تثير قضية انتقال عدد من الشباب اللبناني إلى العراق للانضمام إلى تنظيم “داعش”، مخاوف تتعلق بقدرة التنظيم على جذب الشباب، بما قد يؤثر على محاولة مواجهته خلال الفترة المقبلة، اعتماداً على استقبال عناصر جديدة لتعويض عناصره التي تسقط في المواجهات مع قوات الجيش العراقي، في ظل نشاط عملياتي بالعراق وسوريا، والأزمات المركبة التي تعاني منها لبنان وتحديداً على المستوى الاقتصادي المتدهور، إضافةً إلى استمرار الاضطرابات الأمنية في سوريا بما يجعلها بيئة مناسبة لنقل العناصر إليها عبر الحدود مع لبنان التي تسيطر عليها عصابات التهريب.
ويعكس انتقال هؤلاء الشباب إلى العراق عدداً من الدلالات، من ناحية أن التنظيم لا يزال جاذباً في حدود معينة، إضافة إلى قدرته التمويلية على تحمل تكاليف نقل هذه العناصر، مع الإشارة إلى ترجيح وجود خلايا للتنظيم في لبنان، وأولوية القتال في نطاق القيادة المركزية بـ”العراق وسوريا” على تشكيل خلايا في دول غير مستقرة، كما أن التحرك الأمني اللبناني يتسم بقدر من البطء في التفاعل مع هذه القضية، وأخيراً فإنه يمكن تكرار انتقال الشباب من دول المنطقة العربية للانضمام إلى “داعش” خلال الفترة المقبلة، بما يجعل من لبنان محطة محتملة حال عدم التحرك الأمني الفاعل لوقف موجات السفر للخارج والانضمام لـ”داعش”.
أثار مقتل عددٍ من الشباب اللبنانيين في منطقة العظيم بمحافظة ديالى، خلال العمليات العسكرية للجيش العراقي لملاحقة عناصر تنظيم “داعش”، في أواخر شهر يناير الماضي، ملف انتقال الشباب من البلدان العربية إلى مناطق الصراعات المسلحة مجدداً، بعدما تراجع هذا الملف بعد هزائم تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وطرده من المناطق التي كان يسيطر عليها خلال أعوام 2017 و2019. ولكن يعكس انتقال عدد من الشباب من لبنان إلى العراق أبعاداً ودلالات عديدة.
أبعاد مفتاحية
لم يكن انضمام شباب لبناني إلى تنظيم “داعش” مسألة جديدة أو طارئة، إذ جاء اللبنانيون في المرتبة الثامنة من حيث عدد المقاتلين في صفوف تنظيم “داعش” بحلول عام 2015، أي خلال العام الأول منذ إعلان التنظيم “الخلافة” المزعومة. ويبلغ العدد المقدر حينها بنحو 900 شاب لبناني، وفقاً لتقديرات غربية. وبتحليل الروايات الرسمية العراقية واللبنانية وأسر هؤلاء الشباب، يمكن الوقوف على عدد من الأبعاد الرئيسية، كالتالي:
1- سفر الشباب على فترات زمنية: تعكس الروايات المختلفة، أنّ الشبان الذين سافروا للانضمام إلى “داعش”، خرجوا في مجموعات وعلى فترات زمنية، وهذا يتضح من حديث والدة شاب يدعى “عمر سيف”، التي أشارت إلى سفره في أواخر العام الماضي. وفي مطلع شهر يناير الماضي، نشرت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن اختفاء عدد من الشبان من طرابلس، ولكن سبق ذلك الحديث عن انتقال شبان للانضمام إلى “داعش” منذ صيف عام 2021، وفقاً لتقارير إعلامية محلية. وهنا، نحن لسنا أمام حركة انتقال غير عشوائية، وإنما مخططة ومنظمة لتسهيل خروج هؤلاء الشبان من لبنان.
2- نمط متقارب للانتقال إلى الخارج: تُشير روايات الأهالي التي نُشرت في وسائل إعلام محلية، إلى وجود نمط متقارب في عملية انتقال الشباب إلى الخارج، إذ اتجهت أغلب الروايات إلى أن الشباب اختفوا فجأة دون إبلاغ أسرهم بالسفر للخارج، مما دفع بعضهم إلى إبلاغ الجهات الأمنية عن الاختفاء، وبعض هذه الأسر لم تكن تعلم بمكان تواجد أبنائهم إلا من خلال نشر صورهم من قبل الجيش العراقي، كما هو الحال مع شاب يدعى “زكريا العدل”، وهذا يعكس رغبة هؤلاء الشباب في الحفاظ على سرية التحركات.
3- عدد غير محدد للشباب: يبدو أن عدد الشباب الذي انضم لـ”داعش” غير محدد تماماً، فبينما أكد وزير الداخلية اللبناني بسام المولوي، في 13 يناير 2022، صحة المعلومات المتداولة، بشأن انتقال لبنانيين وعددهم 37 شاباً إلى الخارج للانضمام لصفوف تنظيم “داعش”، فإن تقارير إعلامية محلية ودولية أشارت إلى عدد أكبر يُقدر بنحو 48 شاباً، ويمكن تفسير هذا التضارب في الأعداد باستقبال الأجهزة الأمنية بلاغات بعض الأسر بشأن اختفاء أبنائهم فجأة، في حين لم تبلغ أسر أخرى عن هذا الاختفاء أو ربما كانت على علم بسفر أبنائهم للخارج دون معرفة انضمامهم لـ”داعش”، بما يشي باحتمالية أن يكون العدد أكبر من الأرقام المعلنة.
4- تعدد الدوافع الأساسية: يمكن تحديد دافعين أساسيين لانضمام هؤلاء الشباب لـ”داعش”، أولاً- الحاجة إلى المال: تعددت روايات الأهالي بشأن الحالة المادية الصعبة التي كان يمر بها أبناؤهم، وبعضهم كان مقبلاً على الزواج، إذ قال شقيق شاب يدعى زكريا العدل: “عندما اختفى، اعتقدنا أنه يخطط للتوجه إلى السويد مثلما فعل المئات من أهالي المنطقة في الأشهر الأخيرة بعدما أضنتهم ظروفهم المعيشية الصعبة”، ثانياً- الهروب من الملاحقات الأمنية: ثمة روايات لبعض الأهالي تشير إلى استقبال بعض هؤلاء الشباب اتصالات هاتفية تحذرهم من اعتقالهم، خاصة وأن بعضهم سبق اعتقاله.
5- قدوم الشباب من طرابلس: يقطن أغلب هؤلاء الشباب المبلغ عن مقتلهم ضمن صفوف “داعش” أو الآخرون الذين سافروا وانقطعت أخبارهم عن أسرهم، في مدينة طرابلس، ذات الأغلبية السنية في شمال لبنان، في حين لم يبلغ عن حالات مماثلة في مناطق سنية أخرى، من دون استبعاد انضمام شباب من مناطق أخرى لـ”داعش”.
سياقات حاكمة
وبالنظر إلى عملية الانتقال بأعداد ليست قليلة من لبنان إلى العراق للانضمام إلى “داعش”، يمكن الوقوف على بعض السياقات المهمة، كالتالي:
1- أزمات مركبة في لبنان: تعيش لبنان على وقع أزمات مركبة، ولكن الأبرز ما يتصل بعراقيل تشكيل الحكومة، وما تبع ذلك من تعطيل انعقاد جلساتها في ظل الخلافات بين القوى السياسية المشاركة في الحكومة، وانعكاسات تلك الأزمات على الوضع الاقتصادي في لبنان، وتسجيل أكبر تراجع لليرة اللبنانية أواخر العام الماضي، إضافة إلى التوترات مع دول الخليج بعد تصريحات وزير الإعلام السابق جورج قرداحي. وتُلقي هذه الأزمات بظلالها على الأوضاع المعيشية، إذ زادت معدلات الفقر إلى 82% خلال عام 2021، وفقاً للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا”. وبالحديث عن انعكاسات الوضع المضطرب في لبنان على التحديات الأمنية، فإن جهود عمليات ضبط الحدود مع سوريا تواجه أزمة، في ظل نشاط ملحوظ لعصابات التهريب على الحدود بين البلدين، وكان هذا أحد التحديات الأمنية البارزة بين الدولتين خلال عام 2021.
2- استمرار الاضطرابات الأمنية في سوريا: لا تزال سوريا تواجه التحديات ذاتها على مدار ما يزيد على 10 سنوات، ولكن التحدي الأمني الأهم عند النظر إلى قضية انتقال الشباب من لبنان إلى العراق، هو أن الجيش السوري لم يتمكن من بسط السيطرة على كامل الأراضي السورية رغم سيطرته على ما يزيد على 63% من إجمالي مساحة سوريا، ولكن يبرز في سياق التفاهمات ورسم خطوط التماس بين قوات الجيش السوري والمجموعات المسلحة الأخرى، وجود مناطق رخوة أمنية، لا تخضع لسيطرة محكمة، وهي ما توفر بيئة مناسبة لتنظيم “داعش”، وتحديداً في منطقة البادية السورية، وهي تلك المنطقة التي تشير بعض التقارير الإعلامية إلى أنها كانت نقطة تجمع للشباب اللبناني، تمهيداً لنقلهم إلى العراق، بما يشي بأن سوريا يمكن أن تكون محطة مناسبة لـ”داعش”.
3- نشاط عملياتي لـ”داعش” في العراق: يأتي الحديث عن انتقال شباب من لبنان إلى العراق، على وقع نشاط عملياتي لتنظيم “داعش”، وتحديداً باتجاه مثلث (كركوك، صلاح الدين، ديالى)، إذ كان هذا النطاق الجغرافي الأكثر استهدافاً في عمليات التنظيم بمعدل 665 من أصل 995 عملية في الفترة من يناير إلى أكتوبر عام 2021، وما تبع ذلك من عمليات عسكرية عراقية امتدت منذ نوفمبر الماضي على أكثر من اتجاه شمال وغرب العراق خلال الشهرين الماضيين، ويمكن الإشارة إلى اتجاه تنظيم “داعش” إلى مواجهة عمليات الجيش العراقي وتحديداً على مستوى محافظة ديالى.
دلالات مهمة
وفي ضوء أبعاد انضمام شباب من لبنان إلى “داعش” والسياقات المشار إليها، يمكن استخلاص بعض الدلالات، على النحو التالي:
1- استمرار جاذبية تنظيم “داعش”: رغم الهزائم المتلاحقة التي تعرّض لها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وخسارة المساحات التي كانت تحت سيطرته خلال الفترة من 2017 و2019، فإن انتقال عناصر جديدة من دول المنطقة العربية يعكس أن التنظيم لا يزال جاذباً على مستويات معينة، ولكن من غير المتوقع تكرار نفس معدلات الانتقال إلى العراق وسوريا خلال الفترة المقبلة، في ظل جهود التحالف الدولي لمواجهة “داعش” لوقف عمليات انتقال الشباب إلى العراق وسوريا عقب إعلان “الخلافة” المزعومة في 2014، بالتنسيق مع دول المنطقة، وهنا فإن التنظيم ربما استعاد جزءاً من قدرته على الاستقطاب.
2- وجود خلايا للتنظيم داخل لبنان: وفقاً للخبرات السابقة في عمليات انتقال الشباب إلى مناطق الصراعات، فإن انضمام شباب من لبنان إلى “داعش” والانتقال إلى العراق، يشي بوجود خلايا للتنظيم في الداخل اللبناني، ليس فقط للقيام بالتجنيد واستقطاب الشباب، ولكن بشكل خاص على مستوى تنسيق السفر إلى الخارج، خاصة وأن عمليات السفر جاءت عبر فترات زمنية وضمن مجموعات، مع الأخذ في الاعتبار أهمية التنسيق على مستوى عصابات التهريب بين لبنان وسوريا، في ظل التقارير الإعلامية التي تشير إلى انتقال بعضهم إلى سوريا، كمسار محتمل للانتقال إلى العراق.
3- توافر قدرات “داعش” المالية: تعكس أعداد الشباب المعلنة –بغضّ النظر عن العدد الفعلي- قدرة تنظيم “داعش” التمويلية التي تمكنه من دفع أموال رحلة السفر لهؤلاء الشباب، إذ إن أغلبهم قد لا يتمكن من تحمل تكاليف هذه الرحلة، وتحديداً على مستوى عصابات التهريب على الحدود بين الدول، إضافة إلى قدرة التنظيم على توفير مبالغ مالية لهؤلاء الشباب شهرياً جراء المشاركة في القتال تحت رايته باعتبارها أحد عوامل الجذب للشباب، في ظل ما يتردد في تقارير إعلامية بأن الإغراءات وصلت إلى راتب شهري يصل إلى 2000 دولار.
4- أولوية المركز في العراق وسوريا عن تشكيل الخلايا: يُشير انتقال الشباب من لبنان إلى العراق خلال الأشهر القليلة الماضية، إلى ترتيب أولويات التنظيم خلال الفترة الحالية، إذ يأتي دعم العمليات في العراق وسوريا على تشكيل خلايا في الدول التي تشهد حالات من عدم الاستقرار، بما يعني رغبة التنظيم في دعم جهوده في تثبيت الوضع العملياتي وزيادة نفوذه خلال الفترة المقبلة في النطاق الجغرافي المركزي للتنظيم بالعراق ثم سوريا.
5- استجابة أمنية لبنانية بطيئة: في ضوء التعامل اللبناني في القضية، يمكن وصف الاستجابة الأمنية بـ”البطيئة”، إذ إن الحديث عن انتقال شباب إلى العراق يتردد منذ صيف العام الماضي، ويتجدد الحديث بين حين وآخر من دون اتخاذ إجراءات للحيلولة دون وقف هذه الموجات من السفر، وجاء التحرك الرسمي لبحث هذه المسألة عقب مقتل نحو 6 شبان أواخر يناير الماضي، مع زيارة مرتقبة لوزير الداخلية اللبناني بسام مولوي إلى بغداد للتباحث حول الإرهابيين اللبنانيين الذين تم استهدافهم من قبل الطيران العراقي، وفقاً لما أعلنه مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي.
6- تكرار عملية الانتقال من دول أخرى: في ضوء حالة الشباب اللبناني، ربما تتكرر عملية انتقال شباب من دول عربية أخرى إلى العراق أو سوريا للانضمام لـ”داعش”، ولكن ليس بنفس حالة السيولة التي كانت عليها الأوضاع خلال عامي 2014 و2015، من دون الجزم بعمليات انتقال مماثلة لم يتم رصدها من دول المنطقة.
جغرافيا متحركة
وأخيراً فإن انتقال شبان من لبنان إلى العراق للانضمام لتنظيم “داعش” يعكس تحركات التنظيم لتوسيع نفوذه وزيادة العمليات العسكرية في نطاق القيادة المركزية بالعراق وسوريا، في ظل عدم قدرة الأجهزة الأمنية اللبنانية حتى الآن على السيطرة لمنع موجات السفر للخارج والانخراط في أعمال إرهابية، وعدم التحرك السريع على هذا المستوى، ومن غير المستبعد أن تتحول لبنان خلال الفترة المقبلة إلى محطة للشبان من دول عربية أخرى الراغبين في الانضمام إلى “داعش”، تمهيداً لنقلهم عبر الحدود إلى سوريا، ومن ثم نقلهم أو بعضهم إلى العراق.