عُقدت يومي 9 و10 ديسمبر الجاري قمة الديمقراطية بدعوة من الرئيس الأميركي وحضور111 دولة، بهدف معلن هو تعزيز الديمقراطية ضد ما يواجهها من تحديات. ولا ينكر أحد وجود هذه التحديات الجسيمة، سواء تمثلت في صعود اليمين المتطرف في العديد من البلدان، أو وجود أحزاب ظاهرها سياسي وباطنها تنظيمات مسلحة تفرض إرادتها بقوة السلاح إن خذلتها الآليات الانتخابية، أو انقسامات مجتمعية حادة تجعل القبول بما يقتضيه مبدأ حكم الأغلبية مستحيلاً أو شبه مستحيل خاصة في ظل ضعف أو حتى غياب الثقافة الديمقراطية وسيادة القانون، أو الانقلابات العسكرية التي عاودت الظهور في العديد من بلدان ما كان يُسمى العالم الثالث، كانعكاس لضعف المؤسسات السياسية بصفة عامة والحزبية بصفة خاصة، وغير ذلك من التحديات. لكن المشكلة أن المرض قد يكون شديد الوضوح، بينما الخلاف يقع حول طريقة العلاج، بل إن الخلاف قد يبدأ باختيار الطبيب المعالج.
وأذكر أن الدهشة قد أصابتني عندما استمعت للمرة الأولى للمرشح الرئاسي جو بايدن وهو يتحدث عن نيته عقد قمة للديمقراطية حال فوزه، فقد وجدت الفكرة ساذجةً وفاسدةً في آن واحد، ذلك أن تصور مواجهة تحديات الديمقراطية بعقد مؤتمر فكرةٌ بالغة التبسيط والتعقيد في الوقت نفسه، فهي من ناحية بالغة التبسيط لأن تعزيز الديمقراطية عملية شديدة التعقيد تحتاج جهوداً فكرية وثقافية وتنمية حقيقية وعدالة اجتماعية وبنية سياسية وقانونية سوية وغير ذلك من المقومات. وقد يُقال إن هذا صحيح، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فما المشكلة في عقد مؤتمر يبدأ الرحلة؟ وهنا يبدأ التعقيد بالتساؤل حول الداعي ومعايير دعوته. وثمة اتفاق على أن الولايات المتحدة ليست أفضل من يضطلع بهذه المهمة، وليست هذه أقاويل خصومها، ولكني أكتفي هنا بتغريدة ريتشارد هاس، أستاذ العلاقات الدولية الأميركي الشهير الذي شغل مناصب سياسية مهمة، وجاء فيها ضمن ثلاثة انتقادات للقمة أن الولايات المتحدة ليست في الوضع الذي يمكّنها من تقديم نموذج ديمقراطي يُحتذى، وأن عليها أن تركز على إعادة ترتيب بيتها «المكسور» من الداخل، وذلك في إشارة إلى الوضع الحالي الذي تمر به الديمقراطية الأميركية منذ معركة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدت أحداثاً غير مسبوقة كرفض قطاعات عريضة من الحزب الجمهوري نتائج الانتخابات، وتحريض الرئيس آنذاك (ترامب) على مهاجمة الكونجرس يوم اعتماد نتيجة الانتخابات إلى آخر هذه الأحداث المؤسفة. وأُضيف إلى هذا أن الولايات المتحدة قضت حوالي ثلاثة أرباع القرن منذ اضطلعت بدور القيادة في النظام العالمي وهي تحاول حماية الديمقراطية بطريقتها الخاصة، عبر التدخل العسكري المباشر وغير المباشر في كوبا وفيتنام وتشيلي والعراق وأفغانستان مؤخراً وغيرها، فكانت النتائج كارثية دوماً، وهي نتائج ما زالت آثارها باقية حتى الآن تعاني منها الشعوب التي شاء حظها العاثر أن تكون هدفاً لهذه المحاولات «النبيلة» لنشر الديمقراطية.
هذا عن الداعي، فماذا عن المدعوين؟ ثمة شبه إجماع على أن قائمة الـ111دولة التي دُعيت للحضور مليئة بالتناقضات، وهي حتى لا تتسق مع معايير الديمقراطية التي تأخذ بها المراكز البحثية ومنظمات حقوق الإنسان الأميركية، ويرجع هذا في تقديري إلى أن الرئيس الأميركي لا يمكن أن يكون قد وجد الوقت الكافي لفرز هؤلاء المدعوين بنفسه، وإنما أغلب الظن أن المهمة أوكلت إلى بيروقراطية وزارة الخارجية على المستويات الوسيطة وربما الدنيا، ومن هنا جاءت هذه القائمة المتناقضة، والأدهى والأمرّ اختيار ناشطي حقوق الإنسان للحضور من بلدان لم تُدع للمؤتمر، وبعضهم مناضل حقيقي في المجال، والبعض الآخر بالتأكيد من «مرتزقة» حقوق الإنسان إذا جاز التعبير، فما الذي يمكن انتظاره من هكذا قمة؟
نقلا عن الاتحاد