تتجه الولايات المتحدة نحو تعزيز حضورها العسكري في منطقة غرب أفريقيا، حيث كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال”، في 4 يناير الجاري، عن سعيها لبناء قواعد للطائرات المسيرة على طول ساحل غرب أفريقيا، في وقت تشهد فيه منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا تحولات سياسية عميقة، حيث تجددت ظاهرة الانقلابات العسكرية وكان آخرها انقلاب النيجر في 26 يوليو الماضي، ولا تزال بعض الدول الأخرى تواجه احتمالات تكرار هذه الظاهرة، بينما تحرص قوى دولية مثل روسيا والصين على استثمار هذه الأوضاع لتعزيز حضورها على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
أسباب عديدة
يمكن تفسير اتجاه واشنطن إلى تبني هذا التوجه في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز الحضور العسكري بالمنطقة: وذلك في ضوء التنافس بين الولايات المتحدة والصين على بناء القواعد العسكرية في المنطقة، خاصة أن الاستراتيجية الأمريكية تركز على ساحل غرب أفريقيا، أي الدول المشاطئة للمحيط الأطلنطي، ومن ثم يرتبط هذا الاهتمام الأمريكي ببعد استراتيجي أوسع هو منافسة الصين في المحيط الأطلنطي، حيث سعت الأخيرة إلى بناء قواعد عسكرية في بعض دول المنطقة، على غرار غينيا الاستوائية، منذ ديسمبر 2021، وهو ما أثار قلق واشنطن التي اعتبرت أن هذه الخطوة ستمنح بكين أول تواجد بحري لها في المحيط الأطلنطي.
2- الترويج لدور المسيرات الأمريكية في مكافحة الإرهاب: خاصة مع تنامي توجّه الدول الأفريقية إلى استيراد أنواع عديدة من المسيرات للاستعانة بها في عمليات مكافحة الإرهاب. وقد كان لافتاً أن بعض القوى الإقليمية سعت إلى بناء مصانع لإنتاج الطائرات في المنطقة. فعلى سبيل المثال، عرضت تركيا، في أول أبريل الماضي، على نيجيريا بناء مصنع لإنتاج الطائرات المسيرة. ومن ثم يمكن القول إن الاستراتيجية الأمريكية ترتبط أيضاً بأبعاد جيواقتصادية تهدف بالأساس إلى زيادة المبيعات العسكرية الأمريكية، والترويج لسلاح الطائرات المسيرة في المنطقة، باعتباره سلاحاً رئيسياً في الحرب ضد الإرهاب.
3- توسيع نطاق التعاون الأمني: وهو ما يكتسب اهتماماً خاصاً من جانب واشنطن في ظل تصاعد حدة التحديات المرتبطة بالتنظيمات الإرهابية، التي صعَّدت من عملياتها في منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا، وتتجه لتمديد أنشطتها في منطقة ساحل غينيا، مما يشير إلى أن دولاً مثل بنين وتوجو وساحل العاج ليست بمنأى عما تتعرض له دول المنطقة ودول الجوار من هجمات إرهابية. فضلاً عن أن منطقة غرب أفريقيا تشهد بشكل عام موجة جديدة من الانقلابات العسكرية التي بدأت تتمدد من مالي لتتوسع في المنطقة، وهو ما يشكل تهديداً للمصالح السياسية والأمريكية في المنطقة، ومن ثم، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى تأمين مصالحها وتعزيز علاقاتها على المستوى السياسي مع الأنظمة الجديدة، ولا سيما في ظل المحاولات الروسية المستمرة لاستقطاب القادة الجدد، على غرار ما حدث في مالي وبوركينافاسو والنيجر.
انعكاسات محتملة
من المتوقع أن تثير هذه السياسة الأمريكية ردود فعل محلية وإقليمية ودولية من جانب القوى والتيارات المناوئة للوجود الأمريكي في المنطقة، وذلك على النحو التالي:
1- زيادة التحركات العسكرية الصينية في المنطقة: ليس بخافٍ أن الصين أعربت عن اهتمامها ببناء قواعد عسكرية على طول سواحل أفريقيا بشكل عام، وغرب أفريقيا بشكل خاص، وقد أثار ذلك مخاوف أمريكية من تزايد الوجود العسكري الصيني في المنطقة. ومن ثمّ فمن شأن اتجاه الولايات المتحدة إلى بناء قواعد للطائرات المسيرة في المنطقة أن يدفع الصين بدورها إلى تعزيز تحركاتها لبناء قواعد عسكرية في المنطقة، بجانب تكثيف جهودها لزيادة مبيعاتها من الطائرات المسيرة إلى بعض دولها.
2- تصاعد المحاولات الروسية لتعزيز الدور: تعمل روسيا على زيادة حضورها العسكري والاقتصادي في منطقة غرب أفريقيا، ولا تخفي تطلعاتها لتعزيز استثماراتها وزيادة نشاط شركاتها في المنطقة، ولا سيما في قطاع المناجم واستخراج اليورانيوم. ومن المعلوم أن واشنطن تحتفظ بقاعدة عسكرية للمسيرات في النيجر، التي تسعى موسكو إلى إقامة علاقات عسكرية واقتصادية مع قادتها الجدد بعد انقلاب 26 يوليو الماضي، الأمر الذي دفع واشنطن إلى تبنّي موقف براجماتي من هذا الانقلاب، ومن ثم العمل على تعزيز علاقاتها مع القادة الجدد، وذلك لمنع موسكو من الانفراد بالنفوذ في النيجر، وعلى المنوال نفسه تتحرك واشنطن في دول الجوار (مالي وبوركينافاسو)، وخاصة بعد تراجع النفوذ الفرنسي فيها. لذلك، من المتوقع أن تعمل موسكو بمختلف الأدوات السياسية والأمنية والإعلامية على مناهضة النفوذ الأمريكي في المنطقة.
3- استمرار الانتقادات الأفريقية للسياسة الأمريكية: استهدفت الاستراتيجية الأمريكية خلال الأعوام الأخيرة، وتحديداً منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير 2021، تقليص عملياتها في مكافحة الإرهاب، ومن ثمّ اعتمدت على الدور الفرنسي في هذا الملف في منطقة الساحل الأفريقي، مع تقديم المساعدات العسكرية واللوجستية والاستخباراتية لدول المنطقة، لدعم جهودها في مكافحة الإرهاب.
وقد نفذت القيادة العسكرية في أفريقيا عمليات محدودة لمكافحة الإرهاب في المنطقة، وهو ما عرَّضها للكثير من الانتقادات من جانب العديد من التيارات السياسية الأفريقية التي كانت تنتظر دوراً أكبر وفاعلاً من جانب الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. ومن ناحية أخرى، فإن اتجاه واشنطن إلى بناء قواعد للمسيرات الأمريكية لا يتوقع معه انخفاض حدة الانتقادات الأفريقية للوجود العسكري الأمريكي، بل على العكس فإن حرص واشنطن إلى تعزيز علاقاتها مع القادة العسكريين وموقفها من الانقلابات العسكرية المتنامية في المنطقة يجعلها عرضة لانتقادات متزايدة من جانب بعض التيارات، حتى في الداخل الأمريكي نفسه، خاصة أن الخطاب الأمريكي غالباً ما يدعو إلى احترام الديمقراطية ودعم الحكومات المدنية المنتخبة ويرفض تدخل المؤسسات العسكرية في المجال السياسي والسيطرة على السلطة، وهو ما تتجاهله الآن السياسة الأمريكية في المنطقة، على نحو يبدو جلياً في التعامل مع التطورات التي شهدتها كل من النيجر ومالي وبوركينافاسو في الأعوام الماضية.
ختاماً، يمكن القول إن التحولات السياسية والتطورات الأمنية الطارئة على المشهدين السياسي والأمني في منطقة غرب أفريقيا، ولا سيما تصاعد موجة الانقلابات العسكرية، والانسحاب الفرنسي من منطقة الساحل الأفريقي؛ قد عززت من اهتمام واشنطن بتبني سياسة جديدة لتعزيز حضورها العسكري في المنطقة، ومن ثمّ بدأت في العمل على بناء قواعد للطائرات المسيرة على طول ساحل غرب أفريقيا. ومع ذلك، فإن هذه المهمة قد تواجه صعوبات عديدة، لا سيما في ظل حرص خصوم واشنطن على مزاحمتها في هذا الإطار، بعد أن تعرضت المنطقة لحالة من الفراغ الأمني في أعقاب الانسحاب الفرنسي.