وافق البرلمان التركي، في 21 يونيو الجاري، على المذكرة الرئاسية بشأن تمديد مهام القوات العاملة في ليبيا 18 شهراً، اعتباراً من 2 يوليو القادم. وتزامن قرار البرلمان التركي مع تصاعد حدة الأزمة الليبية على خلفية تعثر المسار الدستوري، ونهاية العمل بخارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي، ناهيك عن فشل البرلمان والمجلس الأعلى للدولة في إقرار قاعدة دستورية تُجرَى على أساسها الانتخابات بشقيها الرئاسي والبرلماني.
سياقات مغايرة
تزامن قرار التمديد للقوات التركية مع تطورات غير مسبوقة على الساحة الليبية، يمكن بيانها كالتالي:
1- الانقسام الليبي بشأن الوجود التركي: جاء قرار التمديد للقوات التركية، في ظل تصاعد حدة الانقسام بين النخب الليبية بشأن شرعية الوجود التركي على الأراضي الليبية. ففي الوقت الذي تؤيد فيه حكومة باشاغا المعين من قبل البرلمان، ضرورة إخراج كل المقاتلين الأجانب والمرتزقة من البلاد؛ فإن حكومة الدبيبة في المقابل تدعم بقاء العناصر التركية، وتعتبر وجودها “شرعياً” كونه جاء بناء على طلب الحكومة السابقة. بالتوازي مع ما سبق، فإن اجتماعات لجنة “5+5” العسكرية بين مكونات وأطراف المشهد الليبي، كانت قد دعت في اجتماعاتها على مدار الشهور التي خلت إلى ضرورة إنهاء الوجود التركي في ليبيا.
2- تزايد ضغط المؤسسات الدولية والإقليمية لإخراج القوات التركية: اتهمت القوى الدولية والإقليمية تركيا بتأجيج النزاع بين الأطراف الليبية، ونشر الفوضى. وهنا، يمكن فهم إعراب مجلس جامعة الدول العربية، في مارس الماضي، عن القلق من الانتهاكات التركية المُتكررة لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بفرض حظر السلاح على ليبيا. لذلك أصدر مجلس الأمن في 3 يونيو الجاري قراراً جديداً، بالتمديد عاماً إضافياً لمهمة العملية البحرية الأوروبية “إيوناف فور ميد إيريني”، والمنوط بها تفتيش السفن المشتبه في انتهاكها الحظر قبالة ليبيا.
3- تحركات غربية ضد الوجود الأجنبي: دعت السفارة الأمريكية في ليبيا، في 25 يناير الماضي، إلى ضرورة دعم عملية التسوية السياسية في ليبيا، وأضافت -في بيان لها- ضرورة الالتزامبقراري مجلس الأمن الدولي رقم 2570 ورقم 2571، وكذلك دعم الانسحاب الفوري لجميع القوات الأجنبية والمرتزقة. كما أكّد السفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نوريلاند، في مارس الماضي، على ضرورة إنهاء الوجود الأجنبي في ليبيا. ومن جهتها، أصدرت بعثة الاتحاد الأوروبي، في 19 مايو الماضي، بياناً بالاشتراك مع البعثات الدبلوماسية للدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبي لدى ليبيا، تدعو فيه إلى ضرورة التهدئة، لأن العنف لن يؤدي سوى إلى تهديد وحدة ليبيا واستقرارها وازدهارها. كما حث البيان على ضرورة إخراج كافة العناصر المسلحة من ليبيا.
4- عودة الاشتباكات الميدانية بين أطراف الأزمة الليبية: تزامن قرار التمديد للقوات التركية في ليبيا مع عودة الاشتباكات الداخلية بين أطراف الأزمة الليبية، حيث تصاعد التوتر في 18 مايو الماضي بين الحكومة الليبية المكلفة من البرلمان، برئاسة فتحي باشاغا، ورئيس حكومة الوفاق عبدالحميد الدبيبة المنتهىة ولايته. ووصلت الاشتباكات العسكرية إلى الذروة في 12 يونيو الجاري، بعد اندلاع مواجهات عسكرية بين مليشيا “جهاز دعم الاستقرار” الذي يقوده عبدالغني الككلي الموالي لحكومة الدبيبة، و”كتيبة النواصي” الداعمة لحكومة باشاغا.
اعتبارات متنوعة
ثمّة اعتبارات متنوعة تدفع أنقرة نحو تجديد مهام قواتها العسكرية على الأراضي الليبية، يمكن بيانها على النحو التالي:
1- تعزيز المكانة الإقليمية لتركيا: لا ينفصل قرار البرلمان التركي بالتجديد للقوات العسكرية التركية على الأراضي الليبية عن الرغبة في تعزيز المكانة التركية، من خلال توظيف الانشغال الدولي بالأزمة الأوكرانية. ويشار إلى أن تركيا تجاهلت الدعوات الإقليمية والدولية بشأن سحب قواتها من ليبيا، وتسعى إلى التنسيق مع القوات التابعة لرئيس حكومة الوفاق عبدالحميد الدبيبة لشن عملية عسكرية ضد عناصر فاجنر الروسية المتمركزين شرق البلاد وجنوبها. كما تستهدف تركيا، بحسب نص مذكرة التجديد للقوات التركية في ليبيا، حماية المصالح الوطنية في إطار القانون الدولي، واتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة ضدّ المخاطر الأمنية التي مصدرها جماعات مناهضة للوجود التركي في ليبيا.
2- التأثير على مقاربات الخصوم: تسعى تركيا إلى استثمار وجودها العسكري في ليبيا للتأثير على مقاربات خصومها في الساحة الليبية، وكذلك توظيف هذا الوجود في بناء صفقات مع القوى الدولية المنخرطة في الصراع الليبي، وبما يضمن تأمين المصالح التركية في المشهد الليبي. إذ إن القوى الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة، تعتبر أن خروج القوات الأجنبية، ومنها التركية، أولوية. وفي مقابل ذلك، فإن أنقرة تستهدف كذلك توظيف حضورها في ليبيا لموازنة الضغوط الأوروبية عليها في عدد من القضايا الخلافية، وفي الصدارة منها قضية اللاجئين، ورفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن المعارضة الأوروبية لعمليات التنقيب التركية شرق المتوسط. بالتوازي مع ما سبق، فإن أنقرة تعي أن ثمة ملفات خلافية لا تزال تمثل تحدياً أمام تطور العلاقة مع القاهرة. لذا، فإن ثمة قناعة تركية بأهمية الحضور العسكري التركي على الساحة الليبية، وذلك للضغط على القاهرة التي تعتبر ليبيا عمقاً استراتيجياً، ومسألة أمن قومي للدولة المصرية.
3- تدفق شرايين جديدة في الاقتصاد التركي: تهدف تركيا إلى استثمار وجودها في ليبيا للمساعدة في التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تمر بها أنقرة، عبر تعزيز العوائد المالية لتدفق الصادرات التركية إلى ليبيا، حيث إن الحكومة التركية تسعى إلى زيادة صادراتها إلى ليبيا من الملابس والحبوب والبقول والبذور الزيتية ومنتجاتها والأثاث المنزلي وغيرها، بعد أن بلغت 456,7 مليون دولار خلال شهري يناير وفبراير 2022. ويشار إلى أن حجم المبادلات التجارية بين البلدين وصل بنهاية العام 2021 إلى نحو 2,3 مليار دولار، ويطمح البلدان في الوصول به إلى نحو 10 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
في المقابل، فإن ليبيا الغنية بموارد الطاقة تمثل أولوية اقتصادية لتركيا، خاصة مع تصاعد الاكتشافات النفطية قبالة سواحل ليبيا شرق المتوسط مقابل تعثر التحركات التركية في المنطقة للتنقيب عن مكامن الغاز والطاقة. كما يكشف تجديد أنقرة لبقاء العناصر العسكرية التركية في ليبيا عن رغبة الحكومة التركية في توفير مناخ آمن لعودة الشركات التركية إلى الأسواق الليبية، فضلاً عن استئناف مشاريع إعادة الإعمار التي تقوم بها الشركات التركية، وظهر ذلك -على سبيل المثال- في دعوة رئيس مجلس إدارة الشركة العامة للكهرباء وئام العبدلي عشية لقائه مع السفير التركي لدى ليبيا في 7 أبريل الماضي الشركات التركية لاستكمال مشاريعها في قطاع الطاقة الليبي.
4- تحقيق انتصار انتخابي لحكومة العدالة والتنمية: يمثل قرار البرلمان التركي بالتجديد للعناصر العسكرية التركية على الأراضي الليبية محاولة من حكومة العدالة والتنمية لتعويض التراجع الحادث في شعبية الرئيس التركي، وتآكل الرصيد التقليدي للقواعد الانتخابية للحزب الحاكم، حيث كشفت استطلاعات الرأى عن تقدم ملحوظ للمعارضة على حساب الرئيس التركي الذي أعلن مؤخراً عن ترشحه لرئاسيات 2023. لكن في ظل تراجع موقع الحزب التركي الحاكم على خارطة الداخل التركي، والفشل في معالجة الاحتقانات المعيشية، واستمرار التدهور في سعر صرف العملة التركية (الليرة) أمام الدولار، يبقى من المهم تحقيق انتصار خارجي يمكن من خلاله تعويض التراجع الداخلي. وفي هذا السياق، فإن قرار التمديد للقوات التركية في ليبيا في هذا التوقيت لا ينفصل عن هذا الهدف.