حسابات معقّدة:
دوافع تبادل الرسائل والرسائل المضادة بين أنقرة وواشنطن

حسابات معقّدة:

دوافع تبادل الرسائل والرسائل المضادة بين أنقرة وواشنطن



على الرغم من المناقشات الجارية بين المسؤولين في أنقرة وواشنطن بشأن عقد اجتماع بين الرئيس الأمريكي بايدن، ونظيره التركي أردوغان، على هامش فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الجاري؛ إلا أن التوتر بين البلدين عاد للذروة خلال المرحلة الراهنة، مع تلويح الرئيس التركي في 9 سبتمبر الجاري بالانفتاح على قوى دولية أخرى منها موسكو في مجال التسليح، كما أبدت أنقرة قلقاً شديداً حيال مستقبل العلاقة مع واشنطن في ظل اتساع نطاق الخلافات بشأن قضايا الداخل التركي، إضافة إلى الملفات الإقليمية المختلفة، وعلى رأسها التنديد بالسياسة التركية تجاه الأكراد شمال سوريا، والسلوك التركي تجاه اليونان في بحر إيجه. وسعت أنقرة وواشنطن خلال الأيام الماضية إلى توجيه رسائل ورسائل مضادة من أجل ممارسة ضغوط متبادَلة لتعزيز مواقف كل منهما.

مؤشرات كاشفة

دخلت العلاقة بين أنقرة وواشنطن مناخ الشحن في التوقيت الحالي، حيث أكد الرئيس التركي، في 9 سبتمبر الجاري، قدرة بلاده على تأمين مقاتلات حربية من دول أخرى بينها روسيا وبريطانيا وفرنسا حال تعذر حصولها على إف-16 الأمريكية، وأضاف في تصريحات له: “آمل ألا تقودنا الولايات المتحدة إلى سُبل أخرى بخصوص ملف مقاتلات F-16، فهي ليست المكان الوحيد الذي يبيع طائرات حربية”.

ولم يكن هذا التوتر بشأن التعاون العسكري بين البلدين هو الأول من نوعه، فقد سبق ذلك إعلان الرئيس أردوغان في 21 أكتوبر الماضي عن أن بلاده سوف تستعيد 1.4 مليار دولار دفعتها لشراء طائرات إف-35 التي منعت من الحصول عليها.

وقد تصاعد منحنى التوتر مؤخراً، مع استمرار توبيخ إدارة بايدن الممارسات السلطوية للرئيس “أردوغان” في الداخل التركي، وانتقاد سعيه لتأميم المجال العام وتقييد الحريات. وأعلنت واشنطن، في 29 أغسطس الماضي، عن قلقها من الرقابة التركية على حرية التعبير، وذلك على خلفية اعتقال نجمة البوب التركية “جولشان” بسبب تعليقات لها على مدارس “إمام وخطيب” وصفتها الحكومة التركية بأنها “تحريض على الكراهية”. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، في تصريحات بتاريخ 27 أغسطس الماضي، إن “الولايات المتحدة لا تزال تشعر بالقلق من الجهود واسعة النطاق في تركيا لتقييد حرية التعبير عن طريق الرقابة والمضايقات القضائية”.

بالتوازي مع ما سبق، فإن العلاقات التركية الأمريكية باتت مرشحة للتراجع بعد تحذير وزارة الخزانة الأمريكية، في 25 أغسطس الفائت، للشركات والبنوك التركية من مغبة التعرض لعقوبات بسبب التقارب مع روسيا ومنحها فرصة للالتفاف على العقوبات الغربية. ويتزايد قلق واشنطن من استخدام الحكومة والشركات الروسية تركيا للالتفاف على العقوبات الغربية عليها بسبب حربها في أوكرانيا. ويشار إلى أن قطاعات واسعة من النخبة الأمريكية باتت تعتبر أنقرة حليفاً غير موثوق به، فعلى سبيل المثال وضع الكونجرس الأمريكي في يوليو الماضي شرطاً لتزويد تركيا بمقاتلات “إف-16” يتضمن ضمانات بعدم استخدام الطائرات لاقتحام المجال الجوي اليوناني، كما تبنّى مجلس النواب الأمريكي تعديلاً لميزانية الدفاع يقيّد تزويد تركيا بالمقاتلات الحربية، وصوت 244 عضواً لصالح التعديل، في حين رفضه 179 نائباً.

دوافع متنوعة

ثمة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء تصاعد الرسائل والرسائل المضادة بين أنقرة وواشنطن في المرحلة الحالية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- الاعتراض الأمريكي على التقارب التركي الروسي: لا ينفصل التوتر بين تركيا والولايات المتحدة عن سعي الأولى لتعزيز التقارب مع موسكو، وكان بارزاً هنا موافقة فلاديمير بوتين عشية لقائه نظيره التركي في سوتشي، في 5 أغسطس الماضي، على بيع جزء من الغاز الروسي لتركيا بالروبل. من جهته، أظهر الرئيس التركي خلال الأيام الماضية انحيازاً كبيراً لموسكو في مواجهة أوروبا، حيث اتّهم الغرب بـ”استفزاز” روسيا عبر الإصرار على تزويد أوكرانيا بالأسلحة، كما ألقى باللوم في أزمة الطاقة التي تواجهها أوروبا على العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو.

وقد عملت أنقرة وموسكو خلال الشهور القليلة الماضية على تطوير فرص التعاون الاقتصادي، وذلك من خلال الربط التجاري بين البلدين، وتحويل تركيا إلى نقطة عبور للصادرات الروسية من الطاقة والغذاء، ناهيك عن اتجاه أنقرة إلى دعم فرص التعاون العسكري مع روسيا بعد استبعاد واشنطن لتركيا من برنامج إنتاج مقاتلات F35، ومعارضة الكونجرس إتمام صفقة مقاتلات F16.

ولوح الرئيس التركي مؤخراً بالرد على ذلك بالاتجاه نحو شراء بدائل من مصادر أخرى، منها روسيا، وهو ما أثار قلق واشنطن، خاصة أن أنقرة سبق وهددت في وقت سابق بشراء مقاتلات إس يو-57 الروسية إذا استمر الصلف الأمريكي. وفي العام الماضي، أكدت الهيئة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني أن موسكو مستعدة للمفاوضات مع أنقرة بشأن توريد مقاتلات من الجيل الخامس من طراز سو-57 ومن الجيل الرابع سو-35 وكذلك للتعاون في تطوير أحدث الطائرات المقاتلة التركية.

2- دعم واشنطن لليونان في مواجهة تركيا: مع تصاعد التوتر بين أنقرة وأثينا بسبب اتهام الأولى للثانية بتسليح جزر بحر إيجه، ناهيك عن استمرار استهداف اليونان للمقاتلات التركية فوق بحر إيجه، أبدت الولايات المتحدة دعماً ملحوظاً لليونان في مواجهة تركيا. وأعلنت الخارجية الأمريكية، في 6 سبتمبر الجاري، أن تحذيرات الرئيس التركي لليونان بشأن النزاعات البحرية “غير مفيدة”. وأضاف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية: “في وقت غزت فيه روسيا مرة أخرى دولة أوروبية ذات سيادة، التصريحات التي يمكن أن تثير خلافات بين الحلفاء في الناتو غير مفيدة”.

الدعم الأمريكي لليونان لم يقتصر على ما سبق، ففي 14 أكتوبر 2021 وقعت الولايات المتحدة واليونان اتفاقاً عسكرياً إضافياً يسمح بتوسيع مساحات التعاون الدفاعي الثنائية، ويمنح القوات الأمريكية استخداماً أوسع للقواعد العسكرية اليونانية، وكذلك يتيح للقوات الأمريكية التدرب والعمل “بقدرة موسعة” في أربع قواعد إضافية باليونان.

على صعيد متصل، استجاب الكونجرس الأمريكي للمخاوف اليونانية بشأن توريد الولايات المتحدة مقاتلات إف-16 لتركيا، ولذلك لا يزال قطاع واسع داخل الكونجرس الأمريكي يعترض على بيع الطائرات لأنقرة. وهنا، يمكن فهم تأكيد الكونجرس مطلع سبتمبر الجاري مخاوفه بشأن تعهد بايدن في قمة حلف شمال الأطلسي في إسبانيا في أغسطس الماضي ببيع عشرات الطائرات المقاتلة من طراز F-16 إلى تركيا.

3- اتساع القضايا الخلافية بين واشنطن وأنقرة تجاه القضايا الإقليمية والدولية: اتسعت مساحات الخلاف بين أنقرة وواشنطن خلال الفترة الماضية حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية، وفي الصدارة منها تهديد تركيا بأنها قد تستخدم حق النقض ضد خطط الناتو لقبول السويد وفنلندا كعضوين في الأشهر المقبلة، وهو سلوك من شأنه أن يُحرج إدارة بايدن التي تعمل على تحشيد الحلفاء لمواجهة روسيا. كما تزايد التوتر بعد حضور الرئيس التركي قمة طهران في 25 يوليو الماضي، وإعلانه حرص بلاده على تعزيز العلاقة مع طهران. وراء ما سبق تزايد التوتر على خلفية معارضة واشنطن التهديدات التركية بشن عملية عسكرية في الشمال السوري ضد المقاتلين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة.

4- المناورات الأمريكية الكردية في المناطق الحدودية الاستراتيجية: في الوقت الذي تسعى فيه تركيا إلى تحشيد المواقف الدولية والإقليمية لتمرير تدخلها العسكري في شمال سوريا لمواجهة خصومها الأكراد، أطلق التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في 7 سبتمبر الجاري، مناورة عسكرية مشتركة للمرة الأولى في منطقة حدودية استراتيجية. وأُقيمت التدريبات العسكرية التي كانت بمثابة رسالة تحذير سياسية وأمنية لتركيا في قرية تابعة لمدينة ديريك القريبة جداً من الحدود السورية التركية العراقية، في أقصى الشمال الشرقي لمحافظة الحسكة السورية. ويشار إلى أن أنقرة انتقدت المناورات، واعتبرتها اصطفافاً أمريكياً إلى جانب عناصر إرهابية.

ضبط التوتر

في الختام، يمكن القول إن هناك تحديات عديدة تواجه مسارات العلاقة بين أنقرة وواشنطن، وقد يتزايد تأثيرها مع التطور الحادث في العلاقة بين موسكو وأنقرة من جهة، واستمرار واشنطن في دعم خصوم تركيا من جهة أخرى. غير أن كثافة التصريحات والتصريحات المضادة بين البلدين في هذا التوقيت لا تعني تدهور العلاقة، خاصة أن ثمة مصالح مشتركة لا تزال تجمع البلدين، لذا قد تدفع براجماتية أردوغان ونظيره الأمريكي نحو انتهاج مرونة لاحتواء الخلافات، وضبط حدود التوتر بالنظر إلى المصالح المعقدة والمتشابكة في عدد من القضايا الحيوية.