نماذج مستعصية:
فاعلية برامج DDR في دول الصراعات العربية

نماذج مستعصية:

فاعلية برامج DDR في دول الصراعات العربية



قبل اندلاع الأزمات التي غلب عليها طابع الصراع المسلح في دول مثل سوريا وليبيا واليمن، نجحت برامج الأمم المتحدة في تسوية 58 صراعاً في 15 عاماً خلال الفترة من 1990 وحتى 2005. ورغم وجود مبادرات عديدة في إطار برامج DDR ((Disarmament, Demobilization and Reintegration- التي تعتمدها الأمم المتحدة لنزع الأسلحة والتسريح وإعادة الإدماج- في تلك الصراعات، إلا أنها لم تُفعَّل، حتى في الصراعات التي توقف فيها إطلاق النار كما هو الحال في ليبيا، بينما ينطوي اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020 على بنود رئيسية ذات صلة بهذه البرامج. كما بدأت الأمم المتحدة بالفعل في اتخاذ خطوة أولى بنشر فريق مراقبين أممي لوقف إطلاق النار. وفي اليمن، تمثل الطرح الوحيد لصيغة مقاربة في الجزء الأمني من مبادرة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري في أغسطس 2016. وفى سوريا، طرحت مبادرات جزئية تشمل القوات شبه العسكرية المعارضة للنظام. 

أهداف متعددة

يكتسب تطبيق عملية نزع السلاح وإعادة الإدماج في دول الصراعات العربية أهمية خاصة لاعتبارات عدة تتصدرها تعزيز عملية الإصلاح الأمني الهيكلي بالنظر إلى تداعيات الصراع المسلح التي أفرزت خريطة واسعة من المليشيات والفصائل المسلحة المحلية والأجنبية، وبالتالي فإن هناك جملة من الأهداف للتعامل مع هذه الظاهرة في ضوء برنامج (DDR) ومنها:

1- العمل على استعادة كيان الدولة: يمثل إجراء إصلاح أمني واسع في إطار برنامج (DDR) عاملاً جوهرياً في سياق عملية إعادة بناء الدول المنهارة. وفي واقع حالات الصراعات العربية، فإن عملية انهيار الجيوش أو تفككها في دول مثل ليبيا وسوريا واليمن كانت بمثابة علامة رئيسية فارقة على انهيار تلك الدول، وبالعكس قد يكون إعادة بناءها علامة على استعادة كيان الدولة، وهو ما يفسر الطلب المتنامي على الجيوش في مراحل الصراع بالإضافة إلى تصاعد الظواهر التي واكبت الحالة الأمنية لاسيما ظاهرة الإرهاب، بالإضافة إلى ظاهرة الفصائل المسلحة.

2- نزع الأسلحة من الفصائل والمليشيات: ويشكل ذلك مدخلاً آخر لتقويض ظاهرة انتشار السلاح، حيث يعيد الأمور إلى نصابها باحتكار الدولة وحدها للقوة، وما يستتبعه ذلك من الحد من ظواهر مرتبطة بها مثل وقف عمليات تهريب الأسلحة، وما يتصل بها من أنشطة أخرى، حيث تشير تقارير التسلح إلى أن هناك ما بين 30 إلى 50 مصدراً للأسلحة المتوسطة والخفيفة بخلاف مصادر التسلح الثقيلة في الصراعات في الشرق الأوسط.

3- تقويض ظاهرة المرتزقة والمقاتلين الأجانب: وهى ظاهرة شائعة في معظم حالات الصراعات والأزمات في المنطقة العربية. فعندما اندلع الصراع السوري، كان هناك ما لا يقل عن 24 مليشيا إيرانية. وفى ليبيا، يمكن التمييز بين الفصائل التي نقلتها تركيا بالإضافة إلى خريطة واسعة مماثلة في غرب البلاد، فضلاً عن العديد من الفصائل المسلحة الأفريقية في جنوب البلاد من تشاد ومالي والسودان. ويعد الفرز بين الفصائل المسلحة المحلية التي يمكن أن تشملها عملية الإصلاح الأمني الشاملة خطوة أولى لتفكيك العلاقة بين الظاهرتين المحلية والوافدة.

قيود قائمة

لكن في مقابل ذلك، عكست حالات الصراعات العربية تحديات عديدة في إطار تجارب عملية الإصلاح الأمني ونزع السلاح وإعادة الإدماج، يتمثل أبرزها في:

1- طبيعة تكوين الفصائل المسلحة المحلية: ارتبط تكوين هذه الفصائل بعامل التمييز الطائفي أو الإثني، وهو ما يفرض تحدياً لتشكيل العقيدة العسكرية الواحدة التي يمكن أن تُسهِّل عملية الاندماج. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الحالة العراقية كنموذج رئيسي، ففي نهاية مسار الإصلاح الذي اتبعته الحكومة مع هيكلة “الحشد الشعبي” تحت مظلتها، تحول الأمر في الأخير إلى ازدواجية في الهيكل العسكري والأمني بشكل عام. كذلك فإن وضع الفصائل الكردية شكل عقبة في برامج الإصلاح المطروحة في الحالتين السورية والعراقية من قبل، حيث لم تندمج مليشيات البشمركة مع الجيش الاتحادي العراقي، كما تعثر اتجاه دمج الأكراد مع ما سمى “الجيش السوري الحر”. وفي الحالة الليبية أيضاً، فرض العامل الأيديولوجي تحدياً كبيراً مع وجود مجموعات هائلة من الأصوليين والسلفية الجهادية.

2- ارتباط الفصائل المسلحة بالقوى السياسية: وهو ما شكل شبكات مصالح متعددة في حالة مثل ليبيا، دعمها عامل الانقسام الجهوي الذي خلَّفه الصراع ما بين القوى المنتصرة والمهزومة بعد سقوط النظام في فبراير 2011، على نحو لا يزال يفرض تحدياً في عملية الإدماج. فعلى سبيل المثال، سعى وزير الداخلية الليبي السابق فتحي باشأغا إلى تنفيذ برنامج تسريح وإعادة إدماج بالتعاون مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا، لكنه تعثر على وقع بدء مسار انتقال سياسي جديد في مرحلة ما بعد الوفاق، وبدلاً من البناء على الخطوات التي تم اتخاذها تعثرت العملية تماماً.

3- تشابك مصالح الأطراف الخارجية: وهو تحدٍ رئيسي، فلا شك أن تأثير دور الحرس الثوري في الارتباط مع برنامج هيكلة “الحشد الشعبي” في العراق، أو التدخلات العديدة في الحالة الليبية، في الغرب والجنوب، تمثل عائقاً كبيراً. ففضلاً عن وجود مليشيات أجنبية، فإن تدخل قوى خارجية، مثل تركيا التي تتعاون مع الحكومة ورئاسة أركان المنطقة الغربية في ليبيا، يفرض نموذجاً عسكرياً مختلفاً عن نظيرتها في شرق البلاد، على مستوى التسليح والتدريب، وهو ما يعزز من عملية الانقسام. كذلك هناك متغير ديمغرافي في الجنوب في حالة الطوارق والتبو الوافدين من دول الحزام الجنوبي، ومن غير المعروف كيف يمكن التعامل مع هذه الإشكالية. وفي الحالة السورية أيضاً، من الواضح أن اتجاه تفعيل (DDR) يبتعد كليةً عن الجيش النظامي.

4- غياب عامل التأهيل التعليمي: لم تحصل أغلبية العناصر التي اندمجت تحت مظلة المليشيات على الحد الأدنى من التأهيل التعليمي في المراحل الأساسية، في ظل وضع التعليم، بالإضافة إلى عمليات التعبئة التي تحدث للأطفال في مناطق الصراعات على نحو ما هو قائم في اليمن، وكذلك في ليبيا، فعندما بدأت عملية الفرز والتي تم تقسيمها إلى فئات مختلفة، بدا واضحاً أن مَن سيتم تسريحهم أكثر من العناصر التي سيتم إدماجها، وبالتالي بدا أن هناك تفكيراً في تشكيل كيانات أمنية جديدة، لضم هذه المجموعات التي سيتم تسريحها كنوع من الاحتواء.

فرص محتملة

لكن على الرغم من تلك التحديات، لا يمكن القول إن برامج (DDR) غير مستبعده كليةً، إذ لا تزال هناك إمكانية في التعامل مع تلك البرامح. ووفق تقارير لخبراء الأمم المتحدة، فإن التمهيد لعملية طويلة من الإصلاح يتطلب عوامل لوجستية في واقع الأمر، ومنها تنفيذ قرارات حظر التسلح في تلك الدول، وتفعيل عملية المصالحة الوطنية، وتوفير أرضية من الاستقرار مثل التوصل إلى عملية وقف إطلاق النار، وخريطة طريق واضحة تضمن عمليات انتقال سياسي تحد من الصراعات. وفى حين لا تتوفر الكثير من هذه الشروط في العديد من الحالات، فإنه لا تزال هناك إمكانية في بعض الحالات.

إذ أن هناك مبادرات واعدة بعضها مبادرات جزئية، كما في الحالة الليبية، حيث أكدت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) أنها بصدد التوصل إلى خطة شاملة لعملية الإصلاح الأمني الشامل، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنها تتحرك في هذا الاتجاه بالتزامن مع التحرك في الملفات الأخرى المرتبطة بهذا الملف، مثل إجلاء المرتزقة الأجانب في غرب البلاد وجنوبها. ويبدو أن هناك نوعاً من الإسناد الدولي لدعم هذا التوجه، ويميز هذا الإطار أنه مؤسسي إلى حد ما وليس مبادرة شخصية على نحو ما سلفت الإشارة في مشروع وزير الداخلية السابق. الأمر الآخر أن اللجنة انطلقت من عملية تشخيص واضحة للحالة الليبية، في التعامل مع الفصائل المسلحة على سبيل المثال، ولديها قائمة واضحة بتلك الفصائل، كما كشفت في تقرير لها مؤخراً أن هناك غموضاً في بعض الهياكل الأمنية التي تشكلت في مرحلة الوفاق، بالإضافة إلى التحركات التي تقوم بها اللجنة في سياق آلية دول الجوار للتعامل مع ظاهرة المقاتلين الأفارقة، فضلاً عن التحرك مع فريق الخبراء الأممي. ويعزز ذلك أن عملية تكوين الجيش الوطني الليبي أيضاً شكلت سابقة في إنهاء ظاهرة المليشيات والفصائل المسلحة في شرق البلاد.

هناك نمط آخر يتمثل في المبادرات النوعية، التي تشمل عملية التسريح فقط، دون إعادة الإدماج. ففي الحالة العراقية مؤخراً، قدم الزعيم الشيعي مقتدى الصدر- بعد تصدر تياره الانتخابات العراقية- مبادرة نوعية لتسليم السلاح وتفكيك الألوية المسلحة، وإن كانت تمثل مبادرة محلية، بالإضافة إلى أنها مؤشر على عملية التسريح فقط وليس إعادة الإدماج، إلا أنها تشكل عاملاً مساعداً في دعم عملية الاستقرار الأمني كمدخل هام للإصلاح الأمني بشكل عام.

كذلك، لا يمكن التقليل من نمط “الضَم” المتمثل في “الحشد الشعبي” رغم ما يفرضه من تحديات كنموذج، لاسيما فيما يتعلق بالعامل الولائي العابر للمؤسسة الأمنية، وربما للدولة ذاتها، إلا أنه أولاً شكل عامل فرز واضحاً في خريطة الفصائل المسلحة وتحويلها إلى قوات شبه نظامية، بينما الفصائل التي لم تندمج يتم التعامل معها على أنها تشكيلات عسكرية تعمل خارج نطاق القانون.

اختبارات صعبة

إجمالاً، من المتصور أن القيود المفروضة على عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) تتغلب على المبادرات والفرص الواعدة، بل يمكن القول إن احتمال حدوث انتكاسات في بعض النماذج القابلة للبناء عليها وتطويرها واردة في حالات الصراعات الإقليمية، وسيظل ملف التسويات السياسية ونجاح عمليات الانتقال السياسي من عدمه محدداً رئيسياً في إمكانية تقدم هذه البرامج، إضافة إلى الحد من عملية التدخل الخارجي. لكن كافة تلك المؤشرات تكشف أن تشكل نموذج واحد على الأقل في الصراعات العربية لا يزال مبكراً للغاية، حتى في أفضل الحالات القابلة لذلك مثل ليبيا، حيث لا يمكن التنبؤ باحتمالات التقدم من عدمه في ظل الهشاشة السياسية. وعلى الجانب الآخر، فإن الحالة اليمنية ستظل هى الأصعب بين كافة الحالات تقريباً بالنظر لطبيعتها وتعقيداتها.