أصدرت مجموعة “نادي باريس للدول الدائنة” تقريراً تضمن قراراً في 18 يونيو 2022، بتعليق الخطوات التي بدأت العام الماضي والتي دخل بموجبها السودان مبادرة “تخفيف أعباء البلدان الفقيرة المثقلة بالديون” (هيبيك) في مايو 2021، ومن ثم تعليق قرار إعفاء ديون السودان المقدرة بنحو 64 مليار دولار؛ وذلك بسبب الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021، وأعلنت المجموعة أنها ستواصل التنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية حتى التأكد من عودة السودان إلى المسار الانتقالي المدني الذي حصل بموجبه على تلك الإعفاءات.
عوامل دافعة
يمكن تفسير القرار الذي اتخذته الدول الأعضاء في مجموعة “نادي باريس” بالإجماع، بشأن تعليق القرار الخاص بإعفاء السودان من ديونه الخارجية، من خلال عدد من العوامل التي دفعتهم إلى ذلك القرار، ومن أبرزها ما يلي:
1- استمرار الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية: يتمثل السبب الرئيسي وراء قرار تعليق استفادة السودان من مبادرة “هيبك” في انقلاب الجيش السوداني والإطاحة بالحكومة الانتقالية السابقة برئاسة رئيس الوزراء المستقيل “عبدالله حمدوك”، وتعثر جهود التسوية السياسية لهذه الأزمة حتى الآن، في ظل رفض المكون العسكري تسليم السلطة للمدنيين، وبالتالي تم اتخاذ القرار بتعليق استفادة السودان من مبادرة “هيبك” والتي دخلها السودان بناء على مخرجات مؤتمر باريس في مايو 2021، والتي تضمنت إعلان الدول الدائنة المشارِكة في هذا المؤتمر، التزامها بإعفاء الحصص الأكبر من الديون الخارجية على السودان، وتخصيص استثمارات لإقامة مشروعات اقتصادية وتنموية داخل السودان.
2- التماشي مع العقوبات الأمريكية والأوروبية: جاء قرار تعليق استفادة السودان من قرارات إعفاء السودان من ديونه الخارجية، تماشياً مع التوجهات الأمريكية والأوروبية إزاء الأزمة السياسية الراهنة في السودان، حيث سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعليق 700 مليون دولار من مساعداتها الاقتصادية التي كانت مقررة للخرطوم، في أعقاب الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، ولوحت بفرض عقوبات فردية على قادة الجيش المتورطين في عرقلة تسليم السلطة للمدنيين، كما أوصت الشركات الأمريكية بعدم التعامل مع الشركات التابعة للجيش السوداني، وكذلك فعلت الدول الأوروبية التي قررت تعليق مساعداتها الاقتصادية والتنموية للخرطوم، كما أعلنت المؤسسات الدولية المانحة تعليق تنفيذ تعهداتها المالية للخرطوم بعد استقالة رئيس الحكومة السابق “عبدالله حمدوك”.
3- عدم الاستجابة للمطالب الغربية بتسليم السلطة لحكومة مدنية: تم اتخاذ هذا القرار أيضاً بسبب عدم استجابة المكون العسكري للمطالب التي فرضتها عليه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، والمتمثلة في تسليم السلطة للقوى السياسية المدنية، ووقف استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين، والإفراج عن باقي المعتقلين السياسيين. فحتى الوقت الحالي لم يقم الفريق “عبدالفتاح البرهان” بالوفاء بتعهداته الخاصة بإجراءات بناء الثقة مع المكون المدني السوداني، فيما عدا إلغاء حالة الطوارئ. ولا تزال السلطات الأمنية تستخدم العنف المفرط ضد المتظاهرين لتفريق التظاهرات والاحتجاجات الشعبية المناهضة للانقلاب العسكري على السلطة.
وبدلاً من إعادة الشراكة مع القوى السياسية، لجأ الجيش إلى الاستعانة ببعض من قيادات النظام السابق من حزب المؤتمر الوطني المنحل (الحاكم سابقاً) والإسلاميين (التيار الإسلامي العريض) ومجموعة التوافق المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، للحصول على شرعية لقراراته وإجراءاته التي اتخذها في فترة ما بعد الانقلاب العسكري على السلطة، وهو ما زاد من حدة الأزمة السياسية، وزاد أيضاً من حدة القلق الأمريكي والأوروبي بشأن احتمالات عودة الإسلاميين للسلطة مرة أخرى، ولعل ذلك ما يفسر إعلان “فولكر بيريتس” رئيس بعثة “يونيتامس” عدم إشراك الإسلاميين في جولات الحوار الوطني.
دلالات عاكسة
يحمل قرار مجموعة نادي باريس المشار إليه سابقاً، مجموعة من الدلالات السياسية والاقتصادية الهامة، ومن أهمها ما يلي:
1- العودة إلى العزلة الدولية: يعكس قرار مجموعة دول نادي باريس عودة السودان مرة أخرى إلى حالة من العزلة الدولية، وذلك بعد أن نجحت الحكومة الانتقالية قبل الإطاحة بها في كسر هذه العزلة وإعادة إدماج السودان في المجتمع الدولي، إلا أن قيام الجيش بفض اتفاق الشراكة مع القوى السياسية والمدنية، وإصراره على البقاء على رأس السلطة الانتقالية الحالية؛ أدى إلى إعادة البلاد إلى عزلتها الدولية مرة أخرى، في ظل الإحجام المتنامي من قبل الدول الغربية عن تقديم يد العون الاقتصادي للسلطات الانتقالية الحالية، واشتراط تقديمها بتحقيق تقدم إيجابي فيما يتعلق بتسليم المكون العسكري السلطة للقوى السياسية والمدنية.
2- استمرار التردي الاقتصادي السوداني: وفي ضوء ما سبق فإن هذه القرارات من شأنها زيادة حدة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بالأساس، وهو ما يعني بالتبعية استمرار حالة عدم الاستقرار الاقتصادي ومن ثم استمرار تردي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للشعب السوداني، ومن المؤشرات الدالة على ذلك استمرار تدهور قيمة العملة الوطنية (الجنيه السوداني) أمام باقي العملات الأجنبية، حيث وصل سعر صرف الدولار إلى 567 جنيهاً في السوق السوداء، وترتب على ذلك انخفاض قيمة الناتج المحلي الإجمالي إلى 13 مليار دولار فقط، بعدما كان 108 مليارات دولار في فبراير 2021، كما تراجع متوسط دخل الفرد إلى 314 دولاراً فقط، بعدما كان 2500 دولار.
هذا إلى جانب ارتفاع الدين الخارجي إلى حوالي (24.6 تريليون جنيه بعدما كان 3 تريليونات جنيه؛ أي ما يعادل 400% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022). ويتوقع خبراء الاقتصاد أن تزداد ديون السودان بوتيرة كبيرة مع زيادة أسعار الفائدة وانفلات الأسعار وزيادة في التضخم، وذلك بسبب غياب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي من شأنها مساعدة البلاد على النهوض اقتصادياً عبر إقامة مشروعات تنموية توفر فرصاً للعمل، خاصة وأن البلاد لا تملك الموارد المالية الكافية للخروج من هذه الأزمة الحالية، الأمر الذي من شأنه زيادة التحديات التي يواجهها الجيش السوداني الذي أصبح يدير شؤون البلاد على كافة المستويات منفرداً.
3- طلب الدعم الإماراتي والخليجي: جاء القرار المشار إليه ليعكس حالة العجز الواضحة التي أصبحت عليها مؤسسات الدولة السودانية في مرحلة ما بعد 25 أكتوبر، حيث فقدت الدولة الدعم السياسي والاقتصادي الدولي لها بسبب انقلاب الجيش على السلطة الانتقالية. وفي ظل عدم قدرة الدولة على استغلال مواردها الطبيعية واعتمادها كليةً على الدعم الخارجي لها، أصبحت عاجزة عن حل مشكلاتها الاقتصادية، وهو ما دفع وزير المالية “جبريل إبراهيم” للإعلان عن استغاثة البلاد بالصناديق المالية العربية لإنعاش اقتصادها المتهالك، وذلك بعد أشهر من تعليق المؤسسات الدولية تعاملها مع الخرطوم.
وفي هذا الإطار، جاء التوقيع على مذكرة تفاهم مع دولة الإمارات بشأن مشروع زراعي ضخم يربطه طريق مرور سريع بطول 450 كم من منطقة “مشروع أبو حمد الزراعي” بولاية “نهر النيل” إلى الميناء الجديد بتمويل من “صندوق أبو ظبي” لمدة 25 عاماً، وهذا الميناء الجديد سيتم بناؤه على ساحل البحر الأحمر شمال مدينة “بورتسودان” بتمويل من شركة “أبو ظبي القابضة” ضمن مشروعات زراعية واستثمارية تبلغ تكلفتها 6 مليارات دولار بالشراكة مع “مجموعة دال”، وكذلك التنسيق مع صندوقي الاستثمار في كل من السعودية والكويت من أجل الاستثمار في السودان.
4- زيادة الديون الخارجية للسودان: في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية الحالية بالسودان بسبب استمرار الأزمة السياسية الممتدة منذ شهر أكتوبر الماضي وحتى الآن، ومع قرار مجموعة نادي باريس بتعليق قرار إعفاء السودان من ديونه الخارجية، أضف إلى ذلك القرار الأمريكي الأخير برفع سعر الفائدة؛ فمن المتوقع أن تزداد الديون الخارجية السودانية بشكل لا تستطيع الخرطوم سدادها، إلا بالاستجابة للمطالب والشروط الأمريكية والغربية لإنقاذها من أزماتها الداخلية.
5- فقدان الشرعية الدولية للنظام الانتقالي: يمثل القرار الخاص بمجموعة نادي باريس رسالة إلى المكون العسكري بأنه أصبح فاقداً للدعم والشرعية الدولية التي تمكنه من إدارة شؤون البلاد سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وأنه بدون تسليم السلطة للقوى السياسية فلن تستطيع البلاد الخروج من أزماتها السياسية والاقتصادية الحالية، وهو ما يشير من ناحية أخرى إلى التبعية السياسية والاقتصادية التي أصبح يتسم بها السودان في الوقت الراهن للقوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤكد على ذلك الأمر الرسائل الأمريكية الموجهة إلى الجيش السوداني بأنه أصبح محاصراً ولن يستطيع البقاء في السلطة إلا إذا استجاب للمطالب الأمريكية، وتحديداً فيما يتعلق بإِشراك المكون المدني في السلطة الانتقالية.
ضغوط مضادة
خلاصة القول، يُشير قرار نادي باريس للدول الدائنة بتعليق قرار إعفاء السودان من ديونه الخارجية، إلى استخدام ورقة الديون الخارجية كورقة ضغط ضد السلطات الانتقالية السودانية الحالية، وبمعنى أدق المكون العسكري، وذلك لإجباره على الاستجابة للمطالب الخاصة بتسليم السلطة للقوى السياسية والمدنية، ومن ثم حلحلة الأزمة السياسية الخاصة بتقاسم السلطة، وفي حالة عدم الاستجابة لذلك فسوف تزداد المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وفي ضوء ما سبق، فإن المعطيات الراهنة ترجح أن تشهد الفترة القادمة حصاراً أمريكياً غربياً ضد السودان حتى تتم الاستجابة للمطالب الخاصة بتسليم السلطة للقوى السياسية، غير أن ذلك الحصار قد يدفع السودان للجوء إلى روسيا والصين كقوتين دوليتين منافستين للدور الأمريكي في السودان، وذلك لمواجهة هذه الضغوط الأمريكية المتزايدة.