تعكس عملية ملاحقة واستهداف القيادي في تنظيم “داعش” بمحافظة درعا، ويدعى أبو سالم العراقي، توجهاً جديداً لدى الجيش السوري، ورغبة من جانبه في إحكام السيطرة على المنطقة الجنوبية، لمواجهة حالة الانفلات الأمني في المحافظة، التي أخذت في التصاعد بداية من شهر مايو الماضي، عقب فترة هدوء منذ سبتمبر 2021، بعد اتفاق تسوية برعاية روسية يسمح بدخول قوات الجيش السوري إلى المحافظة.
تمكنت قوات الجيش السوري من تحييد قيادي عسكري في تنظيم “داعش”، يدعى أبو سالم العراقي، في بلدة عدوان بريف محافظة درعا، جنوبي سوريا، في 10 أغسطس الجاري. ووفقاً لوكالة الأنباء السورية الرسمية، فإن العراقي- الذي تشير تقديرات سورية إلى أنه كان مسئولاً عن عمليات التنظيم في محافظة درعا- احتجز رهينة خلال عملية ملاحقته، وأُصيب بعدة طلقات بعد محاصرته في البلدة، قبل أن يُفجر نفسه بحزام ناسف كان يرتديه. وكشفت تقارير محلية سورية أن العراقي تمكن من الاختباء في محافظة درعا منذ عام 2018، وأشرف خلال تلك الفترة على نشاط “داعش” في جنوب سوريا.
محددات أساسية
دخلت قوات الجيش السوري درعا العام الماضي عقب تسوية برعاية روسية بموجبها تتمركز القوات السورية في تسع نقاط رئيسية، بعد تصعيد عسكري بين مليشيات مسلحة تُصنف “معارضة”، وقوات الجيش السوري، كمرحلة ثانية لتسوية الأوضاع في المحافظة، في ظل اتفاق تسوية يسمح بوجود المليشيات المعارضة برعاية روسية عام 2018. ويمكن الوقوف على سياقات الوضع في محافظة درعا كالتالي:
1- طبيعة نشاط تنظيم “داعش”: اتسم نشاط تنظيم “داعش” في محافظة درعا بالمحدودية مقارنة بنشاطه في منطقة البادية السورية أو مناطق سيطرة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال شرقي البلاد، كما أن معدل عمليات التنظيم في المحافظة غير ثابت، ونفذ التنظيم عمليات خلال أشهر مارس وأبريل ومايو ونوفمبر 2021، وفقاً لمراجعة بيانات وكالة “أعماق” الموالية للتنظيم، نحو 16 عملية تقريباً، جميعها نفذت لاغتيال أو محاولات اغتيال ضباط وعناصر من الجيش السوري، وجميعها عمليات بسيطة باستخدام الأسلحة البسيطة، باستثناء عملية واحدة في شهر نوفمبر باستخدام عبوة ناسفة.
وبالنظر إلى عمليات التنظيم في المحافظة خلال عام 2022، فقد نفذ التنظيم نحو 4 عمليات، بداية من شهر مايو الماضي وحتى 15 أغسطس الجاري، بمعدل عملية واحدة لكل شهر، واستمرت على النهج العملياتي نفسه باغتيال ضباط أو مدنيين زعم التنظيم تعاونهم مع الجيش السوري.
2- انفلات أمني متجدد في درعا: تنشط في محافظة درعا مليشيات مسلحة تُصنف بـ”المعارضة”، ربما لجأ بعض من عناصرها إلى تكثيف استهداف قوات الجيش السوري، إضافة إلى شخصيات كانت فاعلة في اتفاق التسوية في سبتمبر 2021، بخلاف عمليات تنظيم “داعش”، بداية من شهر مايو الماضي، في حين لم تُعلن أي جهة مسئوليتها عن الاغتيالات التي شهدتها المحافظة، بما أحدث حالة من الانفلات الأمني التي ظهرت لأول مرة منذ اتفاق التسوية. ووفقاً لتقارير محلية سورية، فإن ما يُعرف بـ”قسم الجنايات والجرائم” في “مكتب توثيق الشهداء”، سجل 49 عملية ومحاولة اغتيال، خلال شهر يونيو 2022، أسفرت عن مقتل 42 شخصاً، أغلبهم من المدنيين والأطفال، منهم عناصر سابقة في مليشيات مسلحة، شاركت في عمليات التسوية مع النظام السوري.
ولكن اللافت في الانفلات الأمني في محافظة درعا منذ شهر مايو الماضي، أن التصعيد العملياتي ضد الجيش السوري والعناصر التي شاركت في عملية التسوية، جاء في نفس توقيت استعادة مجموعات “داعش” نشاطها في المحافظة خلال الشهر نفسه.
3- أزمة ضبط الحدود مع الأردن: بخلاف الانفلات الأمني ونشاط “داعش”، ثمة توترات ملحوظة منذ عام 2021، على الحدود بين سوريا والأردن، وتحديداً في محافظة درعا، التي تقع على الحدود بين البلدين، بعد تصريحات رسمية أردنية بضرورة ضبط الحدود، في ضوء نشاط تجارة المخدرات من سوريا باتجاه الداخل الأردني، عقب ضبط كميات من المخدرات المهربة، خاصة مع تمركزات لمليشيات شيعية موالية لإيران في محافظة درعا، وعدة نقاط حدودية مع الأردن.
وتصاعدت التحذيرات الأردنية من تزايد النفوذ وتمركزات المليشيات الموالية لإيران على الحدود، وقال الملك عبدالله الثاني، خلال شهر يونيو الماضي، إن بلاده تواجه المزيد من المشاكل مع المليشيات على حدودها مع سوريا، وتتمثل بتهريب المخدرات والأسلحة وعودة تنظيم “داعش”، وربط حالة الانفلات بتراجع الدور الروسي في سوريا، في أعقاب الانشغال بالحرب في أوكرانيا.
أهداف مختلفة
في ضوء سياقات الوضع الميداني في درعا خلال الأشهر الأربعة الماضية، يمكن القول إن الجيش السوري سعى عبر عملية ملاحقة واستهداف القيادي في تنظيم “داعش” إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تحجيم نفوذ ونشاط “داعش” بدرعا: تمثل ملاحقة العراقي عملية متقدمة للجيش السوري في محاولة لتحجيم نفوذ ونشاط تنظيم “داعش” في محافظة درعا، خاصة مع تفعيل التنظيم نشاطه مجدداً بعد تراجع ملحوظ على مدار خمسة أشهر، منذ ديسمبر 2021 وحتى أبريل 2022، إضافة إلى نشاط عملياتي لجهات غير معلومة، بداية من الفترة نفسها التي استعاد “داعش” فيها نشاطه في مايو الماضي، وهو ما يطرح احتمالين: أولهما، أن التنظيم هو الذي نفذ العمليات التي تصاعدت في مايو الماضي، ولكن لم يُعلن مسئوليته عن كل العمليات، وهو نهج ليس جديداً على التنظيم، إذ تشير بعض الدراسات الغربية إلى أن العمليات التي أعلن عنها “داعش” في منطقة البادية السورية، أقل من العمليات المبلغ عنها في المنطقة ذاتها والمرتبطة بالتنظيم، رغم أنها منطقة نفوذه منذ 2019.
وثانيهما، أن التنظيم تمكن من الاتفاق مع مليشيات مسلحة تمتلك أسلحة بسيطة في محافظة درعا، على التصعيد العملياتي ضد الجيش السوري، وعناصر سابقة في المعارضة، شاركت في اتفاق التسوية العام الماضي. وبغض النظر عن طبيعة العلاقات بين “داعش” وعناصر المليشيات في درعا، فإن استهداف العراقي يعكس رغبة في تحجيم “داعش” لمنعه من مواصلة ذلك.
2- تبني آليات جديدة في ملاحقة التنظيم: تعكس عملية ملاحقة العراقي نهجاً جديداً للجيش السوري، في إطار عملياته الأمنية لاستهداف تنظيم “داعش”، ليس فقط بتكثيف الوجود الأمني ونشر الوحدات العسكرية في تمركزات محددة، والدفع بالدوريات والآليات العسكرية، عقب اتفاق التسوية عام 2021، وإنما أيضاً بالاتجاه إلى تنفيذ عمليات نوعية لملاحقة قيادات التنظيم، في إطار جهد استخباراتي ومعلوماتي، لتحديد شبكات التنظيم في محافظة درعا، والقيادات الفاعلة والمؤثرة، وجمع المعلومات عن تحركاتها، بما يُسهل من عملية ملاحقتها والقبض عليها أو قتلها في مواجهات، مثلما حدث مع العراقي الذي فجر حزامه الناسف، عقب محاصرته.ويفتح استهداف العراقي الباب أمام اعتماد الجيش السوري على هذا النهج الجديد في ملاحقة قيادات “داعش” خلال الفترة المقبلة.
3- التنسيق مع أطراف محلية لاستهداف القيادات: بالنظر إلى العملية النوعية التي نفذتها قوات الجيش السوري لملاحقة العراقي، فإنها تشير إلى وجود قدرٍ من التنسيق مع أطراف محلية في درعا، كإحدى نتائج اتفاق التسوية، من خلال تعزيز الروابط مع المجتمع المحلي في المحافظة، كجزء من استعادة السيطرة والنفوذ، بعد أن كانت المحافظة شرارة انطلاق الاحتجاجات عام 2011، التي تحولت إلى حرب أهلية، وبالتالي فإن المحافظة كانت عصية على الاحتواء على مدار سنوات، قبل البدء في عمليات تسوية منذ عام 2018. وربما توصل الجيش السوري إلى تفاهمات مع أطراف قبلية كانت تدعم اتفاق التسوية، وبالتالي فإن عمليات استهداف تلك الأطراف من خلال الاغتيالات ربما كانت سبباً في زيادة التقارب بين الطرفين خلال الأشهر القليلة الماضية لوقف حالة الانفلات الأمني.
4- إحكام السيطرة جنوب سوريا بعد اتفاق التسوية: تواجه قوات الجيش السوري عدداً من التحديات الميدانية في إطار بسط السيطرة والتقدم باتجاه مناطق المليشيات المسلحة التي تُصنف بـ”المعارضة”، وفي أكثر من اتجاه، سواء شمالاً أو جنوباً، وبالتالي فإن ثمة رغبة من قبل الجيش في إحكام السيطرة على المناطق التي وصل بالفعل إليها، سواء من خلال الحسم العسكري، أو باتفاقات للتسوية مثل الوضع في محافظة درعا، ومن ثم فإن فرض السيطرة يمثل مهمة استراتيجية حيوية بالنسبة للجيش السوري، في إطار الرغبة في تحييد المليشيات المسلحة “المعارضة” التي ترفض اتفاق التسوية، والتي ربما تحاول استعادة نشاطها على وقع استعادة “داعش” نشاطه مجدداً في المحافظة، وربما وجدت أن ثمة فرصة مناسبة لتنفيذ عمليات ضد الجيش السوري، لناحية زيادة الانفلات الأمني الذي قد يؤدي إلى خلخلة في الترتيبات الأمنية.
5- تأمين الحدود مع الأردن عقب التراجع الروسي: في ضوء التخوفات الأردنية من التوترات والانفلات الأمني على الحدود مع الجنوب السوري، يمكن النظر إلى عملية استهداف العراقي في إطار رغبة في تأمين الحدود مع الأردن، خاصة مع التصريحات الأردنية التي تعبر عن القلق المتزايد من نشاط تنظيم “داعش”، إضافة إلى المليشيات الشيعية الموالية لإيران، وربط الجانب الأردني هذه المخاوف بتراجع الدور الروسي في سوريا بشكل عام، وفي الجنوب بشكل خاص، خاصة مع الحديث عن انسحاب قوات روسية من سوريا على وقع الحرب الأوكرانية. وهنا فإن النظام السوري يرغب في إظهار قدرته على ضبط الأوضاع الأمنية والحفاظ على المكتسبات الميدانية، رغم الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا.
تكثيف الجهود
وأخيراً، فإنه بغض النظر عن موقع العراقي في التسلسل القيادي لمجموعة “داعش” في محافظة درعا، إلا أنه يتوقع تأثر التنظيم نسبياً بمقتله على المدى القريب، في ظل محدودية نشاط مجموعة التنظيم في درعا، مقارنة بمجموعاته في مناطق شمال شرق، والبادية، ولكن عملية ملاحقته تستدعي مواصلة الجهد الاستخباراتي والمعلوماتي في إطار استهداف القيادات والعناصر الفاعلة في درعا، خاصة أن “داعش” يتمحور حول التنظيم وليس القيادات، وتشير الخبرة التاريخية إلى أن مقتل قيادات لا يؤثر بالضرورة في مسارات العنف والنشاط العملياتي.