لم تكن المناورة العسكرية التي قام حزب الله اللبناني بتنظيمها في بلدة عرمتي، في 21 مايو الجاري، احتفالاً بحلول الذكرى الثالثة والعشرين لخروج الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، هي الأولى من نوعها التي يجريها الحزب، لكنها اكتسبت أهمية وزخماً خاصاً لاعتبارات ثلاثة رئيسية: أولها، أنها تتوازى مع تحولات لافتة على الساحة الإقليمية، سوف تفرض ارتدادات مباشرة على المشهد السياسي اللبناني خلال المرحلة القادمة، وموقع الحزب منه. وثانيها، أنها تأتي في وقت تتصاعد فيه حدة التوتر بين إيران من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، في ظل التسابق الملحوظ بين الطرفين على تعزيز نفوذهما بالقرب من حدود كل منهما. وثالثها، أنها شهدت حرصاً من جانب الحزب على الترويج، بأقصى قدر ممكن، لقدراته العسكرية، حيث كان لافتاً أن الحزب سمح لوسائل إعلامية محلية وأجنبية بتغطية المناورة، التي استعرض فيها بعض معداته العسكرية، وأجرى خلالها محاكاة لعملية اقتحام للأراضي الإسرائيلية تحت اسم “سنعبر”.
أهداف عديدة
يمكن القول إن حزب الله سعى عبر هذه المناورة العسكرية إلى تحقيق أهداف رئيسية عديدة يتمثل أبرزها في:
1- توجيه تهديدات مباشرة إلى إسرائيل: لا يمكن فصل إجراء المناورة في بلدة عرمتي على بعد عشرين كيلو متر من الحدود مع إسرائيل، عن التصعيد المتواصل بين الأخيرة والحزب، سواء بسبب الضربات العسكرية التي تواصل إسرائيل توجيهها داخل سوريا، وتستهدف من خلالها المواقع التابعة لإيران والحزب والمليشيات المسلحة الأخرى إلى جانب قوات النظام السوري، أو بسبب المواجهة العسكرية الأخيرة التي اندلعت بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية خلال الفترة من 9 إلى 13 مايو الجاري. وهنا، فإن الحزب يسعى إلى توجيه تحذيرات مباشرة إلى حكومة بنيامين نتنياهو من التداعيات التي يمكن أن تنجم عن اتجاهها إلى رفع مستوى التصعيد مع الحزب خلال المرحلة القادمة.
2- التماهي مع الخطاب الإيراني: جاءت المناورة بعد أقل من شهر على الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان، في 28 أبريل الفائت، وحرصه خلال الزيارة على الوصول إلى “النقطة صفر” على الحدود مع إسرائيل، في رسالة تصعيد واضحة من جانب طهران إلى الأخيرة.
وهنا، فإن ذلك يوحي في المقام الأول بأن إيران تسعى بدورها إلى توجيه رسالة مباشرة إلى إسرائيل بأن لديها القدرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلي عبر ما يمكن تسميته بـ”الأذرع الطولى” لها في المنطقة، خاصة حزب الله اللبناني. وقد كان لافتاً أن تأكيدات عديدة صدرت من إيران بأنها سوف تواصل دعم ما تطلق عليه “محور المقاومة”، سواء خلال زيارة عبد اللهيان، وبعدها زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي إلى سوريا، في 3 و4 مايو الجاري، أو خلال المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية.
3- توسيع هامش الخيارات المتاحة: يحاول الحزب عبر المناورة العسكرية الجديدة التي أجراها على الحدود مع إسرائيل تأكيد أن التحولات اللافتة على مستوى منطقة الشرق الأوسط، خاصة عقب توقيع اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، في 10 مارس الماضي، فضلاً عن الجهود التي تبذلها روسيا وإيران من أجل تطبيع العلاقات بين تركيا ونظام الرئيس السوري بشار الأسد، إلى جانب عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية؛ لن تفرض انعكاسات مباشرة على موقعه سواء داخل لبنان أو على المستوى الإقليمي.
وبعبارة أخرى، فإن الحزب يسعى عبر ذلك إلى تأكيد أنه يتبنى مقاربة خاصة به في تفاعلاته مع التطورات الطارئة على الساحتين الداخلية والإقليمية، لن تتأثر بشكل مباشر بما سوف تؤول إليه التفاعلات التي تجري حالياً بين العديد من القوى الإقليمية الرئيسية المعنية بالملفين اللبناني والسوري في آن واحد.
وقد كان لافتاً في السياق نفسه، أن المناورة أُجريت بعد أيام من صدور “إعلان جدة” عقب انتهاء أعمال القمة العربية التي عقدت في الرياض في 19 مايو الجاري، والذي أكد على رفض دعم تشكيل المليشيات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة، على نحو يبدو، في رؤية اتجاهات عديدة، أنه كان له دور في الرسائل التي سعى الحزب إلى توجيهها عبر المناورة.
4- تكريس الدور بعد انتهاء الصراع السوري: كان تراجع حدة الصراع المسلح في سوريا، بعد تغير توازنات القوى لصالح النظام السوري، سبباً في اتجاه الحزب إلى تقليص مستوى حضوره عسكرياً داخل سوريا حسب اتجاهات عديدة. ومع ذلك، فإن الحزب ارتأى، على ما يبدو، استغلال المناورة لتأكيد استعداده عسكرياً للانخراط مجدداً في عمليات خارجية، في حالة ما إذا وجد أن هناك متغيرات أو ظروفاً تدفعه إلى ذلك، في إشارة إلى أنه سوف يتبنى الموقف نفسه القائم على تجاوز السياسة التي تتخذها الدولة اللبنانية لـ”النأي بالنفس” عن التورط في مثل تلك التدخلات، التي فرضت ارتدادات سلبية عديدة على لبنان، على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
5- تحذير القوى المناوئة في الداخل: ساهمت التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية خلال الفترة الأخيرة، في تجدد الحديث مرة أخرى داخل لبنان عن اقتراب موعد انتهاء “الفراغ الرئاسي”، الذي نتج بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2022. ومع ذلك، فإن الحزب يبدو حريصاً على تأكيد أنه ليس في وارد تغيير مقاربته إزاء الاستحقاقات السياسية الداخلية حتى مع المفاعيل الجديدة التي يمكن أن تنتجها هذه التطورات، إلا في حالة ما إذا توافق ذلك مع حساباته وموقعه داخل خريطة التوازنات السياسية الداخلية.
ومن دون شك، فإن الحزب يسعى في هذا السياق إلى الرد على الانتقادات القوية التي يتعرض لها من جانب بعض القوى السياسية الداخلية، ليس فقط بسبب تداعيات استمرار أزمة “الفراغ الرئاسي”، وإنما أيضاً بسبب الدور الذي قام به على صعيد الصراع المسلح في سوريا، والذي اعتبر أنه فرض انعكاسات سلبية عديدة على لبنان.
استحقاقات صعبة
في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن لبنان بانتظار استحقاقات صعبة خلال المرحلة القادمة. إذ لم تتضح بعد المسارات المحتملة لأزمة “الفراغ الرئاسي”، ومدى إمكانية تسويتها قريباً من خلال التوافق على مرشح رئاسي بين القوى المختلفة. كما أن احتمالات استمرار التصعيد بين إيران وإسرائيل في الفترة المقبلة تبقى قائمة بقوة، بسبب اتساع نطاق الخلافات العالقة بين الطرفين، بداية من تطور البرنامج النووي الإيراني، مروراً بالعمليات الأمنية التي تتعرض لها المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية وتوجه فيها طهران اتهامات مباشرة إلى تل أبيب، وانتهاءً بالنفوذ الإيراني في دول ومناطق قريبة من إسرائيل، والتي تسعى الأخيرة إلى موازنته عبر تطوير علاقاتها مع بعض دول آسيا الوسطى القريبة من إيران، على غرار أذربيجان وتركمانستان.