تتزايد فرص تهدئة حدة التوتر بشكل لافت بين الحكومة العراقية وإقليم كردستان حول القضايا الخلافية العالقة، على نحو بدا واضحاً في إعلان رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، في 13 مارس الجاري، التوصل إلى اتفاق “شامل” لتلك القضايا بين بغداد وأربيل، يتضمن تشكيل لجنة عليا، يرتكز دورها على رفع توصيات إلى رئيس الوزراء الاتحادي حال وجود أي خلافات بين الطرفين، مضيفاً أنه “لأول مرة يتم إيداع الإيرادات الكلية للنفط المنتج في الإقليم بحساب مصرفي تودع فيه يخضع للإدارة الاتحادية”.
وقد جاءت تصريحات السوداني قبل زيارته لإقليم كردستان في 14 مارس الجاري، وبعد نحو شهر ونصف من زيارة وفد من حكومة الإقليم لبغداد في يناير الماضي، وهي الزيارة التي أسفرت عن تحقيق اختراق نوعي في القضايا والملفات العالقة بين حكومة الإقليم والسلطة المركزية في بغداد، بشكل أفسح المجال أمام قطع شوط معتبر على صعيد تحقيق التقارب بين الطرفين.
قضايا خلافية
على الرغم من توجه حكومة السوداني واستجابة إقليم كردستان لجهود تعزيز التقارب بين الإقليم والحكومة المركزية، إلا أن القضايا الشائكة لا تزال تمثل رقماً مهماً في تحديد اتجاهات العلاقات فيما بينهما، وخاصة الخلاف الخاص بالموارد النفطية والتصرف فيها، إذ يصر إقليم كردستان على تولي مهمة إبرام عقود البيع للنفط والغاز، وكذلك التفاوض مع الشركات فيما يخص عمليات التنقيب والاستكشاف بشكل منفرد بعيداً عن الحكومة المركزية.
وازداد هذا الملف تعقيداً مع عدم قدرة البرلمان العراقي على حسم قانون النفط والغاز، الذي يراوح مكانه في البرلمان منذ عام 2005 بسبب خلافات سياسية مع القوى الكردية. وينص القانون على أن مسئولية إدارة الحقول النفطية في البلاد يجب أن تكون مناطة بشركة وطنية للنفط، يشرف عليها مجلس اتحادي متخصص بهذا الموضوع، بما يعني أن بغداد هي المسئولة عن النفط في كردستان، وهو ما ترفضه أربيل، وتعتبر أنه إجراء يخالف الدستور.
في المقابل، ثمة ملفات أخرى لا تزال تحتاج إلى التوصل إلى تفاهمات مشتركة بين الطرفين، في الصدارة منها الميزانية المخصصة للإقليم، والتي زادت حدتها بعد اتجاه حكومة بغداد نحو خفض حصة الإقليم في موازنة عام 2018 لتصل إلى نحو 12.6% فقط بدلاً من 17%، وهو ما فرض ارتدادات سلبية قلصت من قدرة أربيل على تلبية احتياجاتها، وأهمها رواتب موظفي الإقليم. كما لا يزال الخلاف قائماً بين الجانبين فيما يخص التنسيق الأمني بالمناطق المتنازع عليها. ففي الوقت الذي تُصر فيه الحكومة الاتحادية على تبعية بعض المناطق القريبة من الإقليم لسيادتها، تُطالب أربيل بضم العديد منها، خاصة المناطق المتاخمة لها ومنها سنجار وزمار ومخمور، لا سيما وأن هذه المناطق بها العديد من مكامن الطاقة.
اعتبارات رئيسية
يمكن القول إن ثمة العديد من الاعتبارات التي تدفع بغداد وأربيل نحو تعزيز فرص تجاوز القضايا الخلافية في التوقيت الحالي أو على الأقل تحييد التداعيات التي تفرضها على مصالح الطرفين، والبناء على التطور الإيجابي اللافت بينهما خلال الشهور الماضية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- منع عودة تنظيم “داعش”: على الرغم من أن العراق قطعت شوطاً كبيراً على صعيد مكافحة تنظيم “داعش”، إلا أن الخلايا النائمة التابعة للتنظيم لا تزال تمثل مصدر تهديد للبلاد، على نحو بدا جلياً في مقتل مواطن تركماني، في 12 مارس الجاري، على يد عناصر موالية للتنظيم. وهنا، يمكن تفسير استمرار الجيش العراقي في القيام بعمليات عسكرية نوعية، آخرها في 19 فبراير الفائت، ضد مجموعات التنظيم في الأنبار ونينوى والموصل وكركوك وديالى.
وفي هذا السياق، فإن تعزيز التعاون الاستراتيجي بين بغداد وأربيل، ودعم فرص تفكيك القضايا الخلافية، قد ينعكس على محاصرة تنظيم “داعش”، وتقليص قدرته على استعادة نشاطه أو العودة إلى السيطرة على بعض المناطق التي سبق أن انسحب منها بفعل الضربات العسكرية التي تعرض لها.
2- دفع الانتخابات المحلية في الإقليم: لا ينفصل الإعلان عن حدوث تطور إيجابي في العلاقة بين بغداد وأربيل، وتنامي فرص حل القضايا المتشابكة بينهما، عن رغبة إدارة إقليم كردستان في توفير بيئة مواتية لإنجاز الانتخابات المحلية المقرر لها أكتوبر المقبل. وكانت رئاسة برلمان إقليم كردستان قد طالبت، في 14 مارس الجاري، جميع الأطراف والكتل السياسية بالإسراع في التوصل إلى تفاهم مشترك من أجل تسريع عملية الاستعداد لإجراء الانتخابات هذا العام. لذلك، فإن توفير أجواء إيجابية مع الحكومة الاتحادية قد يدفع نحو إنجاز العملية الانتخابية رغم أن بعض المراقبين يشككون في إمكانية حدوث ذلك.
3- تعزيز الموقع السياسي للسوداني: اقتربت حكومة محمد شياع السوداني من تجاوز الأشهر الستة الأولى منذ توليه مقاليد منصبه، ومع ذلك فإن ثمة خلافات داخلية معقدة لا تزال تؤثر على صورة السوداني وحكومته في الوعي الجمعي العراقي، بدءاً من استمرار الخلاف داخل الإطار التنسيقي بين القوى الشيعية، والجدل بشأن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، وتزايد قضايا الفساد، والتدهور الحادث في سعر العملة المحلية. وفي هذا السياق، فإن تهدئة التوتر مع أربيل، والوصول إلى تفاهمات معها بشأن بعض القضايا الخلافية، قد يساهم في تخفيف الضغط السياسي والشعبي الذي تتعرض له حكومة السوداني، فضلاً عن أن تقليص حدة المواقف الكردية تجاه العلاقة مع بغداد يزيد من الرصيد السياسي للسوداني، ويوسع من هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمامه في مواجهة خصومه وشركائه في الحكومة.
4- مواجهة الضغوط الإقليمية المستمرة: يبدو أن رئيس الوزراء العراقي يراهن على استثمار الورقة الكردية في تحييد الضغوط الخارجية التي تتعرض لها العراق، ومحاصرة نفوذ القوى الإقليمية التي تمتلك أذرعاً محلية في الداخل العراقي، وخاصة إيران، وهو ما ظهر في سعي السوداني نحو تحجيم مليشيا الحشد الشعبي ومقاومة الضغوط التي تمارسها القوى السياسية الموالية لإيران في مقابل انتهاج سياسة خارجية أكثر توازناً على المستويين الإقليمي والدولي.
دعم التقارب
ختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من جهود السوداني للتقارب مع أربيل، وقدرة الاتفاق الأخير الموقّع بين حكومة السوداني وإقليم كردستان على توفير مناخ مواتٍ لعودة الهدوء بين الطرفين، وطرح حلول مغايرة للقضايا الخلافية؛ إلا أنه لا توجد ضمانة دستورية لاستمرار التوافقات التي توصلت إليها حكومة السوداني مع الإقليم، الأمر الذي يعني استمرار مسببات القضايا الخلافية. ولذلك، فإنّ الاتفاق الأخير الموقّع ما لم يتم ترجمته إلى نص قانوني ملزم، فإن عودة الخلافات تظل قائمة، على نحو يعني أن ما حدث لن يتعدى في هذه الحالة كونه مسكنات لتقليص تداعيات أزمة مستعصية.