ملف شائك:
صعوبات ضبط أدوار المليشيات في مراحل الانتقال السياسي

ملف شائك:

صعوبات ضبط أدوار المليشيات في مراحل الانتقال السياسي



تعكس التجارب التي شهدتها العديد من دول الصراعات والأزمات في المنطقة صعوبة ضبط سلوك المليشيات كمدخل للتوصل إلى عملية تسوية سياسية، حينما يتطلب الأمر أن تكون المليشيات طرفاً في الاتفاق السياسي مثل المليشيا “الحوثية” في الحالة اليمنية، أو في أعقاب التوصل إلى تسوية وإطلاق عملية انتقال سياسي، عندما تكون المليشيات ظهيراً مسلحاً لبعض الأطراف، كما في الحالة العراقية، وفي حالات أخرى تتنوع ما بين كونها ظهيراً سياسياً أو فصيلاً مسلحاً شبه مستقل كما في الحالة الليبية. ويمكن القول إن المليشيات لا تزال تواصل صعودها كفاعل ما دون الدولة، وتسعى إلى أن تكون البديل للسلطة أو الشريك فيها، كأحد الظواهر الممتدة في حالات الصراعات والأزمات في الإقليم.

وتجسد أدوار المليشيات في حالتى العراق وليبيا تحديداً نموذجاً عملياً لتحديات عمليات الانتقال السياسي. فبعد أن أعلنت نتائج الانتخابات في العراق (10 أكتوبر 2021) سارع أنصار “الحشد الشعبي” المحسوبين على تحالف “الفتح” إلى النزول إلى الشارع للتظاهر ضد المفوضية العليا للانتخابات، والمطالبة بإعادة الفرز اليدوي للأصوات، عقب خسارة التحالف 31 مقعداً بحصوله في الانتخابات الأخيرة على 17 مقعداً بعد أن كان يستحوذ على 48 مقعداً في الدورة المنتهية.

إشكاليات عديدة

يثير هذا الأمر عدة إشكاليات سياسية وأمنية لا تنحصر فقط في الحالة العراقية، حيث تمتد إلى الحالات الأخرى في المنطقة، ومنها على سبيل المثال:

1- شرعنة الدور السياسي للمليشيات: تنظر المليشيات إلى الانتخابات باعتبارها وسيلة ستفرز حصتها السياسية في السلطة. ففي الانتخابات العراقية السابقة، كان “الفتح” هو الكتلة الثانية في البرلمان، وبالتالي كانت لديه سلطة القرار التشريعي والسياسي. وفي ليبيا، تسعى الفصائل المسلحة إلى القيام بالدور نفسه، فخلال الأسبوع الجاري عقدت ما تسمى بـ”القوى المساندة” اجتماعاً طالبت فيه بتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية وإجراء استفتاء على الدستور، وعلى الأرجح في حال إجراء الانتخابات الليبية سيكون موقف هذه الفصائل هو ذاته موقف الفصائل العراقية.

2- افتقاد الانتخابات لدورها الوظيفي: يمكن النظر من هذه الزاوية أيضاً إلى أن الانتخابات كآلية سياسية أصبح لها دور آخر في مدركات أطراف الصراعات والأزمات، افتقدت معه الانتخابات وظيفتها السياسية في عملية اختيار ممثلي الشعب وإفراز قوى وطنية تعبر عن مصالح جماهيرها، وليس انعكاساً لحسابات مصالح ذاتية تكرست وتنامت بشكل هائل في الاقتصاد الموازي، أو النمط الجديد من حكومات الظل، حيث تتخذ القرارات السياسية والتوافقات في غرف عمليات الفصائل المسلحة أو على موائد المباحثات بين ممثلي هذه الفصائل والمليشيات.

3- إعادة إنتاج القوى السياسية: مع افتقار الانتخابات لوظيفتها الطبيعية، تجري إعادة إنتاج القوى نفسها، وإن كانت بحصص سياسية مختلفة، بما يشكل تهديداً لعملية الاستقرار السياسي. فديناميكيات العملية السياسية في دول الصراعات والأزمات أصبح من الصعب عليها إفراز قوى جديدة، ففي الحالة العراقية، لم تحصد قوى “حراك تشرين” التي طالبت بعملية انتقال سياسي، حصة كبيرة في الانتخابات، ومن الجائز القول أن المستقلين بشكل عام أصبحوا كتلة تستحوذ على ما بين 10-15% تقريباً من إجمالي عدد المقاعد لكنها تظل نسبة ضعيفة.

4- تعثر معالجة أدوار المليشيات: على الرغم من أنه من المتصور أن تؤدي عملية الانتقال السياسي إلى معالجة أدوار المليشيات، على نحو ما تم إقراره في اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار (أكتوبر 2020) في الحالة الليبية، لكن عملياً لم تكن هناك إرادة سياسية كافية لتحقيق ذلك، بالإضافة إلى ضغط ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب الذي اعتبرته اللجنة العسكرية المشتركة ملفاً له أولوية بالنسبة لها باعتباره يشكل انتهاكاً للسيادة الوطنية، مع ترحيل ملف الفصائل المسلحة إلى ما بعد الانتخابات. لكن التجربة أثبتت خلال عملية الانتقال السياسي أن بقاء الفصائل المسلحة، وعدم القدرة على حل أزمة توحيد القوات المسلحة، كان له تأثير أكبر على المشهد السياسي، فقد اندلعت حروب مدن آخرها كانت معركة مدينة الزاوية، في 26 أكتوبر الجاري، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بالإضافة إلى تداعياتها على البنية النفطية، حيث أعلنت مؤسسة النفط تضرر 13 خزاناً في مجمع النفط بمنطقة الفرناج.

5- تسييس ملف الإصلاح الأمني: وهى إشكالية أخرى تستحق التوقف عندها في هذا المسار، خاصة فيما يتعلق بمدى تطبيقها على المستوى العربي. فحسب خلاصات الخبرة الدولية، كانت برامج التحول الهيكلي في مؤسسات الأمن بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، نموذجاً فعَّالاً في العديد من الحالات كونها ارتبطت بالمساعدات الدولية، والتحولات الهيكلية في منظومة القوى العسكرية، بل إن بعض الحالات الأفريقية أيضاً استجابت لعملية الإصلاح الأمني. لكن يعتقد أن معظم التجارب العربية كانت نتائجها سلبية، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الحالة اللبنانية بعد الحرب الأهلية، حيث ظل سلاح “حزب الله” معضلة. كذلك في الحالة العراقية، يعكس تقييم عملية الإصلاح الهيكلي، لاسيما ما يتعلق بملف “الحشد الشعبي”، عدم حدوث متغير فارق، مع إعادة تموضع “الحشد” في المشهد السياسي. أما في الحالة الليبية، فإن الحديث يتنامى حالياً عن عملية الإصلاح الأمني كمظلة لحل معضلات أمنية متعددة، لم تبدأ بعد، لكن مؤشراتها ربما ستكون أكثر صعوبة مع التوظيف السياسي لهذا الملف.

ويعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه المعضلة هو ربط الدعم الاقتصادي والمنح الدولية وحتى برامج التدريب والتأهيل باستجابة أطراف الصراعات والأزمات لتلك البرامج. وهنا، فإن هذا الربط لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض في بعض دول الصراعات والأزمات التي تتمتع بموارد طبيعية، مثل العراق وليبيا، حيث لا يرتبط الأمر بحالة الدعم الاقتصادي، وتمويل البرامج. بل إن المليشيات الموجودة مستفيدة من حالة الفوضى، فما هو العائد الذي يمكن أن تحصل عليه إذا ما تخلت عن السلاح، حيث تفرض الإتاوات وتحصل على عوائد اقتصاديات الحرب والفوضى، مثل التجارة غير المشروعة وعمليات التهريب وغيرها.

6- تداعيات استمرار التدخل الخارجي: كانت برامج الأمم المتحدة لإدماج المليشيات تمثل نموذجاً مقبولاً للتدخل الخارجي في تلك الحالات. ففي حالة أوروبا الشرقية، كانت هناك مصلحة للناتو في إعادة تأهيل هذه الدول، وفي بعض الحالات الأفريقية كانت هناك برامج متكاملة تتضمن آليات لسحب الأسلحة ونشر قوات حفظ السلام، ودفع برامج المصالحة والعدالة الانتقالية. لكن على العكس من ذلك، يفاقم التدخل الخارجي من حدة الصراعات الأزمات في المنطقة. ففي الحالة العراقية، ربما سيكون من الصعب توفير برنامج مماثل لـ”الحشد الشعبي”، لإعادة تأهيله من النمط التدريبي الخاص بالحرس الثوري، إلى البرنامج التدريبي الذي تحصل عليه القوات المسلحة العراقية، وقوات مكافحة الإرهاب. وفي الحالة الليبية، لا تزال هناك برامج تدريب عسكرية مختلفة ما بين القوات في شرق ليبيا وغربها، بينما أيضاً تعزز المليشيات أو الفصائل المسلحة من نمط حرب العصابات. بالإضافة إلى ذلك، هناك مصالح للقوى الخارجية من استمرار هذا الوضع.

في السياق ذاته، لا يمكن المقارنة بين الأسلحة التي تستحوذ عليها المليشيات في مناطق الصراعات، ونظيرتها التي يمكن المقارنة معها في مراحل سابقة من النزاعات. فخلال المرحلة الانتقالية في العراق، كان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي غالباً ما يكرر عبارة “حصر السلاح المنفلت بيد الدولة”. في المقابل، هناك تقارير أمريكية تؤكد تنامي القدرات العسكرية للفصائل الموالية لإيران، من منظومات الصواريخ والدرونز. وفي الحالة الليبية، لم يظهر المصطلح الخاص باحتكار الدولة للسلاح بشكل لافت، بينما استخدمت الصواريخ في حروب المدن في غرب البلاد. وكان من الصعوبة بمكان على الأجهزة الأمنية الرسمية السيطرة في كل الحالات على هذه الأسلحة.

عقبات جوهرية

في النهاية، يمكن القول إن واقع عمليات الانتقال السياسي يكشف عن صعوبات جوهرية في الحد من ظاهرة المليشيات والفصائل المسلحة، وتأثيراتها الممتدة على العملية السياسية، في ظل تنامي أدوار هذه الفواعل سياسياً وأمنياً إلى الحد الذي يصعب معه تقويض أدوارها في المرحلة الحالية. ومن المرجح أيضاً أن يظل إحداث انتقال سياسي فعَّال رهناً بمدى القدرة على تقويض تأثير المليشيات والفصائل المسلحة، وإمكانية الفصل بينها وبين القوى السياسية، وتجفيف مصادر التمويل الاقتصادي لها، والبحث عن بدائل استراتيجية لعمليات تسريح وإعادة إدماج تتوافق مع معطيات كل حالة.