أثار احتمال التدخل العسكري في النيجر، في أعقاب الانقلاب الحاصل منذ 26 يوليو الماضي، تساؤلات متعددة حول دوافع التشدد في موقف إيكواس، تجاه الأزمة في النيجر، ومنها التخوف من تمدد ظاهرة الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية، والحد من تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية، وكذلك تدخلات عسكرية سابقة لمجموعة إيكواس؛ إذ لعبت المجموعة من قبل، عبر قواتها “إيكوموج”، دوراً في حفظ السلم والأمن في غرب أفريقيا، والتماهي مع سياسات بعض القوى الغربية. إلا أن هناك عقبات ضاغطة لتحقيق هذا التدخل، أبرزها الانقسام الداخلي حول الموقف من التدخل، وصعوبة تمويل القوات العسكرية المُشتركة، والتوترات الإثنية والقبلية العابرة لحدود النيجر مع الجوار، والتمدد الروسي وغموض الموقف الأمريكي.
في ختام القمة الاستثنائية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، “إيكواس”، بتاريخ 10 أغسطس، أكد قادة المجموعة “إبقاء كل الخيارات مطروحة على الطاولة بشأن النيجر، بما في ذلك استخدام القوة خياراً أخيراً”. وتأتي القمة بعد 4 أيام على انقضاء المهلة التي حددتها إيكواس، لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى السلطة في النيجر، وإنهاء الانقلاب. ورغم تجاهل المجلس العسكري في النيجر للمهلة التي حددتها إيكواس، ورغم ما صدر في البيان من تهديد “باستخدام القوة خياراً أخيراً”، فإنه من الواضح أن اختيار قادة المجموعة محاولة حل الأزمة “سلمياً”، كان هو ناتج القمة فعلياً؛ بما يعني أن التفاوض مع القادة العسكريين، الذين استولوا على السلطة في النيجر، هو “أساس” تلك المحاولة.
دوافع حاكمة
وتتمثل أهم هذه الدوافع في التالي:
1- التخوف من تمدد ظاهرة الانقلابات العسكرية: إذ يبدو أن إيكواس تحاول عدم الاكتفاء ببعض الإجراءات، من قبيل إغلاق الحدود والمنع من السفر وتجميد الحسابات البنكية للعسكريين، الذين قاموا بالانقلاب، من منظور أن هذه الإجراءات لن تحقق المرجو منها، في استعادة النظام الدستوري. ومن ثم فهي تحاول إظهار المزيد من رد الفعل العنيف، والحزم، تجاه موجة الانقلابات العسكرية التي اجتاحت غرب أفريقيا خلال السنوات الماضية؛ خاصة أن 4 من الدول الأعضاء في المجموعة، كانت قد شهدت انقلابات عسكرية، منذ عام 2020.
وفضلاً عن محاولة الرئيس النيجيري الجديد، بولا تينوبو، استعادة قيادة نيجيريا لدول المجموعة، من خلال تبنيه التشدد، وفضلاً أيضاً عن غينيا بيساو، التي تقع بين غينيا والسنغال، والتي شهدت محاولة انقلابية فاشلة، في 1 فبراير 2022؛ فقد سبق للمجموعة أن فرضت عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على العسكريين في مالي وغينيا وبوركينافاسو، وهي الدول التي شهدت انقلابات عسكرية مؤخراً، لكن ذلك لم يُجدِ نفعاً.
2- الحد من تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية: حيث إنه مع كل انقلاب في أفريقيا تهتز صورة الدولة وتتراجع قدرتها على السيطرة السياسية والأمنية؛ وبالتالي يأتي الانقلاب ليُعزز ويقوّي من صورة عدم الاستقرار السياسي، بما يخدم نشاط ومصالح التنظيمات الإرهابية، خصوصاً تلك المتواجدة في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، ومنها تنظيم داعش، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، إضافة إلى جماعة بوكو حرام المتواجدة في شمال نيجيريا، بالقرب من حدودها مع النيجر.
ورغم أن جماعات العنف والتنظيمات الإرهابية تستمر في الاستحواذ على مناطق جديدة في الساحل الأفريقي، مستغلة وضعية انشغال جيوش الدول بالانقلابات العسكرية، والضغوط الخارجية؛ إلا أن نتائج التدخل العسكري، الذي تُهدد به إيكواس، ستنعكس مباشرة على الوضعية الأمنية، ليس في النيجر وحدها ولكن في دول جوارها الإقليمي كذلك، حيث سيزداد نشاط هذه التنظيمات عبر استغلالها الصراع العسكري وتداعياته.
3- تدخلات عسكرية سابقة لمجموعة إيكواس: فقد لعبت المجموعة من قبل، عبر قواتها “إيكوموج”، دوراً في حفظ السلم والأمن في غرب أفريقيا، في بعض الدول التي شهدت عدم استقرار سياسي؛ فكانت أن أرسلت قوات عسكرية مشتركة للتدخل في ساحل العاج وليبيريا عام 2003، وفي غينيا بيساو عام 2012، وفي مالي عام 2013، وأيضاً في غامبيا عام 2017. هذا فضلاً عن تدخلها في سيراليون لإعادة الرئيس تيجان كاباه الذي أُطيح به في انقلاب 1996.
ورغم أن إيكواس جماعة اقتصادية تستهدف التكامل بين دول غرب أفريقيا، ورغم أنها تجاوزت هذا الهدف إلى الاهتمامات الأمنية والعسكرية، من حيث إن الاستقرار السياسي والأمني يُساهم في تحقيق التكامل الاقتصادي؛ فإن الملاحظ مؤخراً أن المجموعة لم تتدخل عسكرياً فيما يخصّ انقلابات مالي وبوركينافاسو، واكتفت بفرض عقوبات تجارية واقتصادية، وتعليق عضوية كل منهم. لكن لم يتم الالتزام بعملية التحول الديمقراطي، التي كانت إيكواس قد وضعته شرطاً لإنهاء العقوبات. ولعل ذلك ما مثَّل أحد الدوافع في موقف المجموعة المتشدد تجاه انقلاب النيجر.
4- التماهي مع سياسات بعض القوى الغربية: فبعد تهديد إيكواس بالتدخل عسكرياً لإنهاء انقلاب النيجر، فقد تبدى بوضوح أن باريس تدعم تحركاً عسكرياً للمجموعة، ضد المجلس العسكري هناك، وهذا ما أشار إليه بيان الرئاسة الفرنسية الذي شدد على “دعم المبادرات الإقليمية” التي تهدف إلى “استعادة النظام الدستوري (…)، وعودة الرئيس المنتخب محمد بازوم، الذي أطاح به الانقلابيون”.
وبالتالي، ففي حين تبدو إيكواس متماهية ومتوافقة مع سياسات فرنسا والاتحاد الأوروبي، خاصةً فيما يتعلق بانقلاب النيجر؛ تتبنى نيجيريا خيار التدخل العسكري ضد قادة الانقلاب، كمحاولة لتقديم نفسها كـ”شريك” لأوروبا، وهو الاتهام الذي برز في تصريحات المجلس العسكري في النيجر وفي مالي وبوركينافاسو أيضاً.
عقبات ضاغطة
في الوقت الذي بدا فيه أن إيكواس لن تتراجع عن التدخل العسكري في النيجر؛ إلا أن ثمة بعض الأسباب التي دفعت المجموعة إلى التراجع، وتتمثل أهم هذه الأسباب فيما يلي:
1- الانقسام الداخلي حول الموقف من التدخل: فمنذ التدخل الأول لمجموعة إيكواس في ليبيريا، وهي تشهد حالة من الانقسام الداخلي، وأزمة ثقة بين دول الفرانكوفون بقيادة ساحل العاج وبين دول الأنجلوفون بقيادة نيجيريا. وقد امتد هذا الانقسام الداخلي بين دول المجموعة إلى أزمة الانقلاب الأخير في النيجر، بين عدد من الدول المؤيدة للتدخل العسكري، وإنهاء الانقلاب بالقوة، مثل نيجيريا والسنغال، وبين الدول المُعارضة لهذا التدخل، خاصة مالي وبوركينافاسو، إضافة إلى غينيا.
ويعود سبب الرفض إلى أن النظم الحاكمة في هذه الدول، وصلت للسلطة عبر الانقلاب، مما يمكن أن يُشجع على تكرار نفس سيناريو النيجر في بلدانهم. واللافت أن الانقسام، في حال أزمة النيجر، لا يتوقف عند حدود التدخل العسكري من عدمه؛ بل امتد إلى تهديد الدول الأربع المُعارضة بالانسحاب من مجموعة إيكواس، بما يعني التأثير على فاعليتها وقوتها، فضلاً عن انفراطها وتفككها. أضف إلى ذلك، أن مجلس الشيوخ في نيجيريا، التي يتزعم رئيسها فكرة التدخل العسكري، رفض طلب الرئيس في هذا الشأن.
2- صعوبة تمويل القوات العسكرية المُشتركة: حيث إن صعوبة تمويل التدخل العسكري لقوات “إيكوموج”، والتزام الدول أعضاء إيكواس بحصص كل منها في هذا التمويل، تبدو بوضوح عبر خبرة تدخل المجموعة من قبل، كما في حالات ليبيريا وغينيا بيساو، في تسعينيات القرن العشرين الماضي.
ففي أزمة ليبيريا، كمثال، كان الاتفاق يستند إلى أن تقوم دول إيكواس بتمويل القوات المشاركة خلال الشهر الأول؛ إلا أنّ بعض هذه الدول لم تلتزم بدفع حصتها، على أساس أنها لا تؤيد عملية التدخل. وقد حدث الأمر نفسه، في سيراليون، حيث تحملت نيجيريا معظم نفقات قوات إيكوموج، رغم أن بروتوكول آلية “منع الصراع”، الذي تبنته إيكواس في عام 1999، كان قد تضمن النص على طرق التمويل وكيفيتها، وأهمها “إسهامات الدول أعضاء المجموعة”.
3- التوترات الإثنية والقبلية العابرة لحدود النيجر مع الجوار: إذ إن التدخل العسكري سيُتيح الفرصة لتفاقم التوترات الإثنية والقبلية، على جانبي الحدود بين النيجر ودول جوارها الجغرافي عموماً، وبينها وبين نيجيريا بشكل خاص، حيث تشترك “سبع” من الولايات في شمال نيجيريا مع جنوب النيجر، في العديد من الروابط الاجتماعية، إثنياً وقبلياً، فضلاً عن التشارك في العادات الثقافية والدينية؛ بل إن لغة “الهوسا” تستخدم كأحد الروابط المشتركة بين البلدين، على جانبي حدودهما المشتركة.
وبالطبع، لن يتوقف الأمر عند حدود تفاقم التوترات الإثنية والقبلية العابرة للحدود؛ ولكن سوف يُتيح التدخل العسكري نوعاً من الفوضى الأمنية، التي يمكن استغلالها من جانب التنظيمات الإرهابية، بما يُمثل تداعيات سلبية على منطقة الساحل الأفريقي. هذا بالإضافة إلى احتمالات زعزعة الاستقرار الإقليمي، وزيادة تهديدات البنى التحتية الاستراتيجية الخاصة بمشروعات الطاقة في كل من النيجر ونيجيريا بصفة خاصة.
4- التمدد الروسي وغموض الموقف الأمريكي: حيث لا يزال الموقف الأمريكي، من الانقلاب العسكري في النيجر وتداعياته، يتسم بالغموض وعدم الوضوح، هذا رغم أن الولايات المتحدة تمتلك داخل النيجر أكبر قاعدة أمريكية للطائرات المُسيرة خارج البلاد، ورغم أن هذه القاعدة تُمثل ركيزة أساسية لعمليات واشنطن الاستخباراتية في قارة أفريقيا.
وربما يكون أحد عوامل الحذر الأمريكي من اتخاذ موقف متشدد هو التخوف من التقارب مع روسيا من جانب المجلس العسكري في نيامي، بالتزامن مع تنامي حالة السخط في داخل النيجر من فرنسا والغرب عموماً، وهو ما ظهر في مُطالبة بعض المتظاهرين المؤيدين للانقلاب بضرورة طلب الدعم من روسيا. بل إنّ ساليفو مودي الرجل الثاني في المجلس العسكري الحاكم في النيجر، كان قد قام بزيارة إلى مالي، في 2 أغسطس الجاري، أجرى خلالها مشاورات مع المجلس العسكري الحاكم في باماكو، بخصوص إمكانية طلب الدعم من مجموعة “فاغنر” الروسية، في حال أي تدخل عسكري من إيكواس.
تأثيرات سلبية
في هذا السياق، يُمكن القول إن التشدد الذي بدا عليه موقف مجموعة إيكواس، بخصوص الانقلاب الحاصل في النيجر، وتهديد المجموعة بالتدخل العسكري لإنهاء الانقلاب بالقوة، وإن كانت له دوافعه؛ إلا أنه في الوقت نفسه تواجهه مجموعة من المعوقات التي لا يُمكن تجاهل تداعياتها وتأثيراتها السلبية. إذ سيكون للتدخل العسكري في النيجر ارتدادات خطيرة على دول المنطقة ككل، فضلاً عن مخاطر السيولة الأمنية، وتنامي نفوذ التنظيمات الإرهابية، بل واحتمال أن تتحول المنطقة إلى مسرح لحرب إقليمية، تزيد من عدم الاستقرار الإقليمي.
وما بين دوافع التدخل عسكرياً في النيجر، وبين أسباب التراجع، تنتاب المشهد عموماً حالة من التردد وعدم اليقين، خاصة في ظل انقسام دول المجموعة حول الموقف من التدخل.