المركزية في الجزائر، ولذا تتسم المنطقة بمعدلات مشاركة انتخابية شبه معدومة في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية منذ الاستقلال. وبينما تشير الأرقام الرسمية للانتخابات التشريعية لعام 2017 إلى مشاركة 17% في تيزي وزو، و18% في بجاية؛ فإن 17 مركز اقتراع فقط فتحت أبوابها صباح يوم الانتخابات في بجاية من أصل 500 مركز، وأُغلقت كل المكاتب في الظهيرة. كما أُغلق 136 مركز اقتراع و229 مكتبًا في تيزي وزو بسبب حوادث، بينها تخريب صناديق. كما أعلن كلٌّ من التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية -أكثر الأحزاب انتشارًا في المنطقة– عدم المشاركة في الاقتراع. وقد نقلت وكالة “فرانس برس” عن نائب رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان قوله، إنّ أعمال شغب وقعت في بجاية، فضلًا عن توتر الأوضاع في كثير من قرى البويرة.
(*) دعوات المقاطعة: انعقدت الانتخابات التشريعية وسط دعوات من ناشطي الحراك وقوى معارضة بمقاطعتها، حيث نددت قوى الحراك بعقد الانتخابات قبل إجراء تغيير جذري في نظام الحكم القائم منذ الاستقلال، واصفين عقد الانتخابات قبل تحقيق مطالبهم بـ”المهزلة الانتخابية” و”اندفاع متهور” للنظام. إلا أن تصريحات الرئيس الجزائري خلال تصويته في الانتخابات تشير إلى تجاوز الحكومة لهذه الدعوات، والاهتمام بالعملية الانتخابية ذاتها وما تُسفر عنه من نتائج، وليس بمعدلات المشاركة، في ظل عزم الحكومة على إتمام خارطة الطريق. ومع مشاركة القوى الإسلامية والمحسوبة على النظام القديم؛ فإن القوى العلمانية واليسارية فضلت خيار مقاطعة الانتخابات، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على النتائج وتركيبة المجلس.
(*) تأخر النتائج: جرت العادة على إعلان النتائج الأولية الرسمية للانتخابات التشريعية الجزائرية في اليوم التالي للاقتراع، إلا أن رئيس السلطة الوطنية للانتخابات أوضح يوم الاقتراع أنه لن يتم إعلان النتائج في اليوم التالي، وإنما خلال 4 أو 5 أيام، وهو ما يرجع إلى النظام الانتخابي الجديد، وانتظار وصول كافة محاضر الفرز من مختلف المكاتب في الداخل والخارج لمقر السلطة، والحاجة إلى احتساب المعامل الانتخابي لإقصاء القوائم التي لم تحصل على النسبة المطلوبة لدخول المجلس، وترتيب المرشحين داخل القوائم المختلفة وفقًا لنظام القائمة النسبية المفتوحة. وقد أُعلنت النتائج الرسمية مساء اليوم الثالث بعد يوم الاقتراع، حيث وصف رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات الإعلان عن النتائج –وفق النمط الجديد– خلال 72 ساعة بالمعجزة.
(*) استباق النتائج واتهامات بالتزوير: فقد شهدت الانتخابات محاولات بعض الأطراف استباق الإعلان الرسمي لنتائج الانتخابات. فعلى سبيل المثال، أعلن قيادات حزب التحرير الوطني، في اليوم ذاته عن تصدر الحزب لنتائج الانتخابات. كما أعلن حزب حركة مجتمع السلم –وهو أبرز حزب إسلامي خاض الانتخابات– في 13 يونيو عن تصدره نتائج الانتخابات التشريعية في أغلب الولايات. ولم يكتفِ الحزب بذلك، بل حذر من “محاولات واسعة لتغيير النتائج، والعواقب السيئة لتلك المحاولات على البلاد”. ودعا الرئيس الجزائري إلى “حماية الإرادة الشعبية المعبر عنها فعليًا وفق ما وعد به”.
نتائج الانتخابات
بموازاة هذا المشهد والسياق العام للانتخابات التشريعية الجزائرية، فإن نتائج الانتخابات كشفت عن عدد من المعطيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
(1) المشاركة المتدنية: فوفقًا للبيانات الرسمية غير النهائية التي أعلنتها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية نحو 23%، فمن أصل 24 مليون شخص تقريبًا يحق لهم الاقتراع، شارك في الانتخابات نحو 5,6 ملايين شخص أدلوا بأصواتهم. وهو رقم يعد متدنيًا مقارنة بالانتخابات السابقة، إذ بلغت نسبة المشاركة 35,70٪ تقريبًا في الانتخابات التشريعية الأخيرة 2017، و42,90٪ في الانتخابات التشريعية 2012. وكذلك مقارنة بمشاركة 40% في الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الحراك.
ولا يمكن إغفال أن هذا التراجع يؤثر، بشكل أو بآخر، على مشهد الانتخابات، لأنه قد يفسر كدلالة على أزمة ثقة شعبية في العملية الانتخابية، ويشكك في مسار التحول السياسي في مرحلة ما بعد الرئيس “بوتفليقة”.
(2) القوى السياسية الرئيسية: شهدت الانتخابات التشريعية الجزائرية استمرارية صدارة جبهة التحرير الوطني للمشهد بحصولها على ما يزيد على ربع المقاعد، وكذلك حزب التجمع الوطني الديمقراطي المحسوب على النظام السابق والذي شارك جبهة التحرير في التحالف الرئاسي الداعم للرئيس السابق “عبدالعزيز بوتفليقة”، وحصل في هذه الانتخابات على ما يزيد على نصف مقاعده في الانتخابات السابقة. كما حصد حزب جبهة المستقبل الذي تشكل عام 2012 من قيادات منشقة عن جبهة التحرير الوطني على 48 مقعدًا.
وفي السياق ذاته، حصل حزب حركة مجتمع السلم وحركة البناء الوطني -المنشقة عن مجتمع السلم– مجتمعين على نحو ربع المقاعد ليشكلان كتلة إسلامية بارزة. وبذلك فإن نتائج الانتخابات تعبر عن استفادة قوى النظام السابق والقوى الإسلامية من جاهزية هياكلهم ومن دعوات المقاطعة في حصد أعداد كبيرة من مقاعد المجلس الشعبي الوطني. فضلًا عن القوائم المستقلة التي شكلت إحدى المفاجآت الانتخابية وشكلت -مجتمعة– القوة الثانية في المجلس بـ78 مقعدًا.
(3) تمثيل النساء والأعمار المنخفضة: إذ حصدت النساء 34 مقعدًا في المجلس بنسبة 8.35% من إجمالي النواب، وتمكن 140 ممن تقل أعمارهم عن 40 سنة من النجاح في الانتخابات. وعلى مستوى المؤهلات العلمية فإن 75% من أعضاء المجلس الجديد من الحاصلين على مؤهلات جامعية.
حصص القوائم المختلفة من مقاعد المجلس الشعبي الوطني الجزائري 2021
القائمة | عدد المقاعد |
جبهة التحرير الوطني | 105 |
القوائم المستقلة (مُجمعة) | 78 |
حركة مجتمع السلم | 64 |
التجمع الوطني الديمقراطي | 57 |
جبهة المستقبل | 48 |
حركة البناء الوطني | 40 |
حزب الحكم الراشد | 3 |
حزب صوت الشعب | 3 |
حزب العدالة والتنمية | 2 |
حزب الحرية والعدالة | 2 |
حزب الفجر الجديد | 2 |
حزب الجزائر الجديدة | 1 |
حزب الكرامة | 1 |
حزب جيل جديد | 1 |
تم تصميم الشكل اعتمادًا على النتائج الرسمية المؤقتة المعلنة من السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات (15 يونيو 2021).
ختامًا، شهدت الجزائر انتخابات تشريعية في مشهد سياسي وانتخابي يعج بالظواهر المختلفة. وتعبر نتائج الانتخابات التشريعية الجزائرية عن مشاركة انتخابية متدنية، ومقاطعة قوى سياسية علمانية ويسارية للانتخابات، وغلبة المكون الحزبي الممتد من النظام السابق والمكون الإسلامي على تركيبة المجلس الشعبي الوطني الأول بعد الحراك الجزائري.