على مدار الـ18 سنة الماضية، لم يمر شهر واحد لم يقل فيه المحللون إن «العراق يمر بمرحلة مفصلية». واليوم تتكرر هذه العبارة. العراق حقاً يمر بمرحلة مفصلية مع بدء العد التنازلي لإجراء الانتخابات التشريعية التي ستحدد شكل الحكومة الجديدة ومنهجها. النظام السياسي القائم في العراق يجعل من عملية الاقتراع نفسها غير قادرة على تحقيق تغيير جذري في البلاد، لكن تزامن الانتخابات مع التغييرات الداخلية والإقليمية والانسحاب الأميركي من أفغانستان يجعلها مفصلية في تحديد المرحلة المقبلة.
دخل العراق الشهر الأخير قبل إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، جاءت ضمن جهود الطبقة السياسية العراقية لتهدئة الشارع بعد مظاهرات حركة «تشرين» التي انطلقت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. ورغم أن زخم المظاهرات تراجع بسبب اغتيال الناشطين واستهدافهم واعتقال بعضهم، بالإضافة إلى تفشي وباء «كوفيد – 19»، إلا أن السياسيين العراقيين على معرفة كلية بأن الشعارات التي هتف بها المتظاهرون، بما فيها المطالبة بإنهاء الفساد واسترجاع السيادة العراقية، ما زالت تمثل شريحة كبيرة من الشارع العراقي.
داخلياً، المشهد العراقي منقسم بين السياسيين والشعب. السياسيون منشغلون بالتحالفات، خصوصاً بين الأطراف الإسلامية الشيعية التي تحاول أن تحسم تحالفاتها قبل موعد انتخابات 10 أكتوبر المقبل. وقد أربك رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الوضع، عندما قال في يوليو (تموز) الماضي إنه لن يشارك في الانتخابات، ليعود ويعلن عن عزمه المشاركة في عملية الاقتراع. وبينما يسعى رؤساء تكتلات إسلامية شيعية، مثل هادي العامري وحيدر العبادي، لأن يظهروا أنفسهم كمرشحين مثاليين لمنصب رئيس الوزراء، يسعى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، لأن يعيد بعض تحالفاته للحصول على فرصة لتشكيل الحكومة. إلا أن مقتدى الصدر يصر على تشكيل الحكومة في حال استطاع أن يكرر نجاحه، كما في الانتخابات السابقة، ويحصل على أعلى عدد من مقاعد البرلمان العراقي الـ329، بعد أن استطاع تحالفه أن يحصل على 51 مقعداً في انتخابات عام 2018، أما باقي الأحزاب المقسمة بناء على تقسيمات طائفية وعرقية، فهي أيضاً منشغلة بحملاتها الانتخابية التي تصب جهودها في محاولة معرفة مَن مِن الأحزاب الإسلامية الشيعية قد يعطيها فرصة الحصول على حقيبتين أو ثلاث في الحكومة المقبلة، وعلى ضوء ذلك، تبنى التحالفات. لا يسمع الناخب العراقي عن رؤى سياسية أو برامج انتخابية، لمعالجة تحديات شديدة في البلاد، على رأسها البطالة ومكافحة الفساد والتصدي لوباء «كوفيد – 19» والتنمية المطلوبة. ومن اللافت أن مدينة الموصل، التي ما زالت تعاني أجزاء كبيرة منها من دمار وبشكل أخص الجانب الأيمن منها، تشهد حراكاً انتخابياً غير مسبوق، سعياً لكسب أصوات ثاني أكبر مدينة في البلاد. يعلق الناخبون ملصقاتهم الانتخابية على ركام مبان لم تعمر رغم مرور 4 سنوات من تحرير المدينة من «داعش»، لكن لم يعرض أي منهم خطة ملموسة للإعمار أو تقديم خدمات حقيقية للمدينة وأهاليها.
أما إقليمياً، فإيران هي الدولة الأكثر اهتماماً بالانتخابات – سعياً لتحصين مصالحها في البلاد والتأكد من قدرتها على التأثير في الانتخابات والجهات التي ستشكل الحكومة المقبلة. ومن جانبه، قام رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بزيارة رسمية إلى طهران هذا الأسبوع، بعد أن استضاف قمة إقليمية في بغداد نهاية الشهر الماضي. يريد الكاظمي أن يؤكد لجميع الحلفاء أنه يمثل خياراً جيداً كرئيس للحكومة المقبلة، حتى وإن لم يرشح للانتخابات. لكنه يراهن على اختلاف جميع الأطراف المشاركة في الانتخابات إلى درجة أنهم يفضلون شخصاً لا ينتمي لأي من الأحزاب لتشكيل الحكومة بدلاً من السماح لطرف آخر بذلك. وقد يصيب هذا الرهان في حال اقتنع الإيرانيون به.
المتنافسون على السلطة يتبارزون في التقرب من جهات ذات نفوذ في وقت تشهد فيه المنطقة تقلبات مهمة. تشكيل الحكومة في لبنان، بتوافق فرنسي – إيراني، يأتي بعد أسابيع من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للعراق، حيث زار بغداد والموصل وأربيل للتأكيد على اهتمام بلاده بمصير العراق. بعد أيام من تلك الزيارة، وقع العراق عقد طاقة بقيمة 27 مليار دولار مع شركة «توتال» الفرنسية.
كل هذا يأتي في وقت تؤكد فيه الولايات المتحدة مجدداً أنها مصرة على تقليل نفوذها في المنطقة.
وبسبب التشرذم في المشهد السياسي العراقي، يُتوقع أن تستغرق عملية تشكيل الحكومة المقبلة أسابيع عدة – وجرت العادة أن تستغرق أشهراً؛ إذ اختيار رئيس الوزراء الحالي الكاظمي لتشكيل الحكومة الحالية بعد استقالة سلفه عادل عبد المهدي، استغرق عدة أشهر. ولكن هناك موعداً مهماً على الحكومة العراقية أن تتشكل قبله – وهو موعد نهاية العام، حيث من المرتقب أن تكمل الولايات المتحدة سحب قواتها القتالية من العراق، بينما يطالب البعض من أنصار إيران بسحب كل القوات الأميركية من البلاد. وبعد الانسحاب الكلي من أفغانستان، تشجعت تلك الأطراف وتعالت أصواتها، لكن العراق بحاجة لبقاء القوات الأميركية مع قوات «الناتو» لاستقرار البلاد وعدم السماح بتكرار سيناريو كابل.
غالبية العراقيين لا يعولون على الانتخابات لإخراج بلدهم من أزماته. فالانتخابات أصبحت وسيلة أخرى للمساومة، وحصول الأحزاب السياسية على مكتسبات قلما تجلب منفعة للشعب. في كل دورة انتخابية تتراجع نسبة المشاركة بين الناخبين في العراق – تماشياً مع حالة الإحباط العام إزاء النظام السياسي في البلاد. ومن المتوقع أن تتراجع مرة أخرى في انتخابات أكتوبر المقبل.
وبينما يدور النقاش حول العالم بخصوص آلية الانتقال السلمي للسلطة في أي بلد بهدف تحسين أوضاعه، في العراق، يدور النقاش حول جدوى انتخابات جديدة تنقل السلطة إلى مجموعة جديدة من الوزراء والمسؤولين لتحسين أوضاع الأحزاب التي تسيطر على الحكم.
في المحصلة، الشعب العراقي، كغيره من شعوب العالم، يريد أن يحصل على خدمات أساسية وحقوق بسيطة، وأن يعيش في بلد ذي سيادة. «نريد وطناً»، شعار مظاهرات «تشرين» التي انطلقت قبل عامين، ما زال أفضل تعبير عن طموح العراقيين الذين لا يمكن للسياسيين أن يلبوه. لكن الوقت يداهم هؤلاء السياسيين والمرحلة المفصلية تتطلب جدية في التعامل مع هذه الانتخابات.
نقلا عن الشرق الأوسط