خلال جولتها في منطقة شرق أفريقيا، وقبل زيارة كينيا، أكدت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، في بيان لها، في 24 يناير الجاري، أنه يجب “جلب الجنرالين البرهان وحميدتي إلى طاولة المفاوضات، حتى لا يجرّا السودانيين عميقاً إلى الهاوية”. وأشارت بيربوك إلى أنّه “يتعين علينا زيادة الضغط على الجانبين، من خلال العقوبات، ومحاسبتهما على انتهاكاتهما بحق السكان المدنيين”.
واللافت أنّ الاهتمام الألماني بالأزمة السودانية يستند إلى عددٍ من الدوافع، من أهمها: المحاولة الألمانية لضمان عدم انتقال الصراع العسكري إلى المحيط الإقليمي والجغرافي للسودان، وتقليص احتمالات التدخل الروسي، وتحييد مخاطر تفاقم الصراع، وتعزيز الحضور الألماني على المستوى الدولي.
وكما يبدو، ففي إطار الاهتمام الألماني بالسودان، ومنطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، الذي تعكسه الرؤية الاستراتيجية المُعلنة من جانب برلين قبل عامين، يأتي الدعم الألماني لخارطة الطريق التي تبنتها قمة “إيجاد” الاستثنائية، في أوغندا، والتي أعطت مهلة لطرفى الأزمة للجلوس إلى طاولة المفاوضات، من أجل الوصول إلى تسوية لها.
عوامل رئيسية
تتمثل أبرز العوامل الدافعة لمحاولة ألمانيا الانخراط في جهود تسوية الأزمة السودانية في:
1- ضمان عدم تمدد الصراع: يأتي الاهتمام الأوروبي، والألماني، ليتركز على محاولة ضمان عدم انتقال الصراع العسكري في السودان، أو تمدده عبر الحدود، إلى دول الجوار الجغرافي للسودان، خاصة دولتي إثيوبيا وإريتريا. إذ، في هذه الحالة يمكن أن يفرض حالة من عدم الاستقرار، والفوضى، في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. هذا، فضلاً عن احتمال استغلال التنظيمات الإرهابية عدم الاستقرار لتهديد الدول الأوروبية ومصالحها، خاصة الاقتصادية.
2- تقليص احتمالات التدخل الروسي: يمكن أن تساهم الحرب في السودان، وفقاً لرؤية برلين، في فتح جبهة جديدة ضد أوروبا والدول الغربية لصالح روسيا؛ سواء عبر التحكم في ملف الهجرة غير الشرعية، أو من خلال احتمال بناء روسيا قاعدة بحرية في بورتسودان، أو على الأقل الحصول على تسهيلات سودانية بهذا الخصوص، من حيث إن المحاولة الروسية هذه تأتي في اتجاه السعى لتعزيز النفوذ بالقرب من أهم الممرات البحرية لنقل شحنات الطاقة إلى أوروبا.
من جهة أخرى، تبدو المحاولة الألمانية في التركيز على الاستقرار في السودان، كـ”جزء” من الحفاظ على المشروعات التي يقوم الاتحاد الأوروبي بتنفيذها في الداخل السوداني. وبحسب بعض التقديرات، يمتلك الاتحاد حوالي 85 برنامجاً جارياً ومشروعاً استثمارياً في السودان، بقيمة تقرب من 480 مليون يورو؛ ويتم تمويلها عبر صندوق التنمية الأوروبي (EDF)، الذي يُمثل الأداة الرئيسية لمساعدة الاتحاد الأوروبي من أجل التعاون الإنمائي في أفريقيا.
3- تحييد مخاطر تفاقم الصراع: يأتي ملف الهجرة غير الشرعية، في بؤرة التركيز الألماني على ضرورة حل الصراع السوداني. فمن خلال ارتباط الأمن الإقليمي في القرن الأفريقي، وشرق أفريقيا، بمنطقة الشمال الأفريقي؛ وبالتالي، بالأمن الأوروبي بشكل عام، وجنوب أوروبا بشكل أكثر تحديداً؛ تأتي الخشية الألمانية من احتمال أن يُساهم الصراع العسكري في السودان، في موجات من اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا، مثلما ساهم في انتقال هؤلاء المهاجرين إلى الدول المجاورة للسودان.
ولأن أوروبا مثقلة في الأساس بعدد غير قليل من المهاجرين العراقيين والسوريين؛ لذا، تبدي ألمانيا مخاوف من إمكانية أن يساهم الصراع في السودان، في زيادة مخاطر الهجرة غير الشرعية، وتداعياتها السلبية على أوروبا وعلى ألمانيا. ومن ثمّ يأتي التركيز الألماني على محاولة حل أزمة السودان بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، سواء بشكل مباشر أو مع الدول المجاورة جغرافياً للسودان، خاصة تلك التي تمتلك نوعاً من النفوذ بالنسبة إلى الأطراف المتصارعة، مثل كينيا وجنوب السودان.
4- تعزيز الحضور الدولي لألمانيا: في ظل تراجع قدرة كثير من الدول الأوروبية، مثل فرنسا وإيطاليا، على الانخراط في صراعات شرق أفريقيا، والقرن الأفريقي، لكونها صراعات متجددة وطويلة، وتستنزف أموالاً طائلة تحتاجها هذه الدول في تأمين اقتصاداتها في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية؛ تحاول ألمانيا التحرك، بشكل يبدو فردياً، من أجل الوساطة في الأزمة السودانية.
وهنا، فإنفرصة ألمانيا في الوساطة هي بالتأكيد أكبر من كل من إيطاليا وفرنسا، ودول أوروبية كثيرة؛ خاصة أنها تحاول استثمار خبراتها في الانخراط في جهود تسوية الأزمة الليبية، عبر برلين 1 وبرلين 2، لدعم تحركها نحو الوساطة في الأزمة السودانية.
5- دعم خارطة طريق “إيجاد”: يبدو مثل هذا الدعم بوضوح عبر إعلان وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، عقب لقائها الرئيس الكينيي وليام روتو، في 25 يناير الجاري، دعمها لخارطة الطريق التي تبنتها “إيجاد”.
ففي ظل الجهود الرامية لوقف الحرب المستمرة في السودان، ومع اقتراب انتهاء مدة الـ”14″ يوماً التي حددتها قمة “إيجاد” الاستثنائية في أوغندا، في 18 يناير الجاري، لطرفى الأزمة من أجل وقف الحرب، جاءت تصريحات بيربوك، وتأكيدها على أنه “من الواضح أنه يتعين علينا زيادة الضغط على الجانبين (البرهان وحميدتي)، من خلال العقوبات، ومحاسبتهما على انتهاكاتهما بحق السكان المدنيين، والتأثير على مؤيديهما في الخارج”.
6- الاهتمام بالسودان وشرق أفريقيا: وهو ما يبدو جلياً في زيارات المسئولين الألمان إلى المنطقة طوال الأشهر الماضية. ويأتي في هذا الإطار زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز، في 3 مايو الماضي، إلى إثيوبيا وكينيا، وصولاً إلى زيارة وزيرة الخارجية بيربوك إلى المنطقة.
فمنذ إعلانها عن استراتيجية جديدة تجاه أفريقيا، قبل عامين، في ديسمبر عام 2022، كثفت برلين نشاطها في القارة الأفريقية غرباً وجنوباً، إضافة إلى التحرك تجاه الشرق الأفريقي. وعبر هذه الاستراتيجية الألمانية، أعلنت برلين أنها تعتزم التركيز على الاستثمارات في مجالات الطاقة المتجددة، علاوةً على مصادر الطاقة التقليدية.
اعتبارات أمنية
في هذا السياق، يُمكن القول إن غياب الدور الأوروبي النشط والمباشر في محاولة حل الأزمة السودانية، بالتوازي مع تصاعد حدة التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فضلاً عن الصين؛ هو ما يدفع ألمانيا إلى محاولة الانخراط في جهود تسوية هذه الأزمة، من منظور “المخاوف الأمنية”.
إذ تأتي الأزمة السودانية، في رؤية ألمانيا، لتفرض تداعيات سلبية على أوروبا، خاصة تلك المتعلقة بتزايد احتمالات الهجرة واللجوء من السودان إلى أوروبا، بما يمكن أن يزيد الأمور تعقيداً، لا سيما في ظل احتمال اتساع نطاق الصراع السوداني وامتداده إلى المحيط الإقليمي في شرق أفريقيا، إلى جانب احتمال ظهور جماعات مسلحة تمارس العنف والإرهاب تستغل حالة الفوضى، لتهديد المصالح الأوروبية والألمانية في المنطقة.