الواقع شاهد على دور باكستان في الوصول ب«طالبان» إلى تحقيق حلم استعادة الحكم في كابول. لم يكن خافياً خلال العقود السابقة، وليس بخاف اليوم، هذا الدور بكثير من تفاصيله ومشكلاته. بداية طالبان لم تكن في أفغانستان. كانت البداية في المدارس الدينية الباكستانية، هناك نضجوا وتشربوا فكراً متشدداً اختلط بنشأة مشاعر قومية ترعرعت تحت وقع أقدام جنود الجيش السوفييتي الذي احتل بلادهم بدون مقاومة تذكر. هناك أيضاً بدأت علاقتهم بجهاز الاستخبارات الباكستانية، وهي العلاقة التي يعود لها الجانب الأكبر من الفضل في صعودهم وتقف وراء معظم إنجازاتهم السياسية والعسكرية.
كان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، الفرصة التي سرعان ما تلقفتها الولايات المتحدة للترتيب لإعداد وتشكيل جيش المجاهدين الذي سوف يعهد إليه مهمة تحرير أفغانستان. قامت الاستخبارات الباكستانية بتجنيد مجاهدين من الأفغان المقيمين في باكستان، ومنهم الطلاب في المدارس الدينية. تولت المخابرات الباكستانية تدريب من توافق الغرب والشرق على تسميتهم بالمجاهدين وسلحتهم الولايات المتحدة بصواريخ ستينجر التي اشتهرت وقتها، لما حققته من نجاح ضد القوات السوفييتية.
لم يختلف الدور الباكستاني كثيراً في الجولة الراهنة رغم الاختلاف الشاسع في طبيعة وقوة الأطراف المشتبكة في الصراع الأفغاني. هذه المرة شهدنا حلول الولايات المتحدة محل الاتحاد السوفييتي كهدف من أهداف الحرب.
مقابل الغضب في دول الغرب على المظاهر التي لازمت المراحل الأولى للانسحاب الأمريكي، كانت الفرحة بادية في تصريحات وإعلام دول في الشرق، وبخاصة روسيا والصين وباكستان. يهمني أن أتأمل قليلاً في واحدة من هذه الدول الثلاث وهي، باكستان، يتصور الكثيرون أن باكستان تنوي الحصول من طالبان على مزايا ومنافع لم يتح لها أن تحصل عليها من قبل. أما أنا فأعتقد أن مسيرة العلاقات بين كابول وإسلام آباد لن تكون سهلة وميسرة. هذه العودة إلى الحكم بعد عشرين عاماً لن تكون كسابقتها. رأينا صوراً لشبان من جنود طالبان يجوبون شوارع كابول ليسوا بأي حال قريبي الشبه والسلوك والحزم بجنود طالبان الذين حاربوا القوات السوفييتية. الجنود الجدد عاشوا في ظل الاحتلال الأمريكي سنوات سماح، أو كما يسمونه «تسيب أمريكي» ترك أثراً عميقاً في الشبان الأفغان ومنهم هؤلاء الجنود، ترك مثلاً كرهاً لأمريكا ليس ككره المجاهدين الذين عملوا تحت إمرة الأمريكيين قبل أربعين عاماً، وانتصروا على أسلحة وجنود السوفييت. هم الذين انتصروا على قوات الاتحاد السوفييتي أحد قطبي النظام الدولي. أنه الكره «المعتدل».
لكن وراء ظني بأن عائد التحالف الباكستاني الأفغاني، بما فيه النصر الذي حققه هذا التحالف لن يكون مجزياً للطرفين، وراء هذا الظن الكثير من اعتبارات تستحق التأمل أهمها من وجهة نظري الاعتبارات الآتية:
أولاً: لم تنته فعلياً الحرب الأهلية الأفغانية. فالخصومات القبلية والإثنية لا تزال مندلعة، فضلاً عن أن الوجود الأمريكي لفترة غير قصيرة،أدى كعادته إلى توسيع الفجوات الاجتماعية والعرقية داخل المجتمع الأفغاني.
ثانياً: الصين لن تتسامح مع باكستان إذا لم تقم الأخيرة بالمنتظر منها، وهو التأثير على طالبان لتحقيق الاستقرار وبسرعة في أفغانستان. الصين وروسيا، عقدتا العزم على التدخل السياسي الحازم في حال فشل حكام كابول في تهدئة التمرد في مختلف أقاليم أفغانستان، ولن يغفرا لباكستان أي تقاعس أو إهمال في توجيه حكومة كابول نحو مراعاة مصالحهما.
ثالثاً: للهند مواقع أفغانية مستفيدة من التعامل مع الهند، فضلاً عن أن للهند استثمارات كبيرة في أفغانستان لن تتوقف عن حمايتها، وإن اضطرت إلى الضغط على باكستان في مواقع أخرى مثل كشمير، ومواقع تشهد توترات طائفية وعرقية.
رابعاً: ليس جديداً عدم الرضا الباكستاني عن السياسة الأمريكية. باكستان لم تعد تخفي غضبها على السعي الحثيث لجذب الهند إلى تحالفات عسكرية وإقليمية تهيمن عليها أمريكا مثل حلف ال«كواد» الذي أنشأته مؤخراً، ليضم إلى جانبها أستراليا واليابان والهند، خارج الحلف الأوسع الذي يجمع مختلف دول جنوب شرق آسيا، ويحمل مجدداً اسم الهند إلى جانب الباسيفيكي.
خامساً: تبدو الصورة رهيبة إذ تخيلنا ولو للحظة واحدة اجتماعاً أو صداماً بين طالبان و«داعش» والحرس الثوري الإيراني و«القاعدة» وتنظيمات غير قليلة لم نتعرف إليها بعد وقد تكون نشأت في أحضان المخابرات العسكرية الباكستانية أو مخابرات دولة غربية شاركت في احتلال أفغانستان لعشرين عاماً. اجتماعهم تحت قيادة واحدة همّ ثقيل وتهديد للسلام في كل آسيا وصداماتهم ببعضهم بعضاً أو بقوى إقليمية أخرى همّ آخر وثقيل أيضاً يهدد الاستقرار الذي تحلم به الصين، القطب الدولي الناشئ على مستوى العالم
أفكر كثيراً في كلمات معدودة نطق بها رئيس سابق لجهاز المخابرات الباكستاني، ولا أستهين بها أو أقلل من قيمتها ومغزاها، قال الضابط الكبير: «بمساعدة أمريكا هزمت المخابرات الباكستانية الاتحاد السوفييتي، وبمساعدة أمريكا هزمت أمريكا».
نقلا عن جريدة الخليج