شهدت المنصات الإعلامية لتنظيم “داعش” على العديد من التطبيقات التكنولوجية، منذ النصف الثاني من العام الجاري، تراجعاً شديداً في عددها توازى مع انخفاض عدد المنتجات الترويجية للتنظيم خلال العام الجاري إلى النصف مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وهو ما دفع التنظيم إلى الإعلان عن استراتيجية إعلامية جديدة في 25 نوفمبر الجاري، يحدد فيها أهدافه الأيديولوجية، مع البحث عن منصات إعلامية بديلة لنشر الإصدارات الخاصة به من أجل الترويج لأفكاره، على نحو يطرح تساؤلات حول دلالات وملامح هذه الاستراتيجية الإعلامية الجديدة.
أسباب التراجع
يمكن القول إن عام 2021 هو أكثر الأعوام السبعة التي شهدت تراجعاً ملحوظاً في الأداء الإعلامي لتنظيم “داعش”، على نحو يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- القبض على العديد من مسئولي الإعلام: تمكنت أجهزة الأمن العراقية، خلال العام الجاري، من القبض على العديد من المسئولين الإعلاميين بالتنظيم، وكان آخرهم المسئول الإعلامي لـ”داعش” في محافظة الأنبار في 20 أغسطس الماضي، على نحو أفقد التنظيم خبرة إعلامية وقلّص من قدرته على الترويج لأفكاره بشكل ملحوظ.
2- غلق قنوات التنظيم على “تليجرام”: قامت إدارة تطبيق “تليجرام”، خلال أكتوبر الفائت، بحذف مائة من القنوات المغلقة للتنظيم وحظر الآلاف من المشتركين على التطبيق المسجلين على تلك القنوات، وهى الخطوة الثانية التي تتخذها إدارة تطبيق “تليجرام” خلال النصف الثاني من العام الجاري، على نحو أسفر، وفقاً لبعض التقديرات، عن غلق ما يقرب من 7 آلاف قناة مغلقة للتنظيم، وحظر ما يقرب من 52 ألف من المشتركين والمتابعين لتلك القنوات التي كانت بمثابة إحدى الآليات الرئيسية التي يعتمد عليها التنظيم في الإعلان عن عملياته وأنشطته.
3- حظر العديد من التطبيقات بدول المنطقة: أقدمت العديد من دول المنطقة على حظر بعض التطبيقات التكنولوجية التي يتخذها “داعش” نافذة إعلامية للترويج لأفكاره، بالإضافة إلى سن العديد من التشريعات التي تُجرِّم استخدام التطبيقات التكنولوجية في نشر مواد إرهابية، وهو ما كان له دور في تقليص قدرة التنظيم على استقطاب مزيد من العناصر الإرهابية عبر مثل تلك الآليات.
4- التعاون بين الشركات وأجهزة الأمن: تعرَّضت الشركات المالكة للتطبيقات التكنولوجية، والتي يستخدمها تنظيم “داعش”، لضغوط قوية من قبل المجتمع الدولي، من أجل وقف نشاط التنظيمات الإرهابية ومنعها من استخدام هذه التطبيقات في الترويج لأفكارها. وقد نجحت الشرطة الأوروبية (يوروبول)، وفقاً لتقارير عديدة، في دفع العديد من تلك الشركات، ومنها الشركة المسئولة عن تطبيق “تليجرام”، إلى التعاون من أجل وقف نشاط تنظيم “داعش” على التطبيقات. واللافت في هذا السياق أيضاً أن الشرطة الأوروبية تعاونت، في بعض الأحيان، مع بعض الجهات مثل مكتب الادعاء العام البلجيكي، من أجل شن هجمات إليكترونية ساهمت في توجيه ضربة قوية للآلة الإعلامية لـ”داعش”، لاسيما وكالة “أعماق” للأنباء، على غرار ما حدث في النصف الثاني من نوفمبر 2019.
محددات أساسية
تركز الاستراتيجية الإعلامية الجديدة لتنظيم “داعش” على ستة محاور رئيسية يمكن تناولها على النحو التالي:
1- التركيز على مفهوم “العدو البعيد”: مع تراجع قدرة التنظيم على استقطاب العناصر الأجنبية، ولاسيما من الدول الأوروبية، منذ سقوط الباغوز في مارس 2019، بدأ “داعش” عبر استراتيجيته الإعلامية الجديدة في التركيز على إطلاق العديد من المنشورات والمنصات المترجمة والناطقة باللغة الإنجليزية وبعض اللغات الأوروبية الرئيسية، في محاولة من جانبه لاستقطاب عناصر أجنبية جديدة لصفوفه بهدف تنفيذ عمليات إرهابية بالداخل الأوروبي، وهو ما يمكن تفسيره في نطاق التحول التكتيكي في طبيعة المُستهدَف بالنسبة لـ”داعش”، والذي بدأ يقترب من المنطلقات والتكتيكات القديمة الخاصة بالجمع بين ما يسمى “العدو البعيد” و”العدو القريب”، وهى الاستراتيجية التي يطلق عليها التنظيم “استراتيجية أبو عمر البغدادي” زعيم “داعش” الأسبق الذي تولى القيادة قبل أبو بكر البغدادي.
2- تأسيس منصات إعلامية مؤقتة: بدأ التنظيم في شن ما يمكن تسميته بـ”الحروب الإعلامية الخاطفة”، عبر إنشاء منصات إعلامية مؤقتة للنشر السريع، والتي تظل قائمة لوقت محدد قبل تمكن الشركات المالكة للتطبيقات من حظرها، وهى الآلية نفسها المتبعة في تكتيكات التنظيم في العمليات الإرهابية خلال المرحلة الجارية، والتي يطلق عليها تكتيكات العمليات الإرهابية في مراحل عدم التمكين.
3- نشر محتوى بسيط وسريع: بتحليل مضمون الخطاب الإعلامي والمواد المنشورة لـ”داعش”، يتضح أنها تتسم بنشر محتويات بسيطة تتناول الأحداث الجارية مع التركيز والتوسع في نشر الصور والإنفوجراف بشكل واسع، وهى محاولة من جانب التنظيم لتوجيه رسائل سريعة ومباشرة وبسيطة، بهدف التغلب على تتبع الشركات المالكة للمنصات والتطبيقات التكنولوجية لتلك المواد، بالإضافة إلى مخاطبة الأعمار الصغيرة من الشباب وخاصة الأقل من 18 عام.
4- دعم العلاقة بين الكوادر والبيئة المحلية: تصاعدت حدة التوتر في العلاقة بين تنظيم “داعش” والعديد من القبائل والعشائر في بعض المناطق، وهو ما دفع التنظيم عبر استراتيجيته الإعلامية الجديدة إلى التركيز على مخاطبة البيئة المحلية وتعزيز العلاقة بين كوادره والقبائل والعشائر الموجودة فيها، مع الاهتمام بالأزمات المعيشية التي تعاني منها المناطق التي يتواجد فيها.
5- الترويج لمفهوم “الصبر والتحمل”: أبدى “داعش” اهتماماً ملحوظاً بنشر المواد الدينية، وبشكل خاص المرتبطة بمفهوم “الصبر والتحمل”، وذلك نتيجة الضغوط الأمنية التي يتعرض لها، وهو التكتيك المرتبط بالاستراتيجية العامة للتنظيم والمعروفة باستراتيجية “فترات عدم التمكين”، والتي أعلن عنها في مرحلة ما بعد سقوط الباغوز في مارس 2019.
6- محاولة إنشاء تطبيق خاص بالتنظيم: أشار “داعش” في استراتيجيته الإعلامية الجديدة إلى سعيه لإنشاء تطبيق تكنولوجي جديد خاص به يجعله غير منظور بالنسبة لأجهزة الأمن والاستخبارات المختلفة، ويكون مغلقاً على أعداد محددة من المشتركين، على نحو يوفر لهم حماية ويضع عقبات أمام عملية التعقب والاختراق.
تراجع مستمر
في النهاية، يشير إعلان “داعش” عن استراتيجية إعلامية جديدة إلى تصاعد حدة الضغوط التي يتعرض لها، بسبب تراجع قدرته على شن عمليات إرهابية نوعية، خاصة بعد الضربات الأمنية التي وجهتها له القوى المعنية بالحرب ضده. ويبدو أن هذا المسار سوف يستمر، حتى رغم محاولات التنظيم استغلال بعض التطورات الطارئة على الساحتين الإقليمية والدولية من أجل استعادة نفوذه وتعزيز قدرته على السيطرة على مساحات من الأرض لاسيما في دول الأزمات.